بوح الخاتم… وفاتحة النصر!

على خِوان طعام قال لها، واللقيمات تكاد تبلع الكلمات: «أي أمّ البنين، متى كنت عندهم؟».

ـ اليوم صباحاً… وكان حوار تخلّله بعض من هنات وهنات. ولكن، وأنا أزرع الطريق راجعة بخطى متسارعة تساءلتُ: أطويل طريقي في ذلك أم يطول؟ ولكنني ها أنا أخيراً معك على خِوان الطعام بخير.

أجابها: بلى، بلى. ولكن، أين هو الآن؟

ما أن لفظ كلمته الأخيرة، حتى أقبل الابن كآذار طلق يختال عبر حدائق أرواح بنوروزه ووروده، لكنّه أتى وملء نظراته أشواك قدّت من نفس قلقة مضطربة.

نادى الأب ابنه أن يكون ثالث ثلاثة على خِوان الطعام: تعال نتعشى سويّاً!

ثمّ، ألَم تَرَ يا بنيّ، وأبواها على فقرهم النبيل كأنهم عائلة دونكيشوت؟ أو أنّ الأبوين سنديانتان تحيطان بشجيرة ورد يريانها كدرّة نادرة لم يخلق الإله لها مثيلاً بعد؟

ردّ فوراً على أبيه: نعم نعم يا أبي، وأنا أراها كذلك، ثم ما العيب في ذلك؟ بل هي أجمل وأغلى بنات الأرض!

انظروا بعينَيّ سترون الرؤية ذاتها! أبي، أبي، ألا ذهبت فحدّثتهم وخطبت لي إليهم؟

تدخّلت الأمّ وقالت: حسبك يا بني، أنا كنت عندهم هذا اليوم وعلى موعد مسبق، كادت الطريق تأكلني، تجشّمت المشاق، وسيخطبونها!

خفق قلب الابن المضطرب لدى سماعه الكلمة الأخيرة! نظر بعينين كأنهما غابتا سراب ساعة زوال أو جرفان هاربان قد أطلا على فضاء لا متناه من ثقوب سوداء!

ثم نظر نظرة يسوّل بها كلماتها لعلّ لها تفسير آخر، لعلّ بها ومض من جبل الجودي. كاد يبتلع جسده، يتلاشى، يخرج من سمّ خيّاط لعلّ وعسى! أم راح يخرج من روح إلى نفس حزاماً ناسفاً!

صات، صاح، صرخ: الله، الله يا أمّاه! لا لن أنتحر، لن أكفر. ماذا قالوا؟

ماذا يعني قولك سيخطبونها يا أمّاه؟ ولمن؟

خاف الأب على ابنه، صبراً، لربما يتبيّن شيء ما من مجاهيل كلام الأمّ، يقول: لمن سيخطبونها يا أمّ البنين؟

أجابت الأم عجباً لكما، وقد انفحرت اثنتا عشرة دمعة فرح من كبدها على كبدها.

تقول: لك، لك سيخطبونها يا بني، لك لك يا كبدي سيخطبونها يا قلبي ع .

قام الابن من نفسه قيامة نهار من ليل، شهق شهقة حياة، شهقة تفلّتت من براثن غيبوبة متوحشة، وصاح: أماه، أمّاه، أنا؟ أكيد أنا؟ أصحيح ما فهمته، ما سمعته؟ أصحيح ما فهمته، ما سمعته؟ أصحيح أنا و م سنؤلّف معاً عائلة شامية نبشّر بها عرائس بردى والنيل، وجمهورية السنديان والنخيل؟!

وافترت شفتا الأمّ عن كلمة وحرفين كانت كافية لتؤلف ديوان الحياة، وقالت وهي تزغرد: مبروك لك!

قام ع يقبّل يديّ أمّه، يديّ أبيه، رأسيهما، يقبّل ذا الجدار وذا الجدار، يقبّل الحياة! الفرحة لا تسع فضاء حبّه، ذلك الفضاء الجديد الذي ازدحم بالشموس الوضّاءة التي، وبأسرع من البرق، استطاعت أن تمحو كلّ الثقوب السوداء!

استأنف ع يتواعد و م كلّ أسبوع، يلتقيان ساعة ما، ليطوفا بجيوش من رؤى المستقبل الواعدة الراغدة. وتمرّ ساعة اللقاء كريشة قلقة طائرة تتقاذفها تجاذبات عاصفة لا تستقرّ على جهة. عاصفة مجنونة من حبّ ينقلهما إلى أسبوع آخر، وآخر، وآخر. ثم إلامَ الانتظار أكثر؟ هلمّ، هلمّي!

وبعد أيام، أشرقت الشمس ليلاً! وكالعادة ذهب للقائها في موعد كانا قد رسماه عساهما يختصران الأرض وطناً والزمن ساعة، ويتّحد النصفان!

حثّ الخطى إلى شجرة السنديان، انتظر، صبر، انتظر، صبر. تعب الانتظار، نفذ الصبر. زرع المكان جيئة وذهاباً وقلوباً تنبض. وتسمّر في مكان، فراح المكان يزرعه جيئة وذهاباً وذرّات من تراب تنتفض. يئس، مضى الوقت بعد الوقت، كاد أن يغرب عن وعيه عند غروب الشمس. لا، لا، وصاح صيحة من دفن حيّاً في قبر! لا ! أجاءته خطواته الشاردة إلى باب البيت، فتح الباب، استيقظ من شروده على أصوات غريبة، أصوات فرح يبكي، بكاء يفرح ! ما هذا يا ناس؟!!

تسارعت خطواته إلى أمه، أبيه، إلى أخته، إلى أيّ كائن آخر، إلى أيّ شيء آخر، يصيح، يسأل: ردّوا، إذا أنت لم تسمع بعد؟!

ألم تسمع يا ع أين كنت؟ أين أنت من م ؟ وبضحكات غارقة في الدموع قالت له أخته، صدحت له أخته: مبروك، مبروك لك يا أخي: قتل الحلم ولم يمت، إنه حيّ أبداً. لقد استُشهدت م !

ثم تابعت قولها بكلمات من جمر، كأنها حُنّطت بثلج: إنها، إنها قذيفة متوحّشة، اختارتهم في الحيّ نفسه الذي استهدفته قذائف من قبل! ثمّ، ألم تسمع يا أخي أنه حتى مجلس وحوش الغابات، استنكر أن يسمى بِاسمها «ربيبو» أبو غريب وغوانتنامو وما إليهما ممّن شُحنوا بالكبتاغون؟

أخي، أخي، هلمّ الخاتم فقد سلم من القذيفة، قذيفة وارثي إبليس وقابيل التكفيريين القتلة!

أطرق ع إلى الخاتم، قبّله لكنّ الخاتم بدوره قبّل ع قبله ذات شؤون وشجون.

صاح ع صيحة ملأت الجزيرة وما إليها فزع بها إلى تكذيب الخبر: لا، ، أنتم أيها الصادقون… كاذبون. وتذكّر قول المتنبي المفجوع بحبيبته من قبل يقول:

طوبى الجزيرة حتّى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

ومع توالي الأيام، شخصت السنديانة أمامه بيتاً، وشخص الوقت، الأرض، الجدول، الساقية، العصفور… مفردات، نصفه الآخر م ، وشخص خيالها طاقة كاريزما، طاقة تتنكّب بندقية. إنه قراره الأخير: سأقاوم، سأقاوم… ومضى يشقّ عباباً في إثر عباب، يشتقّ من تدمر وأوغاريت، ومن قاسيون وإيبلا، ومن نجمة دمشق وحائط حوران، ومن فينيق بردى يرفّ بجناحيه النيل والفرات. كتب بها وعليها: أحببتك وسع الكون وكبر العالم. أنت سورية، أنت سورية، أنت سوريانا العظيمة! في كلّ طلقة صلاة، في كلّ صلاة نصر… يا حبيبتي!

التوقيع: الشهيد ع

سحر أحمد علي الحارة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى