أعظم ما في صواريخنا

نسيب أبو ضرغم

اللوحة الغزاوية قدّمت أبعاداً إضافية تصبّ في سياق المواجهة مع العدو اليهودي، وها هي الآن ترسم الخطوط الاستراتيجية المضافة إلى تلك التي رسمتها المقاومة في لبنان عام 2006.

غزة المحاصرة، غزة الـ400كلم2، غزة المتنقلة ما بين حرب وحرب، غزة هذه، استطاعت رغم غزارة الدماء وحجم الخراب أن ترسم معادلة جديدة شكلت انقلاباً استراتيجياً في حركة الصراع لمصلحتنا.

«إسرائيل» المفجوعة بتآكل قدرة الردع لديها في حربها عام 2006 مع المقاومة اللبنانية، «إسرائيل» تلك راحت تحاول الخروج من فيجعتها باستحضار «القبة الحديد» التي تراءى لها أنها تستطيع تدمير صواريخ المقاومة قبل وصولها إلى أهدافها.

«القبة الحديد» التي صرفت عليها مليارات الدولارات ووظفتها سياسياً ونفسياً بغية معالجة العطب الاستراتيجي الذي لحق باستراتيجيتها العسكرية، هي عينها تضيف إلى الفيجعة فجيعة أخرى، تشكل محطة هابطة في سياق التدحرج الاستراتيجي اليهودي الذي بلغ ذروته قبل نيسان 2000.

ماذا قدمت هذه «القبة» من شروط الأمان لليهود في فلسطين؟

هي تعدّت حالة عدم النجاح في اعتراض صواريخ المقاومة إلى إحداث فجوة موجعة وعميقة في الوعي اليهودي، الذي اعتبر في وقت ما أن هذه «القبة» هي درعه الواقية من صواريخ المقاومة، فإذا بالميدان يكشف عن حقائق أكثر إيلاماً من عجز «القبة الحديد» عن إفشال الصواريخ. هذه الحقائق هي أعظم ما أبدعته الصواريخ، والعظمة هي في خلق بذرة قناعة سوف تتطور مع الأيام لتصبح مسلّمة مؤثرة في سيرورة الوجود اليهودي في فلسطين، بذرة القناعة هذه، هي في التساؤل الأولي الذي استولدته صواريخنا في ذات المغتصب اليهودي وعقله، التساؤل المحدّد في:

هل يمكن بعد هذه الصواريخ أن يكون لـ«إسرائيل» أمنٌ وأمان؟

وهل بقاء اليهود على أرض فلسطين أمر ممكن على المدى الطويل؟

لا شك في أن صواريخنا فرضت هذا التساؤل الوجودي أضحت منذ عام 2006 مروراً بجميع حروب غزة اللاحقة، وصولاً إلى الحرب الحالية، حجر الزاوية في عملية تفكيك المجتمع اليهودي في فلسطين.

بناء على ذلك، بات لزاماً على أصحاب القرار جميعاً أن يبنوا على حجر الزاوية هذا، ليطوّروا التساؤل إلى قناعة تتعلق باستحالة الاستمرار على الأرض الفلسطينية.

صواريخنا عام 2006 وعام 2014 وضعت حجر الأساس لهذا النهج، وبقي أن تكتب صواريخنا المقبلة والآتية من رحم النار خريطة طريق العودة المعاكسة لليهود، عندئذ نستطيع خلق القناعة في ذهن اليهودي المغتصب أن لا أمل له في البقاء سالماً على أرض فلسطين، ونكون أدخلنا المفتاح في قفل الباب الذي أوصد في وجهنا منذ عام 1948.

ليست المسألة في غزة مسألة خسارة أرواح، على أهمية ذلك، أو خسارة ممتلكات. المسألة هي أن غزة بصواريخ سورية والمقاومة وإيران غيرت قواعد اللعبة، وأضحت «إسرائيل» تطالب بوقف النار، بعدما كانت هي التي تفرض النار وتفرض شروط إيقافها.

المسألة أنها أسقطت هذه البروباغندا اليهودية ـ الأميركية ـ العربية ـ التركية التي تصرّ على أن الصراع هو صراع بين السنة والشيعة، فإذا بهذه الصواريخ تسقط تلك النظرية المجرمة، ويثبت على الأرض أن القضية الفلسطينية، جوهر القضية القومية، تتعدى هذا التصنيف الوقح، وبالتالي فصواريخ الذين يهاجمهم الأميركي والعربي والتركي والـ»إسرائيلي» لكونهم يشكلون «الهلال الشيعي»، هي عينها تعطى لحركة حماس ذات الإيديولوجية «الإخوانية»، والصواريخ ذاتها تعود الآن لترفع صهيل الفجر القومي الذي بدأ عام 2000.

ديمونا تحت النار، القدس تحت النار، حيفا تحت النار، المستعمرات تحت النار، مطارات «إسرائيل» وموانئها تحت النار… أليس هذا هو الانقلاب الاستراتيجي بعينه؟

أعظم ما في صواريخنا أنها لا تسكت، ولا يملك أحد قدرة على إسكاتها. قادرة على أن تطول كامل مساحة فلسطين، منزلةً الخراب الاقتصادي والمالي، وقبل كل ذلك ممزقةً «الوعي اليهودي». صواريخنا من جهة وعجز «إسرائيل» عن الاقتحام البري من جهة ثانية، ذلك أن حرب لبنان 2006 علّمتها دروساً بأن عصر الاجتياحات قد ولّى.

بين هذين الحدّين، ولد الانقلاب الاستراتيجي في حركة الصراع لمصلحتنا، وصار الوقت يعمل لمصلحتنا نحن.

هي تخسر كل يوم 40 مليون دولار، وستزداد الخسارة مع إطالة عمر الحرب. هي تواجه 30 من صواريخ المقاومة المتدنية الكلفة ببطاريات الصواريخ العالية الكلفة.

نحن نرمي عن كواهلنا عبء التفوق «الإسرائيلي» بابتداع حرب الصواريخ، وهم يتفسخون نفسياً تحت وطأة أسئلة الوجود التي يطرحونها على أنفسهم.

أثبتت حرب غزة أن عصر الهزائم قد ولّى وأتى عصر الانتصارات. لا هزائم لنا بعد العام 2006.

أعظم ما في صواريخنا ذاك الصهيل الذي أخذ يسبق فجر التحرير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى