أسواق حلب القديمة… متحف تاريخيّ أحرقته الهمجية الظلامية
لورا محمود
تُعتبر من أجمل أسواق مدن الشرق لِما تمتاز به من طابع عمراني جميل. فيها نوافذ للنور والهواء، ما يجعل الجو معتدلاً لطيفاً يحمي روادها من حرّ الصيف وبرد الشتاء. إنها أسواق حلب التي تعود أصولها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث أقيمت المحال التجارية على طرفَي الشارع المستقيم الممتد بين القلعة وباب أنطاكية حالياً، لتكون أطول سوق مسقوف في العالم.
وقد أخذت الأسواق شكلها الحالي في مطلع اللحتلال العثماني، وقد كانت تجارة حلب القديمة متمركزة في الأسواق والخانات التي كان يسمّيها الحلبيون «المْدينة»، وكانت سقوف الأسواق من الحصير والقصب. وعندما احترقت عام 1868، أمر الوالي ببنائها مع نوافذ سقفية.
واجهة مدخل السوق الشرقية زُيّنت بمثلث فوق المدخل يذكرنا بالنِسب اليونانية، وقد سقف السوق بقبو سريري ذي فتحات علوية.
أسواق حلب القديمة
من المعروف أنّ أسواق حلب ذات تخطيط بيزنطي وقد شيّدت ووسّعت في العصر الإسلامي. وهي أحد المعالم المهمة التي لم يسبق لسائح أن زار حلب من دون أن يمر بها. وبلغ تعداد أسواق حلب القديمة 37 سوقاً، ومجموع أطوال هذه الأسواق على الجانبين 15 كيلومتراً ومساحتها 16 هكتاراً. أما أهمّ هذه الأسواق وأشهرها فهي:
سوق الزرب: يقع في الجهة الشرقية لـ«المْدينة»، واسم السوق الأصلي هو سوق الضرب، حيث كانت تضرب به العملة المعدنية في العهد المملوكي ثم تطوّر تعبير سوق الضرب التركي ليصبح الآن «سوق الزرب»، ويتألف السوق من 71 محلاً تجارياً ويمتهن أصحابها بيع المنسوجات وحاجات البدو.
وهناك أيضاً سوق العبي: اسمه التاريخي «سوق النشابين» ويعتبر امتداداً لـ«سوق الزرب» نحو الغرب وهو أقصر منه، إذ يحتوي على 53 محلاً تجارياً يتاجر أصحابها بالعبي وأنواع المنسوجات من المناديل والأقمشة.
أما سوق العطارين، أو «سوق الابارين»، فهو سوق تاريخي ينتهي بنهاية سوق «اسطنبول الجديد»، والمهنة التاريخية لسوق العطارين هي بيع التوابل ومشتقاتها. وقد تبدلت وظيفة العطارة لحساب تجارة الأقمشة إلى حدّ كبير، إلا أن السوق بقي محافظاً على وظيفته الرئيسة. فرائحة الفلفل والقرفة والبهار تختلط برائحة الزعتر الحلبي والزهورات البلدية والبابونج العطر، التي تنتشر في كلّ مكان. ويبلغ تعداد المحال فيه 82 محلاً.
ويمتد إلى الغرب من «سوق العطارين»، «سوق السقطيّة» الذي يرتبط بالأكلات الشعبية المعمولة على أصولها. فإذا أردت تذوّق الفول المدمّس أو القطايف أو الكنافة فاقصد «السقطيّة». وهو سوق طويل بأجزاء ثلاثة تباع فيها أنواع الأطعمة من معجنات وحلويات وخضار وفواكه. ويبلغ عدد المحال فيه 86.
أما «سوق البهرمية»، فهو امتداد لـ«سوق السقطية» باتجاه الغرب. وقد سمّي بهذا الاسم لوجود المدخل الرئيس لجامع ومدرسة بهرام باشا البهرمية قربه. وتغلب على تجارة السوق الأغذية. ويبلغ عدد المحال فيه 52 محلاً. ويختلف «سوق البهرمية» عن الأسواق الأخرى القديمة في أن بعض أجزائه غير مسقوفة.
ومن الأسواق غير المسقوفة: «سوق قره قماش» الذي يروي قصة ملّاك كبير هدمه في الأربعينات ليبني على جانبيه بيوتاً سكنية فوق الدكاكين التي ما زالت ماثلة حتى اليوم. أما التجارة الغالبة في السوق فهي تجارة الأقمشة. ولعل الاسم التركي «قره قماش» أي «القماش الأسود» يدلنا على عدم تبدّل وظيفة السوق القديمة. إذ كان يباع فيه الخمارات والعباءات الباشاوية والملايا.
ويتفرع من «سوق قره قماش»، «سوق الدهشة»، وسبب التسمية يعود للدهشة التي كانت تنتاب الزائر وهو يطوف أرجاء السوق قديماً نظراً إلى روعة السوق وجماله، وإلى كثرة الأقمشة المعروضة التي كانت تصدّر إلى الشرق والغرب في عهد ازدهرت فيه التجارة في حلب ازدهاراً عظيماً. ولقد أخلص السوق لوظيفته القديمة فما زالت تجارة الأقمشة هي الوحيدة في المحال الـ49 الموجودة في السوق.
وعلى امتداد «سوق الدهشة»، يقع «سوق الطرابيشية»، ويسمّى أيضاً «سوق القاوقجية»، ومهنته التاريخية صناعة الطرابيش وبيعها، وقد اندثرت مع زوال عادة اعتمار الطربوش، وحلّت محله تجارة الأقمشة. ويبلغ عدد المحال فيه 63 محلاً.
وهناك أيضاً «سوق الدراع»، ويقع إلى الجنوب من «سوق الطرابيشية» ويوازيه. إنّ المهنة الحالية للسوق هي بيع الأقمشة وخياطتها، فترى السوق وكأنه مشغل خياطة كبير تتوزّع على جانبيه طاولات التفصيل المقابلة لكلّ دكان. ويتميز هذا السوق بأسلوب خاص في الإنارة، إذ إنّ الخياطة تحتاج إلى إنارة مريحة للبصر. لذا، فإن النور الوارد من الفتحات العلوية كان يُتحكّم به عن طريق لوحات عاكسة موضوعة تحت الفتحات، ويمكن تحريكها حيث تعمل على عكس النور الوارد من الأعلى فتجعله منتشراً بشكل مناسب. سمّي السوق بهذا الاسم لأن «الدراع» هو وحدة القياس المحلية «يبلغ الدراع الحلبي 71 سنتمتراً». ويبلغ عدد المحال فيه 59 محلاً.
«سوق اسطنبول الجديد»، ويشغل أحد أهم مدخلين لـ«المْدينة» من الجهة الشمالية، ويسمى أيضاً «سوق النسوان». وهو السوق المفضّل لتبدأ فيه السيدات زيارتهنّ لـ«المْدينة». إنّ مدخل الجامع الكبير من الجهة الشرقية يقطعه في منتصفه. وتغلب عليه تجارة الأقمشة النسائية ومشتقاتها، إضافة إلى النوفوتيه بأنواعها. ويبلغ عدد المحال فيه 91 محلاً.
أما سوق «خان الحرير»، فهو يشكّل أحد مداخل «المْدينة» من الجهة الشمالية، وغالبية السوق غير مغطاة. وتُعرف دكاكينه بتجارة الأقمشة. ويبلغ عدد المحال فيه 43 محلاً.
وثمّة أسواق كثيرة كـ«سوق الصياغة» و«سوق الصرماياتية» و«السوق العتيق» و«سوق الحور» و«سوق الحمام» و«سوق ماركوبولي» و«سوق الشام» و«سوق الحدّادين» و«سوق أرسلان دادا» ويسمّى أيضاً «سوق أصلان دادا» بِاسم باني الجامع المجاور، ويشكل أحد مداخل «المْدينة» الشمالية وهو يلاصق الجدار الشرقي لـ«خان الصابون»، وتُعرَف دكاكينه بتجارة الأقمشة والجلود، ويبلغ عدد محاله 33 محلاً.
تدمير الأسواق
لقد تعرّضت الأسواق القديمة في حلب لحريق كبير نتيجة الأعمال الإرهابية التي تقترفها المجموعات المسلّحة. وهذا يعتبر بمثابة ضربة قوية للتراث العالمي. وهذا ما أكدته مدير عام منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونيسكو» إيرينا بوكوفا التي قالت: «إن الحريق ألحق أضراراً جسيمة بمنطقة الأسواق القديمة في حلب التي تعتبر أحد المواقع المدرجة على قائمة التراث العالمي». وأوضحت بوكوفا أنّ أسواق حلب القديمة كانت جزءاً مزدهراً في الحياة السورية الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما أن مدينة حلب تعتبر ملتقى ثقافياً منذ الألفية الثانية قبل الميلاد.
ولا بدّ أن نذكر أن عاصمة الشمال خسرت الكثير من معالمها الأثرية. فهناك كنائس ومساجد كثيرة لم تسلم من الدمار، ككنيسة السريان ومسجد المهمندار الذي يعود إلى القرن الثالث عشر ميلادي، ومسجد الإسماعيلية الذي شيّده العثمانيون في القرن الثامن عشر، إضافة إلى الدمار الشامل الذي لحق بقصر «دار زمريا» القديم وهو من أعرق القصور التي شيّدت في فترة الاحتلال العثماني، وقد دمّر أيضاً الموقع الأثري الذي عثر فيه على مملكة «آرفادا» الآرامية التي تقع في ريف حلب في منطقة تل رفعت، ويعود تشييدها إلى الألف الثاني قبل الميلاد.