«في ذكرى النكبتين بين 15 أيار 1948 و5 حزيران 1967» للأمين إنعام رعد ٢/٢

إعداد: لبيب ناصيف

كنا بتاريخ 02/10/2014 تحدّثنا عن العمل الإذاعي في ستينات القرن الماضي وعمّمنا نصّ المحاضرة التي كان ألقاها الأمين محمد بعلبكي في الجامعة اليسوعية بتاريخ كانون الثاني 1961، وكنّا طبعناها في كرّاس، ووزعنا منه آلاف النسخ على الطلبة الجامعيين والثانويين في بيروت والمناطق 1 .

ثم بتاريخ 14/08/2015 عممنا نصّ الرسالة الموجهة من الأمين الدكتور عبدالله سعاده إلى الطلبة القوميين الاجتماعيين والتي كانت بدورها طُبعت في كرّاس ووزع منه آلاف النسخ.

أشرنا في تقديم النبذة بتاريخ 14/08/2015 أن كرّاساً ثالثاً كان أُعدّ ووزّع بعنوان «في ذكرى النكبتين بين 15 أيار 1949 و 5 حزيران 1967، باسم «قيس الجردي»» وهو الاسم المستعار الذي كان يعتمده الأمين إنعام رعد في نشر مقالاته في صحيفة «النهار» 2 .

تعميماً للفائدة، ننشر الجزء الثاني من النصّ الكامل للدراسة التي قدمها الأمين إنعام رعد الأسير في سجن «القلعة» بطلب من مكتب الطلبة في حينه، وذلك بعد أن نشرنا الجزء الأول في صفحتنا الأسبوع الماضي بتاريخ 23/01/2016.

المسألة اليهودية: ظاهرة شذوذ عنصرية تيوقراطية عصيت على المجتمعات كلها

إننا نواجه مسألتين حاول العدو أن يدمجهما في مسألة واحدة: المسألة اليهودية والمسألة الفلسطينية. أما المسألة الفلسطينية فليس لها من حل سوى إزالة معالم الاغتصاب والعدوان، وممارسة شعبنا لحقّ تقرير المصير كاملاً وفق مبادئ السيادة القومية على أرضه.

أما المسألة اليهودية التي يحاول اليهود منذ كانوا أن يحلوها بشذوذهم العنصري ـ التيوقراطي على حساب حق شعبنا في أرضنا القومية، فإننا نعتبرها ظاهرة شذوذ عنصري تيوقراطي متحجّر مسؤولة الأسرة البشرية المتمدّنة عن معالجته بما يكفل الخير لمجموع مجتمعاتها من دون أي ظلم أو امتهان لحياة الإنسان أو كرامته، وفي ضوء تجارب التاريخ وطبيعة هذه المسألة وهو ما سنعرض له في آخر هذا البحث.

إن المسألة اليهودية ليست محصورة في نشأة الحركة الصهيونية المعاصرة بل إن هذه الحركة قد وجدت أساسها وجذورها في المسألة اليهودية وفي التراث اليهودي الديني العنصري وفي النظرة اليهودية إلى العالم.

إن المسألة اليهودية مسألة يجب أن تشترك كل الأمم المتمدنة ـ وشعبنا في الطليعة ـ في إيجاد حلّ إنساني عادل لها، إنما ليس على حساب الشعوب الحرة وحقها الكامل في السيادة على أرضها. فالمسألة اليهودية لا تحلّ بارتكاب ظلم جديد على شعب آمن باغتصاب جزء من أرضه القومية وتشريده عن موطنه. إن اليهود لم يتنازلوا عن وجهة النظر العدوانية هذه في تطلعهم المستمر إلى فلسطين. ولا نستطيع أن نتخذ من شذوذ الأفراد ما ينقض القاعدة والأساس. ذلك أنه ليس من جالية يهودية في العالم لا تتجاوب مع الحركة الصهيونية وتؤيّدها وتسير في ركابها، أما التذرّع بأفراد قلائل هنا وهناك لإحداث هذا التمييز فيكون كمن يريد أن يجعل من شذوذ الأفراد قاعدة تطمس القاعدة.

إن المسألة تحلّ في رأينا بإعادة نظر أساسية في مسببات هذه المسألة التاريخية والأتنية والاجتماعية.

فإذا كان الغرب في أقبح موجاته العنصرية المهووسة قد أنزل ظلماً باليهود يستحق الشجب والاستنكار فإننا لا نستطيع أن نتجاوز كذلك ظاهرة التقنفذ اليهودي العنصري ـ التيوقراطي الذي جعل اليهود غير مندمجين في الشعوب التي نزلوا بين ظهرانيها خلال التاريخ، حتى أنهم في أكثر المجتمعات الليبرالية بقوا متقوقعين على عصبيّتهم العنصرية. فهم رغم الحريات الواسعة التي يتمتعون بها في المجتمعات الغربية ورغم سيطرة أخطبوطهم المالي والسياسي بصورة خاصة في أميركا، لم يندمجوا في المجتمع الأميركي ولا في غيره من المجتمعات ولا تنازلوا عن عصبيتهم العنصرية ـ الدينية الرهيبة بل اتخذوا من نيويورك مثلاً قاعدة حركتهم الصهيونية ليوجهوا منها العدوان على فلسطين وعلى أرضنا القومية كلها.

إن في هذا تأكيداً على أن المسألة اليهودية تتخطى مسألة الظلم الذي وقع على اليهود في بعض المجتمعات الأوروبية إلى طبيعة نظرتهم وثقافتهم العنصرية ـ التيوقراطية التي جعلتهم عنصريين متعصبين خطرين في المجتمعات التي احتضنتهم وحدبت عليهم وفي المجتمعات التي اضطهدتهم سواء بسواء.

وإننا عندما نؤكّد على خطورة التراث اليهودي في دعم القضية الصهيونية العدوانية فلأنه لا يمكن فهم ما تمتع به اليهود من عطف في الغرب ومن حدب على مشاريعهم العدوانية في «إسرائيل» بمجرد حصر الموضوع بنفوذهم المالي ـ الاقتصادي ـ السياسي في الغرب وهو جانب خطير من المسألة ولكنه ليس كل المسألة. ففضلاً عن ربط اليهود بين اضطهاد النازية لهم وبين مطمحهم في فلسطين ربطاً ستر الجريمة الأخيرة وأهوالها بهول الجريمة الأولى، فإنهم قد ربطوا بين قضيّتهم العدوانية في فلسطين وبين تراث التوراة الذي يتحدث عن «أرض الميعاد» التي كانت تفيض لبناً وعسلاً فتوسلوا بذلك عطف العالم المسيحي في الغرب ومكانة التوراة في تلك الأوساط ليؤلبوا الرأي العام الغربي معهم. يقول الجنرال ديغول: « وكان مصدر هذا الاهتمام والعطف ذكرى الكتاب المقدس العظيمة « ـ في تصريح له في 27 تشرين الثاني 1967.

ولقد ظهر أن اليهود كجماعة عنصرية تيوقراطية متقنفذة ـ خلافاً لكل تفسير محض اقتصادي ـ قد بقوا متقوقعين في عصبيتهم بمناعة سلبية لا تخرقها شيوعية الشرق ولا ليبرالية الغرب على حد سواء. لقد قال ماركس بأن المسألة اليهودية تحلّ بزوال الرأسمالية ولكن المسألة اليهودية بقيت في الشرق الشيوعي، كما بقيت وسيطرت في الغرب الرأسمالي. وفي هذا دحض لأفكار الذين يحاولون الربط بين الحرب الطبقية ومحاربة الصهيونية من دون إدراك منهم لأهمية العوامل المعتقدية الأيديولوجية في قولبة فكر الجماعة. فلقد بقي تراث التلمود والتوراة في أذهان اليهود يولد العصبية العنصرية ـ التيوقراطية ويكوّن منهم خاصة دينية عنصرية لم يصهرها أي نظام إلا نظام عصبيتها الخاصّة.

وعدا أن كثرة من سكان «إسرائيل» قد هاجروا إليها من الدول الشرقية، فإن الأحداث الأخيرة في أوروبا جاءت تؤكد عصيان التقنفذ اليهودي على تأثيرات الشرق الإيديولوجية والغرب الاقتصادية ـ الليبرالية على حد سواء. فلقد عمد اليهود في عدد من المجتمعات الشرقية والغربية، إلى ممارسة ضغط كبير ضد تلك المجتمعات ودولها إثر مواقف تلك الدول في حزيران الماضي، والتي اعتبرتها الصهيونية معادية لأطماعها. فقد حاول اليهود في عدة مجتمعات الإفادة من ظاهرة الثورة الطلابية الأخيرة في العالم ليوجهّوها حيث أمكن، وفق مخططاتهم الخصوصية المتضاربة مع المعاني الجميلة لتلك الظاهرة ـ الانتفاضة في العالم. ذلك كان شأنهم دوماً مع حركات التاريخ محاولة استغلالها لمآربهم الخاصة. فلقد أكدت حكومة غومولكا الشيوعية في بولونيا أن الاضطرابات الأخيرة حرّكتها عناصر صهيونية رداً على موقف بولونيا المؤيّد لوجهة النظر العربية من أحداث حزيران الأخيرة. ولقد حاولت الدعاية الصهيونية أن تطلق في وجه الحكم الشيوعي البولوني اتهامات «العنصرية والفاشية» لأنه وقف في وجه المؤامرة اليهودية على بولونيا ونظامها.

كما أن قائد حركات الطلاب في باريس هو الطالب حاييم كوهين بنديت الذي رفع شعار تحطيم نظام ديغول وأنزل العلم الفرنسي ليرفع العلم الأحمر ومعروف أن نقمة اليهود كانت كبيرة على ديغول بسبب موقفه المؤيّد للجبهة العربية وذلك رغم كل ما يتمتع به اليهود في فرنسا من حريات واسعة وبحبوحة ورخاء عيش.

ولقد لجأت اليهودية العالمية إلى شعار اللاسامية والعنصرية ترفعه في وجه كل خصم لها حتى في وجه العرب أنفسهم الذين هم حسب التصنيف اللغوي الإتني الشائع ساميون، كما أنهم لم يضطهدوا اليهود في التاريخ إطلاقاً بل صوّر الصهاينة دفاع العرب عن أوطانهم ضد الخطر الصهيوني باللاسامية والعنصرية!

إن فضح العنصرية اليهودية والدعوى إلى محاربتها بمختلف أشكالها هو واجب قومي، وهو موقف ثوري تقدمي كما أنه موقف علمي موضوعي يحدّد طبيعة العدو وحقيقته كما يحدد طبيعة المعركة وحقيقتها. ولا بدّ أن تهتاج العنصرية اليهودية لدن فضحها فتكيل التهم جزافاً كما فعلت عندما اتهمت غومولكا الشيوعي «بالفاشية والعنصرية».

الحلّ الإنساني العادل للمسألة اليهودية الشاذة في العالم

يتبيّن من كل ما تقدم أن المسألة اليهودية هي ظاهرة شذوذ عنصري ـ تيوقراطي مارسه اليهود في المجتمعات كلها على اختلاف أنظمتها وقومياتها وعقائدها. إن الحلّ الإنساني العادل الذي نقترحه لهذه الظاهرة الشاذة والمنسجم مع خير الأسرة البشرية ودون أي اضطهاد أو ظلم يكون بتخيير اليهود في كل المجتمعات بين الانصهار الكامل في تلك المجتمعات على أساس المواطنة غير المجزأة الولاء والتخلّي كلياً عن فكرة «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين ـ وهذا يستدعي إعادة نظر كلية في تراثهم ومفاهيمهم وهو أمر مستبعد في ضوء تجارب تاريخهم ـ أو في حالة الإصرار على ازدواجية الولاء باستمرارهم في ولائهم لتراثهم التاريخي العنصري التيوقراطي وبالتالي للصهيونية العالمية التي تعبّر عن هذا التراث في العصر الحديث، وهو حال الأكثرية الساحقة ـ إن لم نقل ـ كل يهود العالم، فلا بد عندها من إيجاد مكان في العالم غير فلسطين لا يصار اغتصابه وتشريد سكانه كما جرى في أرضنا بل تقدمه إحدى الدول الواسعة المساحات الغنية الموارد، المتقدمة، والعطوفة على اليهود، بملء رضاها، مثل كندا والولايات المتحدة أو غيرهما، حيث يجتمع اليهود ويقيمون متحداً خاصاً بهم، فيريحون المجتمعات الأخرى من أخطبوط مؤامراتهم ويتخلّون عن دعواهم في فلسطين ويعيشون بسلام.

حلّ المسألة الفلسطينية هو في دفع الهجرة اليهودية وتحرير فلسطين

هذا هو حلّنا للمسألة اليهودية وهو حل إنساني عادل مستوحى من خبرات التاريخ وطبيعة المسألة اليهودية. أما المسألة الفلسطينية فحلّها الأوحد هو في دفع الهجرة اليهودية وتحرير فلسطين. وهذا يستدعي أول ما يستدعي مجابهة العنصرية اليهودية ومطامعها وأخطارها بوعي عقدي في شعبنا ينطلق من تعيين معالم شخصيتنا القومية والحضارية بوضوح ليستقطب الولاء ويمحوره عليها كما أنه يعيّن بوضوح طبيعة العدو وأفكاره وأيديولوجيته وأهدافه ومطامعه تعييناً موضوعياً مسؤولاً ليعرف كيف يدرأ الخطر وكيف يخوض الحرب.

لن يستطيع مجابهة العنصرية اليهودية الذين يعانون هم أنفسهم من العقدة العنصرية لأن مفهومهم للقومية أسقط الملايين من شعبنا من حقّ المواطنة بسبب أصولهم الدموية المختلفة وحصر المواطنة بالرابطة الأتنية ـ اللغوية فاعتبر «اليهودي السامي» أقرب إلى العربي من الكردي الآري، متجاهلاً روابط الحياة والأرض والمصير، التي تصهر الذين هم من أصل عربي أو أصل كردي، أو أصل آشوري في أمتنا الواحدة، على أرضنا الخصيب، وإن رفضنا للهجرة اليهودية عدا مطامعها العدوانية الواضحة يرتكز كذلك على تحجر التراث العنصري اليهودي التيوقراطي وخبرات التاريخ.

ولن يستطيع كذلك مجابهة العنصرية اليهودية الذين استوردوا العقائد الأجنبية مضموناً لفكرهم، معترفين في ذلك بأن عقائدهم الرومنسية لم تكن في مستوى العصر، فارغة من كل مضمون عقدي وفكري، ولذلك اضطروا إلى استعارة العقائد الأجنبية فادعوا الأممية والطبقية، محاولين إرساء فكرهم عليهما، في وقت يعيد أصحاب هذه العقائد الأجنبية النظر في عقائدهم تحت ضغط الواقع الاجتماعي والقومي في العالم وتطورات العصر.

إن معركة تحرير فلسطين لم تربح في الماضي تحت راية الرومنسية أو العنصرية أو الحرب الدينية، كما أنها لا يمكن أن تربح تحت العقائد المستوردة، بل تحت راية العقيدة القومية الموحدة شعبنا في مفاهيمه النفسية والاجتماعية والقومية والملتصقة بولائها وجذورها بتراب الوطن، المستلهمة قدسيته في كفاحها القومي، والمؤكدة أهمية الأرض في نشوء الحياة القومية، والمعلمة أجيال أمتنا أن كل شبر من أرضنا يفتدى بشرايين دمانا.

معركتنا ضد «إسرائيل» معركة قومية مصيرية لا معركة طبقية

وفي هذه المعركة لا بد كذلك من تعيين طبيعة العدو. إن لإسرائيل طبيعة مزدوجة، كل تغاضٍ عنها هو تفريط لا مبرّر له. إن «إسرائيل» قاعدة للمصالح الاستعمارية والإمبريالية ولكن بقدر ما تتحوّل الدول الاستعمارية نفسها كقاعدة للمصالح الصهيونية. كل اجتزاء لهذه الحقيقة هو فهم ناقص مشوّه لطبيعة العدو وبالتالي لطبيعة المعركة.

إن اعتبار «إسرائيل» مجرد قاعدة للمصالح الإمبريالية من دون إدراك الجانب الآخر منها الذي هو سيطرة المصالح الصهيونية في الدول الاستعمارية الكبرى تدعمها المعتقدية اليهودية الدينية العنصرية، هو اعتبار يفضي بسبب جزئية نظرته إلى اعتماد تعليلات طبقية أممية مستوردة متجاهلة لهذه الجوانب تفسر الوجود الصهيوني المعتدي على أساس الاقتصاد على الربط بين الإمبريالية والحرب الطبقية والتخلّي عن المحور القومي والدوران في فلك الاجتهادات المضيعة للجهد القومي العام.

إن معركتنا ضد إسرائيل وضد اليهودية العالمية الكامنة وراءها هي معركة قومية مصيرية وليست معركة من معارك الحرب الطبقية. إذ لا يمكن أن نقبل وفق المفهوم الطبقي المناداة «بأخوة العمال العرب واليهود» في حربهم الطبقية ضد «الرأسمالية العربية واليهودية». إن العمال اليهود الذين حلوا بالاغتصاب محل شعبنا النازح المشرّد في الجنوب يمثلون أقبح أنواع السطو والعدوان والاستغلال ولا يمكن للرابطة الطبقية الأممية أن تكون شفيع أخاء بينهم وبين أبناء شعبنا المشرّدين عن ديارهم وموطنهم.

ان معركة فلسطين هي معركة الوعي القومي الذي يحرك السلاح. إن السلاح الذي تكدس ساحات المعركة أكد أن العبرة ليست للسلاح بل للإنسان الذي يحركه.

إننا نبني الإنسان الجديد القادر على تحرير فلسطين وتحقيق السيادة القومية على كل أرضنا وإنشاء المجتمع الجديد.

هوامش:

1. لم يكن سهلاً في تلك الفترة العصيبة أن نتمكن من إيجاد مطبعة تتجرّأ على طباعة كتيب حزبي، فتسلّم آلاف النسخ، توضيبها وتوزيعها كان أمراً خطراً يعترض عليه أعداء النهضة. إلى روح الرفيق الرائع يوسف سالم وإلى غيره من رفقاء تلك المرحلة، أرفع التحية إجلالاً واعتزازاً.

2. اعتمد الأمين عبدالله سعاده اسم عبدالله فرح، والأمين أسد الأشقر اسم سبع بولس حميدان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى