أفريقيا هل هي قارة المستقبل الاقتصادية؟
د. محمد شعيتاني
لعلّ عبارة «أفريقيا قارة المستقبل الاقتصادية» تردّدت على الألسن في السنوات القليلة الماضية، نظراً لما تحظى به هذه القارة من اهتمام عالمي متزايد، بسبب النمو المطرد الذي تشهده، لا سيما أنّ هناك تسابقاً قوياً بين القوى الدولية نحو استغلال مواردها الهائلة، ومن هذا المنطلق برزت عبارات تشير إلى أنّها قارة المستقبل، وأنّ القرن الحادي والعشرين هو قرن أفريقيا، وهي التي تعتبر قارة بكراً تحتوي كنوزاً طائلة من الطاقة والمعادن، لهذا يطلق عليها اسم «خزان العالم».
وفي خضمّ هذا البحث سنتناول التداعيات التي أدّت إلى توجه القوى الدولية نحو القارة السمراء، لنبيّن ما إذا كانت حقاً قارة المستقبل.
خزّان العالم وسلة غذائه
تعدّ أفريقيا من أقدم القارات، وتتكوّن من 54 دولة، ويتمّ تقسيمها إلى الشمال والشرق والوسط والغرب والجنوب، غير أنها أيضاً تقسّم إلى الشمال وجنوب الصحراء الكبرى، حيث تقع معظم بلدان القارة 47 دولة تقريباً ، بينما يضم الشمال 7 دول تفصل بينها الصحراء الكبرى.
تزخر أفريقيا بموارد طبيعية هائلة، إذ تُعتبر من أغنى القارات، وهي ثاني أكبر قارة في العالم من حيث المساحة والسكان بعد قارة آسيا وتبلغ مساحتها 30.2 مليون كلم مربع، بينما يزيد عدد سكانها عن مليار نسمة، وهي تتمتع، بالإضافة إلى مواردها الطبيعية، بموقع استراتيجي.
تمتلك أفريقيا مخزوناً هائلاً من المعادن ومصادر الطاقة، حيث تحوز ثلث احتياطي الثروات المنجمية في العالم، نحو 40 في المئة من الذهب، وحوالى 90 في المئة من البلاتين والكروم، إضافة إلى أنها تضم خمس احتياطي الماس، إضافة إلى اليورانيوم الذي يُعتبر طاقة بديلة عن النفط أي الطاقة النووية.
على الصعيد الطاقوي، تحوز أفريقيا 12 في المئة من احتياطيات النفط في العالم، وهناك 30 بلداً من بلدانها يصنّف ضمن الدول المنتجة للمواد الهيدروكربونية، وبطبيعة الحال تأتي نيجيريا والجزائر وليبيا في مقدمة هذه الدول، كما أنّ هناك اكتشافات من احتياطات النفط في عدد من الدول والمناطق في أفريقيا، خصوصاً في الشرق.
ومن جهة أخرى، فإنّ القارة تُعتبر «سلة غذاء العالم»، لأنّ 60 في المئة من أراضيها صالحة للزراعة معظمها غير مستغلة وفقاً لتقرير البنك الأفريقي للتنمية ، وهناك 80 هكتاراً من هذه الأراضي في جمهورية الكونغو الديمقراطية وحدها تكفي لإطعام 2 مليار شخص في العالم، أي أكثر من سكان أفريقيا وأوروبا وأوقيانوسيا مجتمعين، لكن للأسف فإنّ 6 في المئة فقط من الأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا مزروعة حتى الآن.
على الرغم من أنّ القارة تحوي داخلها ثروات وكنوزاً هائلة، إلّا أنّ اسمها اقترن بالفقر والتخلف وذلك نتيجة لعدم استغلالها هذه الثروات، إذ أنّ ثمة معوقات كانت تقف في وجه تحقيق التنمية في القارة مثل الفساد الإداري، وانخفاض مستوى التعليم، وخدمة الديون الخارجية، بالإضافة إلى الآثار السلبية التي تركها الاستعمار، والتي أعاقت بدورها التنمية كانتشار الحروب الإثنية، والتبعية الاقتصادية، ما يحرم القارة من الاستقرار السياسي والاقتصادي، وقد وصل الأمر إلى حدّ وصفها بأنّها «قارة بلا أمل» في عنوان وضعته مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية على غلاف أحد أعدادها، قبل عشر سنوات.
وفي المقابل، لوحظت في السنوات القليلة الماضية تغيرات جذرية حول رؤية العالم لهذه القارة الميؤوس منها ، ويمكن القول إنّ هذه النظرة اختلفت في شكل جذري، وأصبحت أفريقيا محط أنظار دول العالم، سواء الدول المتقدمة أو النامية.
وفي السياق عينه، ظهرت عبارات مغايرة تماماً لما كانت توصف به القارة، عبارات توحي بمدى اهتمام العالم بها، وقد عادت المجلة عينها «ذي إيكونوميست» وعنونت أحد أعدادها عام 2011 بـ«أفريقيا الواعدة»، كما بدأت تتردّد عبارات مثل «أفريقيا قارة المستقبل» على ألسن الكثير من المستثمرين والاقتصاديين والسياسيين، بالإضافة إلى عبارات أخرى مثل «أفريقيا الصين الغد» و«قارة الصين الثانية»، «الهند الجديدة»، و«القرن الأفريقي» أي أنّ القرن 21 هو قرن أفريقيا ، وبالتوازي أصبحت القارة الوجهة الجديدة للمستثمرين، بل باتت السّاحة الجديدة للتنافس والصراع بين القوى الدولية.
سوق واعدة
ثمة أسئلة تطرح نفسها أبرزها: ما هي التداعيات التي أدت إلى تحوُّل نظرة العالم إلى أفريقيا، وهل هي حقاً قارة المستقبل؟
حظيت القارة الأفريقية في السنوات القليلة الماضية باهتمام بالغ من قبل القوى الدولية، بل أصبحت تُعتبر القبلة الأولى للمستثمرين، نظراً لما تشهده من نمو مطرد، ويرى البعض أنّ الأسواق العالمية بلغت ذروتها ومستواها من الإشباع ، إذ لم يبق فيها مساحات استهلاك لتصريف المنتجات، في المقابل، هناك سوق واعد في أفريقيا، حيث تتزايد الطبقة المتوسطة في القارة، ويتحول مجتمعها إلى مجتمع استهلاكي، كما أنّ أفريقيا لم تعد سوقاً للمنتجات الصينية الرخيصة فحسب، بل أصبحت أيضاً سوقاً لمختلف المنتجات بما فيها السلع الثمينة، وقد ارتفعت فيها نسبة استهلاك التكنولوجيا، حيث يمتلك جهاز الموبايل ثلاثة أشخاص من كلّ أربعة أفارقة، هذا بالإضافة إلى أنّ الشراكة الصينية ـ الأفريقية أجّجت التنافس بين القوى الدولية على موارد أفريقيا، إذ أيقظت دولاً غربية من سباتها، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا التي تعتبر القارة حديقة خلفية لها، بعد أن ظهر منافس قوي لهما مثل الصين.
وعلاوة على التنافس والصراع بين القوى العظمى على موارد القارة، شهدت أفريقيا نمواً مطرداً في السنوات العشر الأخيرة، إذ يتراوح نموها اليوم ما بين 5 و10 في المئة، بمعدل 6.5 في المئة عامي 2014 و2015، بحسب صندوق النقد الدولي، بينما لا يتجاوز نمو الاقتصاد العالمي 3.6 في المئة، ما يجعل أفريقيا أكثر القارات نمواً في العالم، وإن خفّض فيروس «إيبولا» القاتل نسبة نمو القارة، خصوصاً في الدول الواقعة غرباً.
وفي السياق عينه، تُخرِّج القارة كوكبة من رواد الأعمال الذين يساهمون في نموها، وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم البلدان التي تشهد هذا النمو المطرد تعتمد اقتصاداتها على صادرات النفط والمعادن.
تشهد أفريقيا نمواً في الطبقة الوسطى، وبحسب دراسة صدرت عن البنك الأفريقي للتنمية 2011، فإنّ هذه الطبقة تقدر بحوالى 313 مليون نسمة، ثلث عدد سكان القارة تقريباً ، علماً بأنّ هذه الطبقة كانت عام 1980 تشكل حوالى ربع السكان، بنسبة 26.2 في المئة، وتصنِّف هذه المؤسسة الذين يتراوح إنفاقهم اليومي ما بين 22 و 20 دولاراً بأنهم من الطبقة الوسطى. كما أنّ هناك تزايداً في عدد الأسر الأفريقية التي تتمتع بدخل يوفر لها نوعاً من الرفاهية، ومن المتوقع، بحسب دراسة لشركة «ماكيزي» العالمية للدراسات الاقتصادية، أن يرتفع عدد هذه الأسر من 85 مليون إلى 130 مليون عام 2020.
وعليه، فإنّ المجتمع الأفريقي يتحول إلى مجتمع استهلاكي، وفي الوقت عينه، يعتبر سوق أفريقيا من الأسواق الناشئة والواعدة، في حين وصلت الأسواق الأخرى إلى ذروتها من الاستهلاك.
ومن المتوقع نمو سكان القارة الأفريقية بشكل مدهش، حيث يتضاعف في 2050، ويصل إلى 2.4 مليار نسمة، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة لسكان العالم في القرن القادم، فإنّ عدد سكان أفريقيا، خصوصاً جنوب الصحراء، سيتساوى مع نظيره الآسيوي وذلك بحلول عام 2100، وبنسمة تقدر بـ 4 مليارات لكلّ منهما.
إنّ عدم توفر الكفاءة البشرية وانخفاض مستوى التعليم، كانا سببين أساسيين لتخلف القارة، ما حدّ من استغلالها مواردها الطبيعية، وأدّى، بطبيعة الحال، إلى تصارع القوى الكبرى على تلك الموارد، بذريعة أنّ سكان القارة ليسوا قادرين على استغلال ثرواتهم، وبالتالي علينا أن نستغل، وهكذا دفع الأفارقة الثمن غالياً.
في الأعوام الأخيرة، بدأت ملامح تحوُّلات في أفريقيا، وظهر فيها الكثير من رواد الأعمال، ما أدّى إلى حدوث تغيرات جذرية. وقد أصدر معهد «جوسويل» ومقره باريس ـ فرنسا، قائمة تضمنت 100 من قادة الاقتصاد الأفريقي، تتراوح أعمارهم بين 40 سنة وما دون، ويساهمون في تغيير وجهة الاقتصاد.
خلاصة القول، كانت أفريقيا وخاصة دول جنوب الصحراء غنية بالموارد الطبيعية، ولا تزال كذلك، غير أنها عانت من حرمان الموارد البشرية من ذوي الكفاءة القادرين على استغلال مواردها، وفي هذا الصدد عزت إحدى النظريات تخلف أفريقيا إلى افتقارها للموارد البشرية، خصوصاً من ذوي الكفاءات، لكننا رأينا في الأعوام الأخيرة تدفقاً هائلاً لرواد ورجال أعمال من بلدان أفريقية مختلفة، كما أنّ هناك تزايداً في الطبقة الوسطى، ما ساهم في النمو الاقتصادي للقارة، وبالتالي اتجهت إليها الاستثمارات الأجنبية، هذا بالإضافة إلى قيام عدد من بلدانها بتهيئة البنية التحتية من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية.
قِبلة الاستثمارات الدولية
لطالما كانت أفريقيا مصدراً للموارد الخام، وسوقاً لتصريف السلع المصنعة، بل والرخيصة منها، غير أنّ ثمة بوادر للتغيير، إذ باتت قبلة المستثمرين الدوليين، وقد ارتفع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا من 15 مليار دولار عام 2002 إلى 37 مليار عام 2006 وإلى 46 ملياراً عام 2012، ووصل عام 2013 إلى 57 مليار دولار بارتفاع نسبته 4 في المئة . وكانت القارة بحاجة إلى رؤوس أموال تساهم في تحقيق التنمية، وتوفير البنية التحتية لاستغلال مواردها، وبطبيعة الحال يخلق توفر رؤوس الأموال والموارد البشرية نمواً مطرداً وسريعاً، وهو ما تشهده أفريقيا الآن، وقد تصبح أحد أكثر المناطق مساهمة في النمو الاقتصادي العالمي، وهذا ما يتوقعه خبراء اقتصاديون، في حال استمرّ النمو الحالي للقارة، بحيث سيضيف حوالي 12 تريليون دولار إلى الناتج المحلي لجنوب صحراء أفريقيا بحلول 2050.
هذا النمو المطرد يجذب الاستثمارات الأجنبية للقارة التي تشهد حالياً إقبالاً متزايداً من قبل المستثمرين، وبحسب دراسة صادرة عن شركة «أبوظبي للاستثمار» عام 2012 بعنوان «نظرة على أفريقيا: تطلعات المؤسسات الاستثمارية حتى 2016»، يرى العديد من المؤسسات حول العالم أنّ أفريقيا تتمتع بقدر أكبر من المقومات الإجمالية للاستثمار مقارنة بالأسواق الناشئة، وتمتلك كلّ من نيجيريا وكينيا الفرصة الأكبر في جذب الاستثمارات، وبحسب الدراسة التي اعتمدت على استقصاء آراء نحو 158 من المؤسسات الاستثمارية حول العالم، بالإضافة إلى عدد من الخبراء المهتمين بالقارة، فإنّ العديد من المؤسسات الاستثمارية حول العالم يخطط لرفع أصوله في أفريقيا على مدار الخمسة أعوام القادمة، وبحلول عام 2016 تتوقع ثلث المؤسسات التي تمّ استقصاؤها نقل 5 في المئة على الأقل من قيمة استثماراتها إلى أفريقيا».
وأشارت دراسة أجرتها صحيفة «وال ستريت جورنال»، حول توقعات المستقبل بشأن الاستثمارات المتعلقة بـ 200 شركة متعدِّدة الجنسيات أو العابرة للقارات، احتلت نيجيريا المرتبة الأولى لهذه الدراسة. وقد ضمّت القائمة 11 بلداً أفريقياً من بين 20 بلداً في العالم، وبذلك تصبح أكبر سوق واعد للاستثمارات الشركات الأميركية والأوروبية.
وعلى الرغم من أنّ معظم هذه الاستثمارات تتركز في مجالي الطاقة والتعدين، إلّا أنها، في الوقت نفسه، تساهم في إتاحة فرص استثمارية في المجالات الأخرى، وخصوصاً في قطاع الخدمات، غير أنّ القارة تفتقر إلى تنوع هيكل النشاط الاقتصادي، وتصنيع المحصولات الزراعية ومن ثم تصديرها مصنعة للاستفادة من القيمة المضافة، وبالتالي ثمة محاولات لتنويع الهيكل النشاط الاقتصادي وتطوير البنية التحتية وذلك من خلال الشراكة مع الصين حيث قامت الشراكة بين الصين و35 بلداً أفريقياً في مجالات البنية التحتية بالإضافة إلى ترتيبات بشأن التنمية.
يمكن القول إنّ هناك تنوعاً في مجالات الاستثمار في أفريقيا، إذ تستثمر الشركات الدولية في قطاعات مختلفة. فقطاع الزارعة، الذي يعتمد عليه الاقتصاد الأفريقي بشكل كبير والذي يعمل فيه أكثر من 70 في المئة من اليد العاملة، يساهم بنسبة جيدة من الناتج المحلي للقارة، ويعتبر تطوير هذا القطاع مهماً لتحقيق التنمية وذلك إذا تمّ استغلاله بشكل سليم. ويتطلب تطوير القطاع الزراعي تغيير أساليب الإنتاجية بالاعتماد على التكنولوجيا المتطورة، وتفعيل القدرة التنافسية، بل أنّ القارة تحتاج إلى التحوُّل من اقتصاد قائم على الزراعة إلى اقتصاد قائم على الصناعة ومن ثم إلى اقتصاد مبني على المعرفة، حيث يجب على البلدان الأفريقية تركيز تصنيع مواردها الخام ثم تصديرها، بدلاً من الاعتماد على تصدير المواد الأولية فحسب، فهذا التصنيع يزيد من القيمة المضافة للموارد الخام، وبالتالي يرفع نسبة الإنتاج المحلي للقارة.
وفي هذا الصدد، يجب استغلال هذا القطاع وتكثيف الاستثمارات فيه، إذ تمتلك أفريقيا 60 في المئة من الأراضي غير المزروعة في العالم، وحتى الآن لم يُستغل منها سوى 6 في المئة فقط، وعليه يساهم الاستثمار في زيادة إنتاجية القارة، وفي الوقت عينه يوفر فرص عمل لملايين الأفارقة في المستقبل.
وتشير الدراسات إلى أنه بحلول عام 2030 يمكن لقطاع الزراعة والصناعة الغذائية في أفريقيا إنشاء سوق بقيمة تريليون دولار 1000 مليار دولار ، وذلك في حال استغلال الموارد المائية المتجدِّدة التي لم يتم استغلال سوى 2 في المئة منها، غير أنّ الدول الآسيوية ذات الكثافة السكانية كالصين والهند واليابان أو الدول النفطية ذات الأراضي غير المؤهلة للزراعة، كالسعودية، تستفيد وتستثمر في هذه الأراضي الزراعية، ذلك أنّ الأولى والثانية تستثمر أراضٍ زراعية تقدر بمليون ونصف هكتار، بينما الثالثة تستغل 900 ألف هكتار تقريباً، أما السعودية فتستثمر حوالى 2 مليون هكتار في عدد من البلدان الأفريقية.
إنّ الأساليب الفنية للإنتاج في القطاع الزراعي في أفريقيا غير متطورة حتى الآن، ما يقلل من الإنتاجية والميزة التنافسية وبالتالي يخفض العوائد، ذلك أنّ 10 في المئة فقط من الأراضي المحصودة في أفريقيا تمّت تهيئتها باستخدام المعدات الزراعية و4 في المئة منها فقط حظيت بالري. غير أنّ هناك شركات عالمية تستثمر هذا المجال، فشركة «أجكو» الأميركية مثلاً، وهي ثالث أكبر شركة عالمية للمعدات الزراعية، تستثمر بمبلغ 100 مليون دولار في أفريقيا في هذا المجال.
إذن، لأفريقيا مستقبل واعد في هذا القطاع، ومن المتوقع أن يصل إنتاجها الزراعي عام 2030، بحسب تقديرات معهد «ماكينزي» 880 مليار دولار، مقابل 280 مليار دولار عام 2010.
أما في مجال الخدمات المالية والمصارف، فإنّ الشركات والمصارف والمؤسسات المالية الأوروبية تتجه نحو القارة الأفريقية، خصوصاً تجاه البلدان المنتجة للنفط، ففي هذه البلدان نجد بشكل متزايد إقبال الطبقة الوسطى على السلع الحديثة، وفي تقليد الحياة الأوروبية المعاصرة .
وفي القطاع الفندقي، باتت أفريقيا الساحة الجديدة التي تتنافس فيها العلامات التجارية الشهيرة في هذا القطاع مثل «ماريوت»، «هيلتون»، «ستار وودز»، «إنتركونتنتال»، حيث تستثمر في هذا المجال، وذلك لتزايد الطلب عليه، حيث يزداد زوار القارة من السياح، وقد تخطى عددهم لأول مرة 50 مليون في 2012، وجنت عائدات بلغت 33 مليار دولار، ويُتوقع تجاوز العدد 85 مليوناً بحلول 2020.
السياح ليسوا المستهدفين فحسب، بل هناك شريحة واسعة من رجال الأعمال الذي يسافرون في بلدان القارة وينفقون بسخاء، كما أنّ هناك إقبالاً واسعاً على الفنادق الراقية في ظلّ وجود الشركات الأجنبية العالمية، وقد أصبحت بعض العواصم الأفريقية، مثل لواندا العاصمة الأنجولية، وأنجمينا عاصمة تشاد، من بين أغلى خمس مدن في العالم من حيث الإقامة والمعيشة والمواصلات.
كلّ هذه العوامل أدّت إلى ازدياد الطلب على الفنادق الفاخرة، وجذب الفنادق العالمية إلى القارة حيث أصبحت وجهتهم الجديدة بعد الشرق الأوسط، وارتفع عدد الفنادق الجديدة التي تمّ تشييدها منذ بداية العام الماضي بنسبة 40 في المئة.
وبعد أن استحوذت شركة «ماريوت» الدولية على مجموعة فنادق «بروتيا»، تسعى الشركة إلى افتتاح 30 فندقاً في أفريقيا مع حلول عام 2020، وهي شركة الفنادق الأكبر في أفريقيا.
الاستثمارات الصينية
تحظى القارة الأفريقية باهتمام البلدان المتقدمة والنامية، على حدّ سواء، بحيث باتت هذه الدول تتسابق إليها، وتعدّ الصين من أكبر شركاء أفريقيا، بل البديل الجديد للغرب، وعلاقتها مع أفريقيا هي علاقة قوية ومتينة. وقد تطورت وتعزّزت علاقة الصين مع أفريقيا منذ بداية الألفية وإنشاء منتدى التعاون الصيني ـ الأفريقي فوكاك في 12 تشرين الأول 2000 في بكين بهدف تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بينهما. وفي العام 2006 تمّ الإفصاح عن المبادئ التي تقوم عليها العلاقات الصينية ـ الأفريقية أي سياساتها تجاه القارة، وتتمثل في الإخلاص والصداقة والمساواة والمنافع المشتركة التبادلية والازدهار والدعم المشترك والتعلم والحرص على التنمية المشتركة، ومبدأ الصين الواحد.
ومنذ 2009 ازدادت استثمارات الصينية المباشرة في أفريقيا، وارتفعت خلال أربع سنوات إلى 15 مليار دولار، وفي العام 2012 بلغ الاستثمار المباشر 21 مليار دولار.
أما عام 2012 فقد تمّ تأسيس صندوق التنمية الصيني ـ الأفريقي كادف كآلية لتنفيذ السياسة من أجل تشجيع الاستثمارات الصينية في أفريقيا، ووافقت الصين في نهاية 2012 على استثمار 2.3 مليار دولار في 53 مشروعاً في 30 بلداً أفريقياً.
هذه الشراكة الصينية ـ الأفريقية عزّزت اهتمام البلدان الغربية بالقارة، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية التي رفعت حجم استثماراتها في أفريقيا، وعُقدت في واشنطن بين الرابع والسادس من شهر آب من العام الماضي، قمة قادة أميركا ـ أفريقيا، وركزت على قضايا التجارة والاستثمار في القارة، وأعلن الرئيس الأميركي أوباما خلال القمة عن استثمارات بقيمة 33 مليار دولار في السنوات الثلاثة القادمة، وبطبيعة الحال تتركز هذه الاستثمارات في مجالات الطاقة، بالإضافة إلى دور المنظمات غير الحكومية والتي تضخُّ في أفريقيا خلال هذه المدّة 4 مليارات دولار، وبإجمال 37 مليار.
إنّ التبادل التجاري بين أميركا وأفريقيا أقلّ بكثير من نظيره الصيني ـ الأفريقي، إذ أنّ الأخير يتجاوز 200 مليار دولار حالياً، بعد أن كان 10.6 في عام 2000 ، بينما يماثل التبادل التجاري بين أميركا وأفريقيا التبادل التجاري للولايات المتحدة مع البرازيل.
بطبيعة الحال جاءت هذه القمة بعد قمم ومنتديات بين أفريقيا والصين واليابان والسنغافورة،
وثمة دول أخرى تستثمر في القارة ومن بينها الهند وتركيا وإيران، وبعض الدول العربية.
صراع القوى العظمى على الموارد
إذا كان الصراع الكلاسيكي على موارد أفريقيا دار بين القوى الاستعمارية في القرنين الأخيرين، فإنّ هناك صراعاً جديداً يحتدم بين قوى جديدة، وتدور رحاه بشكل أسرع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، وإن لم تخرج فرنسا التي تعتبر من القوى الاستعمارية من الساحة بعد.
ويعتبر الأفارقة أنّ الولايات المتحدة تقف في صف الغرب الذي استعمر القارة، والأصحّ احتلّ القارة واستعبدها واستغلّ مواردها، وأوقعها في شرك التبعية والتخلف، بينما يعتبرون أنّ الصين مثل أفريقيا عانت من ويلات الاستعمار، وتقدم نفسها كقوة بديلة للغرب لتحقيق التنمية في القارة، ويرى قادة أفريقيا وأكثر المهتمين في شأنها أنّ علاقة الصين مع أفريقيا علاقة قائمة على الشراكة والمساواة، بينما علاقة أفريقيا مع الغرب هي علاقة استغلال من طرف واحد، رغم أنّ وسائل الإعلام الغربية تصف الصين بأنها تنفذ «سياسة استعمارية جديدة» تجاه أفريقيا.
تنفي الصين، من جهتها، هذه الادعاءات في الوقت الذي تقرّ بالأهمية الاستراتيجية لأفريقيا بالنسبة إلى تنميتها المستدامة، إذ تزودها بالمواد الخام والطاقة لصناعتها، لكن في المقابل تساهم الصين في تنمية القارة، من خلال تمويل وتطوير البنية التحتية، وتقديمها المساعدة، أي أنّ نموذجها يقوم على أساس التكافؤ والمنفعة المشتركة، بينما لم يحقق الغرب أي تنمية للقارة بل استغلها، وعليه فإنّ نموذج الصين بديل للنموذج الغربي للتنمية.
وترى الصين أنّ الوجود الغربي في أفريقيا والذي استمر لأكثر من أربعة قرون لم يجلب أي تطور أو تنمية لشعوب القارة بل زادها فقراً وتجزئة وتخلفاً، بينما حمل الوجود الصيني رغم حداثة عهده الكثير من المنافع والفوائد لدول وشعوب القارة بأسرها.
وفي هذا الصدد، قدّمت الصين لأفريقيا 14 مليار دولار بين عامي 2010 و2014، وهي نصف مساعداتها الخارجية، ومساعدات الصين لأفريقيا هي في شكل منح وقروض من دون فوائد، بالإضافة إلى تخفيض الديون وقروض امتيازية.
ولم يكن في حسابات الغرب أنّ قوة مثل الصين ستطرح نفسها كبديل للنموذج الغربي للتنمية في أفريقيا، بل تستحوذ الكثير من مواردها، حيث ارتفع التبادل التجاري بينهما إلى 200 مليار دولار، وتزود أفريقيا الصين بـ 25 في المئة من وارداتها النفطية.
يبدو أنّ الأغلبية تفضل العلاقة والشراكة مع الصين عن العلاقة مع الغرب، لما للأخير من تاريخ مُشين في القارة، ذلك أنه لم تُمح من أذهان الأفارقة بعد مرارات سياسات المستعمرين الغربيين، وفي هذا الصدد أصبحت الصين نموذجاً بديلاً للقارة في وقت كانت تفتقد بديلاً يقدم لها نموذجاً جديداً للتنمية يرفع من قدرتها على التنمية المستقلة، وعليه وطّدت بلدان أفريقيا علاقتها مع الصين وعزّزتها منذ بداية الألفية الثالثة.
يتجه العديد من دول أفريقيا نحو الشرق، ذلك أنّ الصين لا تُسيِّس مساعداتها ولا تربطها بقضايا مثل حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، والحكم الرشيد، وغيرها من القيم الغربية، بل تعرب عن أنّ سياساتها تجاه أفريقيا تقوم على احترام التنوع الثقافي بين الدول بغضّ النظر عن حجمها، كذلك لا تتدخل الصين في الشؤون الداخلية لأفريقيا، وإن كانت قد تورطت في الآونة الأخيرة نتيجة التحديات التي واجهت مصالحها ما استدعى تورطها عسكرياً وسياسياً.
هل تُحقق الاستثمارات الأجنبية التنمية المرجوة؟
لا شك أنّ أفريقيا تنمو بوتيرة سريعة حيث تعتبر إحدى المناطق الأكثر نمواً في العالم، وشهدت أفريقيا نمواً مطرداً في السنوات العشر الأخيرة، كما أنّ الدخل الحقيقي لأفراد القارة ارتفع 30 في المئة خلال السنوات العشر الماضية، بينما لم يرتفع سوى 10 في المئة خلال السنوات العشرين السابقة، وفي الوقت ذاته يُتوقع أن ينمو اقتصادها سنوياً بمعدل 6 في المئة في العقد المقبل.
بطبيعة الحال، حظيت القارة باهتمام كبير في السنوات الأخيرة حيث سلطت وسائل الإعلام الغربية الضوء عليها، بعد اكتشاف العديد من الكنوز في شرقها وغربها، بل ويرى كثيرون أنها «قارة المستقبل».
لعلّ هناك نماذج عديدة تقدمت القارة وحققت نمواً عجيباً بعد أن أغرقت في التخلف والفقر، مثل دول شرق آسيا، خصوصاً النمور الآسيوية.
وعليه يمكن القول إنّ أفريقيا قد تمثل «قارة المستقبل» إذا أحسنت استغلال ثرواتها، واستثمرت قواها ومواردها البشرية من أجل التحول إلى اقتصاد قائم على الصناعة ومن ثم اقتصاد قائم على المعرفة، وعليه يجب أن تستثمر القارة في التعليم لأنه أساس التنمية والتقدم، وقد أعطت الصين 18 ألف منحة تعليمية لطلاب أفارقة عام 2012، كما تقدم دول عديدة منحاً لهم، وقد أطلق الرئيس الأميركي عام 2010 «YALI» وهو برنامج تشجيع قادة الشباب الأفارقة من أجل استثمار قادة الجيل المقبل، كما أنّ القمة التي انعقدت في شهر آب من العام الماضي في واشنطن، كانت تحت شعار «الاستثمار في الأجيال الجديدة»، وهكذا تهتم الدول بتدريب واستقطاب كفاءات القارة.
لكنّ السؤال الحرج الذي يطرح نفسه في هذه المناسبة هو: هل النمو الاقتصادي المعتمد على الاستثمارات الأجنبية وحده يحقق للقارة التنمية المستدامة ويجعلها قارة المستقبل أم أنّ ثمة اعتبارات أخرى يجب مراعاتها؟
لا شك أنّ النمو الاقتصادي يساهم، إلى حدّ ما، في تحسين مستوى معيشة سكان القارة، غير أنّ الحقيقية هي أنه لا يتحقق القضاء على الفقر إذا لم تصاحبه العدالة في توزيع الدخل والثروة، بل غالباً ما تستفيد من النمو الاقتصادي شريحة محدودة في المجتمع على حساب الأكثرية، وعليه يجب الأخذ في الاعتبار القضاء على الفقر في القارة والذي يصل إلى 45 في المئة من سكانها. كما يجب تحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروة لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم الوصول إلى التنمية الحقيقية الشاملة والمستدامة.
صحيح أنّ القارة تحقق نمواً مطرداً أكثر من غيرها من القارات، إلا أنها في الوقت نفسه لا تزال فقيرة حيث يمثل ناتجها المحلي 2 في المئة فقط من الناتج المحلي العالمي، في حين يمثل سكانها 12 في المئة من سكان العالم. وفي السياق نفسه، يرى البعض أنّ هذا النمو الذي تشهده القارة يرجع إلى ارتفاع الأسعار الأولية، كما أنّ معظم البلدان الصاعدة في القارة، والتي تحقق نمواً مطرداً، تعتمد اقتصاداتها على النفط والمعادن، وما زال الاقتصاد الأفريقي يعتمد على تصدير الموارد الأولية، ويحتاج إلى التنويع، بالإضافة إلى ذلك تحتاج القارة إلى استقرار سياسي واقتصادي ومحاربة الفساد، وعليه فإنّ الطريق نحو تحقيق التنمية، وليس مجرد النمو، في أفريقيا طويل وشاق ولا بدّ من تجاوز التحديات حتى تتحقق التنمية الحقيقية.
وفي هذا الصدد، يجب استغلال مواردها غير المستغلة، خصوصاً الزراعية، ورفع القيمة المضافة لمواردها الأولية من خلال تصنيعها وتصديرها في شكل مواد مصنعة، وهذا يتطلب توطين الصناعات التحويلية في القارة، ذلك أنّ الصناعة الأفريقية في المرحلة الجنينية، ولذلك تحتاج إلى امتلاك الصناعات الثقيلة، بالإضافة إلى استثمار الموارد البشرية.
لهذا، فإنّ القارة ليست مستقلة بعد في تدبير اقتصاداتها، وكما قال رئيس غينيا في قمة الاتحاد الأفريقي إنّ الاقتصاد الأفريقي تتحكم فيه الدول المتقدمة. ولذلك يجب السعي إلى تحقيق التنمية المستقلة.
نعم فالاستثمارات الأجنبية، بحسب النظرية الرأسمالية للتنمية، مهمة في الدول النامية لتمويل عملية التنمية، ذلك أنّ البلدان التي حققت نمواً مطرداً وأصبحت دولاً صناعية جديدة يعتمد اقتصادها على الاستثمار الأجنبي. فأفريقيا حالياً تستقبل هذا الاستثمار، غير أنه ينبغي على البلدان الأفريقية أخذ زمام المبادرة بنفسها، وإدارة اقتصاداتها بنفسها وليس وفقاً لإملاءات خارجية.
تقول كاترين موران موظفة في سويس آد وهي منظمة غير حكومية سويسرية عاملة في مجال تنمية بلدان الجنوب «إنّ اهتمام المستثمرين في القارة الأفريقية وبالموارد الأولية التي تزخر بها بلدانها لا يعني أنهم معنيون بخلق مواطن عمل، أو أنّ ظروف عيش السكان المحليين والبيئة الاقتصادية من حولهم سوف تتحسن. إنّ هؤلاء المستثمرين هم مثل السحابة المتحركة يتدفقون من منطقة معينة وعلى قطاع خاص يرون أنه يحقق لهم أرباحاً سريعة قبل أن يغادروها إلى منطقة أخرى».
إيبولا تحدٍّ جديد على الرغم من تعافي القارة الأفريقية في العقد الأخير من العديد من الأمراض التي أعاقت نموها، ظهر تحدٍّ جديد أمامها يتمثل بفيروس «إيبولا» القاتل، والذي يؤثر سلباً على الاقتصاد الأفريقي ونموه. ففي الأعوام العشر الأخيرة تناقصت حدة الأمراض في بعض بلدن أفريقيا الأكثر تضرراً، فانخفضت إصابة مرض الملاريا إلى 30 في المئة كما انخفضت نسبة الإصابة بفيروس HIV إلى 74 في المئة، في الوقت الذي ارتفع العمر المتوقع للفرد في أفريقيا بنسبة 10 في المئة.
تشهد القارة، خصوصاً بعض بلدان غرب أفريقيا غينيا، ليبيريا، سيراليون ، انتشاراً لفيروس «إيبولا» القاتل، ما أثر سلباً على اقتصاداتها. وتشير إحدى الدراسات إلى أنّ إيبولا يخفض 4 في المئة تقريباً من النمو الاقتصادي في أفريقيا، خاصة في دول غرب أفريقيا.
وقد أدى انتشار الفيروس إلى خروج الكثير من المستثمرين وإلغاء عديد من الاستثمارات، كما أنّ العاملين في تلك المناطق يفرون منها خوفاً من انتقال الفيروس. وقد تناقص حجم التبادل التجاري، كما علقت الشركات الطيران رحلاتها إلى دول القارة التي ينتشر فيها الوباء، وألغت بعض الدول تأشيرة الدخول من الدول التي انتشر فيها الفيروس.
بالنتيجة، لكي تصبح أفريقيا قارة المستقبل، أمامها تحديات كثيرة يجب أن تتجاوزها، يجب أن تتحول إلى قارة منتجة وليس مصدرة فقط للموارد الأولية بل عليها أن تصدر المنتجات المختلفة وذلك طبعاً بعد تصنيعها، وكذلك تنويع اقتصادياتها، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لإدارة الموارد.
إنّ الاستثمار الخارجي بات ذي أهمية لتحقيق التنمية في البلدان النامية، ويعتمد كمصدر لتمويل التنمية، طبعاً بعد إخفاق اعتماد المديونية الخارجية، وذلك لشحّ الادّخار المحلي والتمويل المحلي للتنمية. ولكن له آثار سلبية ينبغي أخذها في عين الاعتبار، وفي هذا الصدد يجب على القارة تحقيق التنمية المستقلة، والتحرّر من السيطرة والاستغلال، من خلال استثمار مواردها البشرية، ومن ثمّ استغلال مواردها الطبيعية.
رئيس هيئة حوارالأديان
باحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية