الأمن القومي من منظور عبد الناصر وزيف تبريرات أدعياء الناصرية اليوم
ابراهيم ياسين
في هذا الزمن العربي المليء بالصراعات والتناقضات، والذي يشهد هجمة غربية استعمارية تفتيتية، وإرهابية تكفيرية، جرت تغيّرات بارزة على مستوى العالم والمنطقة، كان أهمّها سقوط نظام سيطرة القطب الواحد لصالح نظام متعدّد الأقطاب، وبروز تكتلات دولية سياسية واقتصادية وعسكرية، قاسمها المشترك مواجهة السيطرة الأميركية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وبرزت تحوّلات إيجابية بعد تسليم الغرب وأميركا بحقوق إيران النووية عبر الاتفاق النووي وملحقاته ورفع العقوبات عن ايران والحظر عن أموالها المجمّدة في البنوك الغربية، ثم التكيّف الأميركي مع الحضور الروسي العسكري في سورية، والتسليم بالمعادلة التي فرضها في الحرب ضدّ قوى الإرهاب وداعميهم، والخطوط الحمراء التي فرضتها روسيا في سورية، إنطلاقاً من التوازن العسكري الذي فرضه الحضور العسكري الروسي النوعي إلى جانب الجيش العربي السوري.
في ظلّ هذه التحوّلات الإيجابية تمرّ الذكرى الثامنة والتسعين لولادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لتؤكد على صحة أفكاره ومواقفه الوطنية والقومية في مواجهة المشاريع والأحلاف الاستعمارية التي كانت أهدافها محصورة بحفظ أمن الكيان الصهيوني، وتأمين طرق إمداد الغرب بالنفط وثروات الأمة المنهوبة.
لقد كانت رؤية جمال عبد الناصر في لمّ الشمل العربي وتقليص الخلافات العربية على طريق التضامن العربي والعمل العربي المشترك، وصولاً لتحقيق أهداف الأمة العربية في التحرّر والعدالة والوحدة… وفي التصدّي لكيان العدو الصهيوني وفي رفض مشاريع السيطرة الإستعمارية الغربية.
كان جمال عبد الناصر ينظر إلى الأمن القومي المصري بأنه جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، وبدأت ملامح تلك النظرة تتوضح له في بداية انتصار ثورة تموز يوليو 1952، عندما كتب ناصر خواطره في كتابه «فلسفة الثورة»، حيث كتب عن دور مصر وأمنها القومي من خلال الدوائر الثلاث، العربية والأفريقية والإسلامية.
وتطوّرت هذه النظرة لتشمل بلدان العالم الثالث الموجودة في الدائرتين الأفريقية والإسلامية. هذا التطوّر ترجم ميدانياً من خلال دعمه لحركات التحرير الوطنية وللثورات التي قامت في هذه الدوائر، وكذلك في الوطن العربي، كاليمن الجنوبي وشماله، والجزائر، والمقاومة الفلسطينية، وكافة الحركات التقدّمية في الوطن العربي والعالم، معتبرا أنّ من يهدّد الأمن القومي العربي هو الصهيونية والاستعمار العالمي المباشر وغير المباشر.
وساند حركات التحرّر في أفريقيا وأميركا اللاتينية، مستنداً إلى نظرته للأمن القومي العربي من خلال شعاره الذي نادى به «نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا».
من هذا المنطلق جعل جمال عبد الناصر مصر مستقلة تماماً عن النفوذ الغربي، وأصبحت مصر قوة إقليمية في العالم يُحسب لها الحساب، واستوحت العديد من الثورات القومية التي قامت في الوطن العربي من أفكاره ونضالاته وتجاربه، وكانت إنجازاته القومية غير مسبوقة بالنسبة للزعماء العرب الآخرين، مما جعلت الزعماء العرب، وزعماء العالم الثالث يحرصون على إقامة علاقات جيدة مع مصر عبد الناصر من أجل كسب شعبية بين مواطني بلادهم، وقامت أنظمة حكم جديدة مؤيدة له في الجزائر والعراق وليبيا والسودان واليمن الشمالي وجنوبه، وفي الخليج العربي وبين الفلسطينيين.
هذا المفهوم للأمن القومي العربي الذي انتهجه الزعيم جمال عبد الناصر، والذي سعى إلى تحقيقه، يطرح نفسه اليوم بقوة في واقع الأمة العربية وقواها التقدّمية، لا سيما من يعتبرون أنفسهم جزءاً من المشروع الناصري والقومي العربي، فهل هذه القوى اليوم بمستوى هذا الموقف الريادي والمتقدّم الذي انتهجه الزعيم الخالد، وكيف يتبدّى اليوم موقف هذه القوى من الاختراقات الكبيرة التي يتعرّض لها الأمن القومي العربي من قبل الدول الاستعمارية وكيان العدوالصهيوني، وأدواتهم العربية والإقليمية؟
بالمفهوم الناصري الحقيقي يجب على أيّ ناصري أو قومي عربي في يومنا هذا أن يتصدّى بقوة وحزم وحتى الاستشهاد لما يتعرّض له الأمن القومي العربي من تهديدات واستباحات خطيرة، تجاوزت أو تكاد تكون بمستوى تلك التي كانت سائدة عشية وإثر انتصار ثورة تموز يوليو عام 1952.
فاليوم يدرك أيّ مراقب ومتابع أنّ التهديدات للأمن القومي العربي تتأتى من العوامل التالية:
العامل الأول: الوجود الاستعماري في الكثير من الدول العربية، إنْ كان على شكل قواعد عسكرية للقوات الأميركية، التي تتخذ لها قواعد دائمة في كلّ من قطر والبحرين والسعودية والأردن، وتتواجد اليوم بذريعة محاربة قوى الإرهاب التكفيري الممثلة بـ»داعش»، في العراق وسورية.
العامل الثاني: التفكك والفوضى والاضطرابات التي أصابت العديد من الدول العربية نتيجة انتشار قوى الإرهاب التي يجري تغذيتها أميركياً وصهيونياً ومن قبل الأنظمة الرجعية العربية الدائرة في فلك الاستعمار الغربي، وأدّت إلى ضرب مقوّمات الأمن القومي العربي، وجعل البلدان العربية مشرّعة أمام تغلغل قوى الاستعمار وأجهزة المخابرات الغربية والموساد الصهيوني، الذين يُمعنون في العبث بوحدة مجتمعاتنا العربية، وإثارة الفتن، وإدخالها في حروب عبثية تستنزف قواها وقدراتها، وتبعدها عن مواجهة أعدائها، لا سيما العدو الصهيوني والاستعمار الغربي، وتزيد في حالة التفتت والشرذمة وتقسيم الدول العربية إلى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية، على غرار تقسيم السودان بإقامة دولة الجنوب المدعومة صهيونياً وأميركياً وغربياً.
العامل الثالث: أدّى العاملان المذكوران آنفاً إلى تكريس علاقات بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني والتشجيع عليها، والتي تستند إلى اتفاقيات كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو، وهي اتفاقيات شرّعت وجود كيان العدو الصهيوني على أرض فلسطين، وانتقصت من سيادة واستقلال كلّ من مصر والأردن وربطتهم بالاستراتيجية الأميركية التي تخدم المشروع الصهيوني.
انطلاقاً من هذه العوامل، فإنه من المفروض على أيّ ناصري أو قومي عربي وتقدّمي التصدّي لهذه الأخطار التي تدمّر الأمن القومي العربي وتهدّد بالمزيد من التجزئة والانقسام، وذلك عبر الانخراط في المعركة ضدّ قوى الاستعمار وأدواتها التكفيرية الإرهابية، وضدّ الحكومات العربية الرجعية، وفي مقدّمها الحكومة السعودية، التي تشنّ الحرب على اليمن، وتقوم بتدميره لإخضاعه للهيمنة السعودية الأميركية، ومنعه من التحرّر وتحقيق استقلاله وتقرير مصيره بنفسه، فلا يمكن أن يكون الموقف في الحرص على الأمن القومي العربي معزولاً عن الموقف الحازم والواضح من هذه القوى الرجعية التي تتسبّب في إلحاق الأضرار الجسيمة بأمن الأمة العربية ووحدة أقطارها، وبقضاياها القومية، لا سيما قضية فلسطين، تماماً كما كان يفعل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي لم يتردّد في خوض المعركة ضدّ قوى الاستعمار، إنْ كان في مصر، أو من خلال دعم ونصرة حركات التحرّر والمقاومة العربية ضدّ الإستعمار، إنْ كان في الجزائر، أو في اليمن، أو ضد كيان العدو الصهيوني، ولم يتردّد أيضا في نصرة ثورة الشعب اليمني بقيادة عبد الله السلال، أو في اتخاذ الموقف الحازم من الرجعية العربية، لا سيما الحكومة السعودية، التي كانت وما زالت، حتى يومنا هذا تتآمر على كلّ حركات التحرّر العربية وعلى الأنظمة الوطنية، إنْ كان في سورية أو العراق أو اليمن أو في مصر عبد الناصر.
ولذلك فمن المستغرب، لا بل من المستهجن، أن نجد بعض من يعتبرون أنفسهم في الخندق القومي أو ممّن يعتبرون أنفسهم جزءاً من الخط الناصري والقومي العربي التقدّمي يتردّدون في اتخاذ الموقف الواضح والحازم وغير المساوم في مواجهة من يهدّدون الأمن القومي العربي، كما كان يفعل جمال عبد الناصر.
والأنكى، لا بل الأخطر أنّ بعض أدعياء الناصرية والقومية العربية، نجدهم إما انخرطوا إلى جانب الحكومة السعودية الرجعية في تغطية حربها الإجرامية ضدّ شعبهم في اليمن، كجماعة عبد الملك مخلافي وزير خارجية حكومة هادي، أو ممّن يسوقون المبرّرات لقيام السعودية بهذه الحرب وتغطيتها، أو يحاولون تصوير ما يجري من صراع، بين قوى المقاومة والتحرّر العربية، وبين قوى الاستعمار وأدواته في المنطقة، بأنه صراع مذهبي تارة، وصراع عربي ـ فارسي تارة ثانية، وهو أمر ينسجم مع المخطط الصهيوني الذي يسعى إلى تحويل الصراع من صراع عربي ـ صهيوني، إلى صراع عربي ـ فارسي. ولذلك وجدنا كيان العدو الصهيوني كيف سارع إلى الاستفادة من التوتير الذي افتعلته السعودية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتحقيق هذا الهدف، وتعزيز التعاون السعودي الصهيوني ضدّ إيران، وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين وسورية، والقوى التحرّرية في اليمن.