أيّ جديد على خط العلاقة بين واشنطن وبرلين؟
د. أسامة دنورة
شكل الكشف عن بعض عمليات التجسس الأميركية الأخيرة على ألمانيا أخباراً سيئة لواشنطن، فالفضائح الجديدة أعادت التذكير بقضية التجسس السابقة في صورة زادت من الحرج الأميركي، إذ اتضح أن العميل الذي جندته واشنطن سرب لها 218 وثيقة ألمانية سرية، وبعض تلك الوثائق يتضمن معلومات عن التحقيق الألماني في مزاعم إدوارد سنودن حول تنصّت الولايات المتحدة على الهاتف الخلوي للمستشارة ميركل، وبذلك تكون واشنطن نكأت الجرح الألماني قبل أن يبرأ، وزادت في الطنبور نغماً، على ما يقال.
قضايا التجسس الأميركية هذه واردة بين واشنطن وحلفائها، ولا تشكل بحدّ ذاتها مأزقاً استراتيجياً لعلاقات التحالف القوية بين البلدين، وإنْ يكن إخراجها إلى حيّز العلن معتبراً بلا شك من قبل برلين مؤشراً مقلقاً في دوائر صنع القرار الأميركي، كما أنّ ردّ الفعل الألماني كان مختلفاً هذه المرة، إذ استدعي السفير الأميركي من قبل وزير الخارجية الألماني شتاينماير لتسليمه رسالة احتجاج شديدة اللهجة، وهو إجراء غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين، أما الرئيس الألماني يواكيم غاوك فوصف التصرف الأميركي بأنه «لعب بنار الصداقة والعلاقات الودية القائمة، وعلينا أن نقول الآن وبوضوح: لقد طفح الكيل».
قد لا يكون باكراً الاستنتاج أنّ برلين تريد أن تبعث لواشنطن عبر هذه الإجراءات رسائل تتجاوز ردع الأخيرة عن المضي قدماً في عمليات التجسس عليها، تلك العمليات التي بلغت في الآونة الأخيرة عتبةً أحرجت حلفاء واشنطن أكثر مما أزعجت أعداءها، وفي جميع الأحوال، فإن هذه الأزمة تشكل في الواقع مناسبةً لإجراء قراءة هادئة تتناول واقع العلاقات الألمانية الأميركية وأفقها بين الثوابت والمتغيرات.
شكل سقوط جدار برلين عام 1989 علامةً تؤرخُ لنجاحٍ هائلٍ حققته الولايات المتحدة في أوروبا والعالم على حد سواء، لكن التخلص من كابوس الاتحاد السوفياتي أتى مصحوباً وإن – بصورة غير مباشرة – بانبعاث أشباح الماضي القريب، فاحتواء الثقل الألماني على الساحة الأوروبية، والذي كان محققاً عبر تقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية، بدأ عندئذ بالتلاشي، ومما لا شك فيه أن أطياف «الجرمانوفوبيا» شرعت، اعتباراً من ذلك الحين، في الانبعاث مجدداً لتفرض نفسها على حلفاء واشنطن الأوروبيين في لندن وباريس، ولتنعكس أيضاً على حسابات المخططين الاستراتيجيين الأميركيين.
من المسلّم به أن القوة الاقتصادية لا العسكرية ستكون الرافعة لعودة «الرايخ الرابع» إلى موقع الزعامة السياسية الأوروبية هذه المرة، ومنها إلى الموقع الفاعل على الساحة الدولية، ما سيجعل محاصرتها أو مناصبتها العداء أكثر صعوبة، لا سيما في ظل الحاجة الماسة إلى النهوض والتحفيز الاقتصادي في أوروبا والعالم، وعكس مقال نُشر في صحيفة «الديلي ميل» البريطانية هذا المعنى، فالمقال الذي نشر تحت عنوان «صعود الرايخ الرابع، كيف تسخّر ألمانيا الأزمة المالية لغزو أوروبا» جاء فيه: «إن ألمانيا لم تكن بهذه القوة منذ 1941، فقد قادت الجهد الأوروبي للتخلص من رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني ورئيس الوزراء اليوناني باباندريو، وحرصت على استبدالهما بعدد من التكنوقراط الطيّعين».
إن قدرة ألمانيا على الإنقاذ الاقتصادي لدول أوروبا المتعثرة جعل منها صاحبة الكلمة الفصل في تحديد النهج الاقتصادي الذي اشترطته على هذه الدول لمساعدتها، وباتت بالتالي، بصورة غير مباشرة، صاحبة الكلمة في فرض نوعية الطبقة السياسية والتكنوقراط الملائمين لتنفيذ هذا النهج الاقتصادي. ويبدو أن مشروع إنعاش اقتصاديات أوروبا تقوده أنجيلا ميركل لا جورج مارشال هذه المرة.
هذا النفوذ السياسي الألماني المتعاظم ضمن أوروبا من بوابة الاقتصاد يفرض متغيّرات جديدة ضمن خريطة السياسة الدولية، فالمصالح المشتركة بين برلين وموسكو تبدو بعيدة عن إرث الماضي الأوروبي الثقيل أكثر من سواها، مع زوال مفاعيل الخلاف الإيديولوجي بين البلدين بانتهاء الحرب الباردة، وسقوط مفاهيم المجال الحيوي الذي يختزن مضامين التعصب القومي، تبدو كل من ألمانيا وروسيا أقرب إلى وضعية التكامل من وجهة نظر جيواستراتيجية، فألمانيا المتعطشة إلى الطاقة النظيفة تجد ضالتها في الغاز الروسي القريب والرخيص والوارد إليها عبر خط التيار الشمالي، أما روسيا فتجد في ألمانيا معبرها الأفضل لتوثيق العلاقة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وفتح بوابات التعاون المالي والتقني مع أوروبا والغرب، فمقوّمات العداء القوميّ بين الجارين الأوروبيين أضحت من الماضي، والخلافات المتعلقة ببعض بلدان شرق أوروبا لا يُنظر إليها على الأغلب في كلا البلدين على أنها ذات أبعاد استراتيجية، وغالب الظن أن صناع القرار السياسي الألمان يتعاملون ضمناً مع التهويل الأميركي بشأن النزعة «الأوروآسيوية» التي يفترض أنها تمثل طموحاً عابراً للحدود يملكه الرئيس بوتين على أنها منتج دعائي أميركي لا يقتضي أكثر من التجاوب الظاهري، ومن هنا فإن الموقف الألماني حيال الأزمة الأوكرانية يتسم بقدر مقبول من التوازن في العمق… رفضت ألمانيا دعم العقوبات الأميركية ضد صناعة الطاقة الروسية، وانخرطت في الجهود الهادفة إلى إيجاد حل سياسي، من دون أن تهمل إرسال رسائل ردع سياسية محدودة الشدة لروسيا في المقابل.
سعت الولايات المتحدة إلى قطع الطريق أمام تعميق التعاون الروسي الأوروبي عبر تصعيد الأزمة الأوكرانية، وحاولت بصورة غير مباشرة إعاقة استكمال خط التيار الجنوبي المخصص لنقل الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا من دون المرور بالأراضي الأوكرانية، بغية الحيلولة دون تعميق التكامل الاقتصادي الروسي الأوروبي. لكن الحديث الأميركي العلني حول فرض العزلة على روسيا كان يهدف بصورة غير مباشرة، وبين السطور، وفي مسارٍ موازٍ، إلى التضييق على ألمانيا وتحديد خياراتها وعزلها عن روسيا.
إذا كانت في كل حضارة دولة مركزية وفقاً لصموئيل هنتنغتون، وكانت الولايات المتحدة هي الدولة المركزية بالنسبة إلى الغرب كما يقول، فليس من المبالغة بمكان أن نعتبر أن ألمانيا، التي تتبوأ واثقة مقعدها على قمة الهرم الأوروبي، قد تنافس الولايات المتحدة على مركزيتها الغربية، فالمشهد هنا يتعلق بصعود قاطرة اقتصادية وسياسية أخرى في الإطار الغربي بما ينهي الهيمنة الأميركية المطلقة على المنظومة الغربية بضفتيها الأطلسيتين، وقد يؤدي ذلك إلى انحسار المركزية الأميركية لتقتصر على دول الغرب غير الأوروبي مثل أستراليا وكندا فحسب، ولربما قد لا يكون من قبيل المصادفة أن هاتين الدولتين، ووفق ما ذكرته حديثاً صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، هما مع بريطانيا الوحيدتان المستثنيتان من إجراءات التجسس الأميركي.