استئناف المحادثات التركية ـ الكردية مهمة صعبة… ومالي تواجه السلام العصيّ
إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
تقريرنا اليوم يتّسم بأنه يضمّ ثلاثة مواضيع منفصلة في الشكل، متّصلة في الخلفية، وهذا الاتصال يتأتى من المعضلة التي يواجهها العالم هذه الأيام، والمتمثّلة بالإرهاب المتنقل من بلد إلى بلد، وتداعيات هذا الإرهاب على الدول، وعلى بعض الاتفاقيات التي من شأنها إحلال السلام كقوّة مواجِهة لهذا الإرهاب.
المواضيع المطروحة اليوم وردت في موقع «Crisis Group»، ويعالج الأول محادثات السلام بين الدولة التركية والأكراد، وتأثير تعثّر هذه المحادثات على المحيط. إذ إنّه من المؤكد أن تنظيم «داعش» سيستفيد من العنف الدائر بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. ففي سورية، تخشى أنقرة أن يحوّل حزب الاتحاد الديمقراطي ـ فرع حزب العمال الكردستاني السوري ـ مكاسبه، مقابل السماح لـ«داعش» بالحصول على ممرّ برّي محاذي لطول الحدود الجنوبية لتركيا. يطغى هذا التهديد المُتوقّع في بعض الأوقات، على تركيز أنقرة على مكافحة «داعش». فمنذ شهر أيار 2015، شهدت البلاد استهدافاً لمجموعات من الناشطين المؤيدين للأكراد في تركيا، بما في ذلك عدد من الهجمات الدموية التي نشطت أكثر من أيّ وقت مضى، ما يؤثر بالتأكيد على عملية السلام، ويعزّز من اعتقاد الأكراد أن الدولة لا تحميهم. فضلاً عن أن الجدال الحاصل حول هذه المجريات، يؤكد حاجة أنقرة إلى توسيع الحملة المحلية ضدّ «داعش».
الموضوع الثاني يتحدّث عن السلام في مالي، البلد الأفريقي الغارق في الدماء، إذ سيطر التشاؤم على باماكو في الأشهر القليلة الماضية، وفسح المجال لتفاؤل حذر. لربّما تجري هذه المصالحة من «أسفل إلى أعلى»، ما يُعيد تنفيذ اتفاق باماكو الذي وُقّع في حزيران الماضي، والذي توقف العمل به منذ الصيف الفائت. ومع ذلك، فإن هذه الاتفاقيات المحلية لا بدّ أن تراقب أيضاً مخاطر اتفاقية باماكو، بما في ذلك إعادة تأسيس نظام سياسي واقتصادي عسكري، كان سبباً لمظاهر عنف كثيرة في الشمال.
أما الموضوع الثالث فيتناول الاتفاق النووي الإيراني، والسؤال الرئيس الذي بات يدور حول ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى إيران. إذ احتدم الصراع بين الرؤى المتنافسة حول مستقبل البلاد منذ تم التوصل إلى الاتفاق. ويعتقد كثيرون، في إيران وخارجها، أن من شأن هذا الاتفاق إعادة التوازن إلى الحياة السياسية الداخلية. فهو لم يؤدِّ إلى تعزيز مكانة أولئك الذين دعموه فحسب، بل كان له أثر أكثر جوهرية يتمثل في أنه إفساحه المجال لنقاشات جديدة في فضاء داخلي طغت عليه المسألة النووية لأكثر من عقد من الزمن. إلّا أن النظام السياسي، مع تعدّد مراكز القوى وجهات الوصاية فيه، ينزع بطبيعته نحو الاستمرارية.
نبدأ بالموضوع الأول الذي يتناول محادثات السلام التركية ـ الكردية.
مهمّة مستعصية
غارقون في عقالهم الدموي العنيف على مدى عقدين من الزمن، على الدولة التركية وحزب العمّال الكردستاني استئناف محادثات السلام على الفور. تغذّي العودة إلى القواعد العسكرية نهج الصراع والاستقطاب السياسي الداخلي، المموّل بامتدادات الصراع السوري، وتفكيك إنجازات محادثات السلام التي أُجريت خلال وقف إطلاق النار لمدّة سنتين ونصف السنة، والتي انهارت في تموز 2015. أعطت المعارك الحامية في المناطق الحضرية من الجنوب الشرقي هذا الصراع زخماً لا يمكن التنبّؤ بنتائجه. فالفشل في تحقيق السلام كلّف أكثر من 550 شخصاً بينهم 150 من المدنيين، بما في ذلك محامو حقوق الإنسان المعروفون في ديار بكر، ومن بينهم الشهير طاهر إلشي في 28 تشرين الثاني، للتأكيد على أن تركيا تواجه خياراً حاسماً: إما تحسين استراتيجيتها العسكرية ضدّ حزب العمّال الكردستاني في قتال لا بدّ أن يكون طويلاً وغير حاسم، أو استئناف محادثات السلام. ومهما كان الخيار، فإن التوصل إلى حلّ شامل للقضية الكردية يتطلّب معالجة طويلة الأمد للمطالبة بحقوق الأكراد.
ومع تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات الأول من تشرين الثاني، يبدو أن الوقت قد حان للعمل على إيقاف دوامة انعدام الثقة هذه بين أنقرة والحركة الكردية، المتبادلة أحياناً ومن دون أوامر واضحة، من قبل حزب الشعب الديمقراطي وكذلك حزب العمال الكردستاني المحظور، وزعيمه المسجون عبد الله أوجلان.
من المؤكد أن تنظيم «داعش» سيستفيد من العنف الدائر بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. ففي سورية، تخشى أنقرة أن يحوّل حزب الاتحاد الديمقراطي ـ فرع حزب العمال الكردستاني السوري ـ مكاسبه، مقابل السماح لـ«داعش» بالحصول على ممرّ برّي محاذي لطول الحدود الجنوبية لتركيا. يطغى هذا التهديد المُتوقّع في بعض الأوقات، على تركيز أنقرة على مكافحة «داعش». فمنذ شهر أيار 2015، شهدت البلاد استهدافاً لمجموعات من الناشطين المؤيدين للأكراد في تركيا، بما في ذلك عدد من الهجمات الدموية التي نشطت أكثر من أيّ وقت مضى، ما يؤثر بالتأكيد على عملية السلام، ويعزّز من اعتقاد الأكراد أن الدولة لا تحميهم. فضلاً عن أن الجدال الحاصل حول هذه المجريات، يؤكد حاجة أنقرة إلى توسيع الحملة المحلية ضدّ «داعش». كما يعكس تعميق الانعكاسات الاجتماعية، ليس فقط مع المجتمعات التركية والكردية، إنما مع غيرها من خطوط الصدع الطائفي والثقافي، وإذا ما تُركت كلّ هذه الهواجس من دون حلول جذريّة، فقد يقوّض هذا التماسك الاجتماعي ـ الهشّ أساساً ـ في تركيا.
أعلنت الحكومة الجديدة أنها لن تعاود البدء بمحادثات السلام مع أوجلان. لا بل ركزت استراتيجيتها على قتال حزب العمال الكردستاني، إلى حين التمكّن من القضاء على الهياكل الحضرية الحديثة، في الوقت الذي يزداد فيه الغموض من جانب واحد ما يهدّد توجيه القومية الكردية إلى مزيد من الكفاح المسلّح.
بعد مرور ثلاثة عقود على الصراع المميت، يبدو أن كلا الطرفين يفهمان جدّياً أن المواجهة العسكرية لن تؤمن النصر بل تثبّت اعتقادهم في تعزيز موقفهم لتحقيق أقصى قدر ممكن من المكاسب، في سبيل إضعاف الآخرين قدر الإمكان، في حين أننا ننتظر من المستنقع السوري استقراراً قبل التفكير في العودة إلى وقف إطلاق النار وتنشيط محادثات السلام. من المفترض أن تنتهي أعمال العنف السائدة في المراكز السكانية في البلاد على وجه السرعة، والاتفاق على شروط لوقف إطلاق النار.
بعيداً من الضغوط الانتخابية على مدى السنوات الأربع القادمة، تحتاج الحكومة الجديدة إلى تأسيس جدول أعمال يُبنى عليه لمعالجة مطالب الحقوق الكردية ـ بما في ذلك اللامركزية والتعليم باللغة الأم ـ والتي يمكن أن تكون متقدمة ضمن الهياكل القانونية والأحزاب السياسية والبرلمان. وبهدف استعادة الثقة، فإنه من المستحسن ضمان فعالية التحقيق في الانتهاكات الماضية والحالية لحقوق الإنسان والحؤول دون تكرارها. على حزب العمال الكردستاني والسلطات المحلية الكردية التوقف عن إعلان الحكم الذاتي، الذي سيشرئبّ له الرأي العام التركي، وسيزيد من تصلّب السياسيين الأتراك.
وفي محاذاة ذلك، تُستأنف المحادثات مع حزب العمال الكردستاني، مع إمكانية سحب المقاتلين الأتراك، والاتفاق على آليات للعفو وإعادة دمج أولئك ـ غير المسلّحين ـ ممن يرغبون بالبقاء أو العودة. وقد أكد أوجلان الحاجة إلى أشكال أكثر تنظيماً لمحادثات السلام والتي من شأنها استقطاب شخصيات أخرى إلى حزب العمال الكردستاني. كما تحتاج الحكومة إلى توضيح موقفها من مأسسة هذه العملية بهدف حسم الصراع، علماً أن جهودها تلك ستكون أشبه بمحاولات سيزيف الأسطورية عديمة الجدوى واللامتناهية، للصعود بالصخرة إلى أعلى القمة.
كذلك، فإن على حلفاء تركيا في الغرب ممن يُبقون أعينهم ساهرة على الأزمة الراهنة في سورية وعواقبها الأمنية الوخيمة فضلاً عن أزمة اللاجئين الإقليمية، ألاّ يرفضوا مواجهة المخاطر المحيقة بهم من جرّاء الصراع في تركيا. فضماناً لمصالحهم، عليهم القيام بتشجيع أنقرة على إعادة تقييم نهجها إزاء القضية الكردية.
وأثناء قمة تشرين الثاني، التي وضعت نصب اهتماماتها أزمة الهجرة، التزمت كلّ من تركيا والاتحاد الأوروبي إعادة تنشيط العلاقة في ما بينهم وتعزيز المشاركة السياسية والمالية. كما أنها خلقت زخماً لمتابعة إنجازاتها الصعبة، بما في ذلك الحدّ من تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، إحراز التقدّم في تحرير التأشيرات للمواطنين الأتراك الراغبين في دخول الاتحاد الأوروبي وفتح فصول جديدة في المفاوضات لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت عينه، فإن اشتعال الصراع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، سيؤدّي إلى تعقيد معركة قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضدّ تنظيم «داعش»، خصوصاً أن تركيا ترفض التعاون مع وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي… قد تؤسس محادثات السلام بين الأتراك وحزب العمال الكردستاني لعلاقة بنّاءةٍ ومثمرة بين أنقرة وحزب الاتحاد الديمقراطي، وبالتالي، تعزيز جهود مكافحة إرهاب «داعش» دولياً.
مالي… السلام من أسفل!
بعد مرور صيف اتّسم بتجدّد الاشتباكات في شمال مالي، بدأ الانفراج المفاجئ يرتسم في تشرين الأول 2015، بعد سلسلة من المحادثات بين قادة ائتلاف حركة «أزواد» CMA ، الائتلاف الرئيسي للمتمرّدين، وأولئك من الجزائر، أي التحالف المؤيّد للحكومة. وعلى مدى ثلاثة أسابيع أجريت مفاوضات في أنفيس، مركز القتال الأخير والمركز الإقليمي جنوب غرب كيدال. قادت هذه المحادثات إلى عدّة «اتفاقيات شرف»، وُقّعت نيابة عن المجتمعات البدوية الكبرى في المنطقة. سيطر التشاؤم على باماكو في الأشهر القليلة الماضية، وفسح المجال لتفاؤل حذر. لربّما تجري هذه المصالحة من «أسفل إلى أعلى»، ما يُعيد تنفيذ اتفاق باماكو الذي وُقّع في حزيران الماضي، والذي توقف العمل به منذ الصيف الفائت. ومع ذلك، فإن هذه الاتفاقيات المحلية لا بدّ أن تراقب أيضاً مخاطر اتفاقية باماكو، بما في ذلك إعادة تأسيس نظام سياسي واقتصادي عسكري، كان سبباً لمظاهر عنف كثيرة في الشمال.
تشكل اجتماعات أنفيس إعادة اعتبار لبعض الجهات المحلية المنخرطة في عملية السلام، والمدفوعةً من بعض الشركاء الخارجيين. سيكون من غير المسموح الوقوع في الخطأ حيال هذه المبادرة: هذه هي «تقليدية» المجتمع ومن فيه من قادة سياسيين وعسكريين ورجال أعمال تترأس المجموعات المسلّحة. ومع ذلك، فهذا هو بالضبط ما عزّزته مواثيق أنفيس في عملية سلام باماكو: إشراك جهات فاعلة محلية رئيسية وتعزيز ثقتهم في السلام، الا في حال فرضه عليهم من الخارج إلى حدّ كبير… كما سمحت اجتماعات أنفيس بطرح أسئلة مهمة في شأن النخبة السياسية والعسكرية في الشمال ومعالجتها، بما في ذلك قضايا الاتّجار، وتقاسم السلطة والتنافس بين الطوائف. هذه هي الموضوعات الحساسة التي جرى البحث بها في الجزائر والتي لم يكن هناك بدّ من تنفيذها، أو التصدي لها.
ومع ذلك، لا تزال عملية السلام هشّة. فهجوم 20 تشرين الثاني على فندق «راديسون» يشكل تذكيراً صارخاً للتهديد المستمرّ الذي تشكله هذه الجماعات المتطرفة المستبعدة من عملية السلام. وفي الواقع، لا ينبغي أن يحدث هذا في لحظة من هدوء للخلط بينه وبين العودة إلى سلام مستدام. بل ينبغي اغتنام هذه الفسحة الحالية كفرصة لإعادة تركيز الاهتمام على تنفيذ اتفاق باماكو، وليس كغاية في حدّ ذاته وإنما للسماح بإحداث تغيير حقيقي في الحكم في مالي.
ومع ذلك، فإن غالبية الجهات الفاعلة تعترف سراً بأنها تخلّت عن هذا الهدف. ونتيجة لذلك، يبقى خطر أن مالي يمكنها العودة إلى نمط من سوء الحكم والعنف في الشمال. ولتجنب هذا، ينبغي لشركاء مالي إعادة تعبئة التنفيذ الذكي والطموح لاتفاق باماكو إذ أنه مع مرور الوقت، سيُسمح لاتفاقيات «نزع السلاح» الاقتصادية والسياسية الدخول حيّز التنفيذ في الشمال. وللقيام بذلك، ينبغي أخذ عدد من الاعتبارات التالية في الحسبان:
ـ على مالي وشركائها الرئيسيين، المجتمعين في فريق الوساطة الموسعة، دعم المبادرات المحلية كالاجتماعات بين الطائفتين، بهدف السماح بتمديد عملية أنفيس خارج إطار النخب السياسية والعسكرية. وينبغي ـ في موازاة ذلك ـ الحفاظ على الحق في محاكمة المجرمين الكبار، وتحديداً أولئك الذين يشاركون في تجارة الأسلحة وتهريب المخدرات، بغضّ النظر عن مشاركتهم أو عدمها في هذه العمليات.
ـ على الأطراف المالية في باماكو، فضلاً عن فريق الوساطة الدولي، توضيح دورها في شأن تنفيذ اتفاق السلام ومتابعته. وينبغي أيضاً إعادة المناقشات في شأن تشكيل حكومة وطنية من أجل تعزيز عملية السلام وتسهيل تنفيذ الاتفاق.
ـ ينبغي، وباختصار، اغتنام هذه الفترة من انخفاض حدّة التوتر لكسر مشاكل الحكم في الماضي: يجب مصاحبة مشاريع التنمية في الشمال بآليات ملموسة لمكافحة الفساد وضمان أن الاستثمارات تفيد السكان المحليين، لا النخب فقط. على الحكومة أن تتوقف بدورها عن انتهاج سياسة التفرقة التي تغذّي «عسكرة» المجتمع وتهدّد أمن الدولة في مالي.
إيران بعد الاتفاق النووي
مع دخول الاتفاق النووي بين طهران والقوى العالمية حيّز التنفيذ، فإن السؤال الرئيس بات يدور حول ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى إيران. لقد احتدم الصراع بين الرؤى المتنافسة حول مستقبل البلاد منذ تم التوصل إلى الاتفاق. يعتقد كثيرون، في إيران وخارجها، أن من شأن هذا الاتفاق إعادة التوازن إلى الحياة السياسية الداخلية. فهو لم يؤدِّ إلى تعزيز مكانة أولئك الذين دعموه فحسب، بل كان له أثر أكثر جوهرية يتمثل في أنه إفساحه المجال لنقاشات جديدة في فضاء داخلي طغت عليه المسألة النووية لأكثر من عقد من الزمن. إلّا أن النظام السياسي، مع تعدّد مراكز القوى وجهات الوصاية فيه، ينزع بطبيعته نحو الاستمرارية. ومع سعي رعاة الاتفاق إلى التخفيف من حدّة تداعياته والمحافظة على توازن القوى، فإن أيّ محاولة من قبل البلدان الغربية لممارسة ألعاب سياسية داخل النظام الإيراني ـ كمثل دفعه ناحية «الاعتدال» ـ يمكنها أن تُحدث أثراً عكسياً. وإذا كانت القوى العالمية تأمل بتحقيق تقدّم في المجالات التي تثير قلقها وتلك التي تنطوي على مصالح مشتركة، فإن عليها الانخراط مع إيران كما هي، لا مع إيران التي تتمنّاها. إذ إنه في البداية، وقبل كل شيء، على جميع الأطراف الوفاء بالتزاماتهم بموجب الاتفاق النووي.
يأتي الاتفاق في لحظة حسّاسة، حيث من المقرّر إجراء ثلاثة انتخابات محورية خلال ثمانية عشر شهراً. سيشهد شهر شباط الحالي انتخابات برلمانية وأخرى لمجلس خبراء القيادة، الذي يتولّى مهمّة اختيار المرشد الأعلى المقبل تحضيراً لإجراء الانتخابات الرئاسية في حزيران 2017. ومع تقدّم المرشد الأعلى في السنّ، فإن كثيرين يتساءلون عما إذا كان المجلس المقبل الذي تدوم فترته ثماني سنوات سيختار خلفه، الذي قد يُعيد صوغ مسار الجمهورية الإسلامية. في وقت يقلق منافسو الرئيس حسن روحاني من احتمال أن يتمكن وحلفاؤه من ترجمة إنجازاتهم في السياسة الخارجية، وتحويلها إلى انتصارات انتخابية.
تُعزى التوترات داخل الجمهورية الإسلامية في جزء كبير، منها إلى المزج بين السيادة الشعبية والسلطة الدينية. تسعى القوى التي يمثلها رجال الدين إلى المحافظة على هيمنة المرشد الأعلى والهيئات الوصائية الأخرى، في حين تسعى القوى الجمهورية إلى منح المؤسسات المنتخبة شعبياً مزيداً من النفوذ. كما أن كلا المعسكرين منقسمان بين البراغماتيين الذين يسعون إلى تحقيق تطور سياسي بشكل تدريجي، والراديكاليين الذين إما أنهم يقاومون أي تغيير أو يدعمون إجراء تحوّل ثوري. من الواضح أن المرشد الأعلى ـ يتمتّع بسلطة قويّة، غير أنها ليست مطلقة ـ فضلاً عن أنه يحافظ على الاستقرار من خلال احتواء كلا النزعتين الثيوقراطية والجمهورية. إلّا أن ارتباطه بالمجموعة الأولى يجعل التوازن المحقّق معقّداً وغير مثالي.
تؤكد هشاشة هذا التوازن أن التغيير في السياسات يحدث عندما يترافق الضغط من القواعد مع الإجماع الكبير بين النخب، وتوضح المفاوضات حول الملف النووي هذه الحالة. فقد جاء انتخاب روحاني، مضافاً إلى مطالب الشعب الذي أرهقته العقوبات، أملاً باستعادة الحياة الطبيعية، ما اعتُبر محفزاً للعملية، علماً أن هذا الاتفاق ليس مرتبطاً بإنجازات رجل واحد. فالمرشد الأعلى علي خامنئي كان قد أقرّ المفاوضات الثنائية مع الولايات المتحدة قبل ترشّح روحاني للرئاسة. ثمّ دعم الجهود الدبلوماسية للرئيس الجديد وحماه من خصومه. لكن نظراً إلى حرص المرشد الأعلى على عدم المخاطرة، فإن دعمه لم يكن مطلقاً ولم يلغِ حاجة روحاني إلى التحالف مع مراكز قوى أخرى.
ينتمي الرئيس إلى المعسكر الجمهوري، الذي ينضوي في صفوفه أهم الحلفاء، أي رجال الدين البراغماتيين، ممن يسيطرون على المؤسسات غير المنتخبة. وكان لكل مجموعة قوية، يدٌ في هذا الاتفاق، ما عكس قراراً استراتيجياً وطنياً لطي صفحة الأزمة النووية رغم استمرار المخاوف حيال التزام القوى العالمية. كما يبدو أن المؤسسة الحاكمة مصمّمة أيضاً على تنفيذ الاتفاق بقدر تصميمها على إكمال المفاوضات، وغالباً للسبب نفسه، أي إنعاش الاقتصاد عن طريق رفع العقوبات، سواء حصل ذلك وفقاً للصيغة التي نصّ عليها الاتفاق، أو من خلال إظهار عدم مسؤولية إيران عن فشله.
كذلك، فقد واجه روحاني صعوبات في مجالات أخرى، حيث أُجبر على تجميد أولويات لم يتمكن من حشد إجماع كافٍ للإتيان بها، بما في ذلك إطلاق اللّيبرالية الاجتماعية والسياسية. غير أن أجندته الاقتصادية، هدفت دوماً إلى تحفيز النمو بعد بضع سنوات من الركود، ومن المرجح أن تمضي قدماً، رغم أنها ستلحق الضرر بمصالح قوية حققت مكاسب في ظل نظام العقوبات.
يشير كلّ شيء إلى أن روحاني سيستمرّ في اتباع النهج الحكيم عينه، وقد يأتي التغيير شاقاً، وبطيئاً ومتواضعاً. على الرغم من حثّ الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين على التحرّك بسرعة أكبر، لكن ما من سبيل لتسريع العملية الإصلاحية، في حين أن عدداً من الوسائل قد تؤدي إلى تقويضها. وربما يفشل السعي إلى تمكين الجمهوريين وهو ما يجري الحديث عنه في دوائر معيّنة بوصفه أحد النتائج الثانوية للاتفاق النووي، إذ يعتبر عدد من رجال الدين هذا النهج تكتيكاً رابحاً بهدف تغيير النظام.
ومع ذلك، فلن يمنح هذا طهران تفويضاً مطلقاً، سواء محلياً أو إقليمياً، إذ ينبغي معالجة القضايا المثيرة للقلق بحكمة، مع الأخذ بالاعتبار مخاوف واهتمامات طهران بالقدر نفسه الذي تُعالج به مخاوف واهتمامات خصومها. كما أن ذلك يعني أن الإيرانيين، رغم عدم مثالية نظام حكمهم، هم الذين من شأنهم مواقف بلادهم من دون تدخل خارجي لا مبرّر له. إن محاولة صوغ حسابات طهران الإقليمية من خلال جملة من الإجراءات التي تنطوي على استخدام العصا والجزرة، يُعدُّ ممارسة معيارية في السياسة الخارجية، إلاّ أن محاولة صوغ عملية صنع القرار نفسها أو الالتفاف عليها، لهو مسألة أخرى. وهذا ما بدا واضحاً في الاتفاق النووي، والآن في المجال الاقتصادي، فإن الإجماع الداخلي، الذي يتم التوصل إليه من خلال عملية محلية ذات مصداقية، هو الأساس الرئيسي الوحيد لتحقيق التقدم.
يتمثّل الخيار الأفضل للدول الغربية وإيران في الاستمرار في عكس السرديات السلبية الموروثة من عقود من التشكك والعدائية، وذلك من خلال التنفيذ الكامل للاتفاق النووي، وإيجاد قنوات منفصلة وغير مسيّسة لمعالجة القضايا الأخرى التي تُثير القلق أو تنطوي على مصلحة مشتركة وتدفع بالتالي، نحو ترتيبات أمنية إقليمية تأخذ بعين الاعتبار المصالح الإيرانية والعربية على حدّ سواء. في النهاية، قد لا تتمكن إيران والغرب من الاتفاق على مجموعة من القضايا فمحاولة اللعب بالنظام الإيراني ستضمن بالتأكيد عدم اتفاقهما.