ارحموا مَن في الأرض… قبل أن يسبق السيف العذل
د. سلوى خليل الأمين
أليس من العدل والإنصاف حتماً، أن يصغي المسؤول إلى مطالب الناس؟ ألم يدرك المسؤول لتاريخه أنّ الاستماع إلى الرأي الآخر، البعيد عن محازبيه، هو من واجباته المحدّدة ضمن القوانين المرعية الإجراء؟ ثم أليس من الصواب أن يعمد المسؤول، الذي مُنح وكالة عامة عن الشعب، أن يعترف بالخطأ حين حدوثه وأن يصوّب المسار بالتي هي أحسن؟
فالمواطن في لبنان بات في الدرك الأسفل من الفقر والحاجة، عدا فئة قليلة محظية بقربها من ذوي السلطة، تنعم بخيرات الوطن المستباحة لمن يده أطول في الغَرف من خزينة الدولة وحقوق الناس، الذين تعلو أصواتهم بالمطالبة بما هو حق لهم على المسؤول في دولتهم العلية، حيث لا يجوز تجاهل حقوقهم أو إسقاطها من الأجندات اليومية! فكيف يجوز تجاهل حقوق الموظف في منعه من الحصول على زيادة راتب تضمن كرامته وكرامة عائلته، مع كلّ ما قدّمه ويقدّمه للدولة العلية من خدمات، أكلت ريعان الشباب، حتى إذا ما بلغ من العمر عتياً، تقاعد عن راتب لا يكفيه ثمن طبابة ودواء مع قوة ارتفاع مؤشر الغلاء المستشري دون رقابة ولا من يراقبون، فضلاً عن ضعف الليرة اللبنانية التي باتت هزيلة القيمة، لا تغني من جوع!
لقد نزل المعلمون بالآلاف إلى الشوارع، كذلك أساتذة الجامعات، والموظفون في الإدارات الرسمية، والعاملون في مؤسسة الكهرباء، وها نحن نشهد اليوم اعتكاف رجال الإطفاء عن تأدية مهامهم الوظيفية بسبب القهر الواقع عليهم ظلماً وعدواناً، والمشروط في مجلس الوزراء بزيادة تعرفة البنزين، التي هي من حق اللبناني الذي يدفع خدمة الدين العام الذي ابتلي به جوراً وقسراً، وما زال البعض من المسؤولين يعلي الصوت صارخاً بزيادة الضرائب من دون رفة جفن…
ترى لماذا لم يعترض البعض في هذه الحكومة على الزيادة التي يبشروننا بإقرارها في الجلسة المقبلة، أليسوا هم أوْلى بدفع هذه الزيادات من أموالهم التي نهبوها من خزينة الدولة وكدّسوها في خزائنهم ثروات لولد الولد؟ ثم ألا يعلمون انّ كلّ لبناني يعرف تفاصيل حركتها وتجميعها؟ فما رأيكم يا سادة الوطن بأن يتبرّع كلّ منكم بجزء من ماله ويسامح الدولة براتبه، كي يُصار إلى تأمين سلسلة الرتب والرواتب، وكذلك حقوق رجال الإطفاء المحقين في مطالبهم الإنسانية.
هنا يطرح السؤال أين العدالة؟ بل أين الحرية والديمقراطية حين الدولة أصبحت مجموعة مزارع؟ لكلّ فريق مزرعته القائمة على تشليح الناس حقوقهم التي كفلها الدستور، وطمس أفكارهم الإبداعية وتطلعاتهم المستقبلية، حيث كلّ ما يهمّ المسؤول هو إغلاق أذنيه عن سماع حالات الاعتراض الشعبية، وأهمّها أيضاً قضية النفايات وما يتبعها من مباحثات باتت تجارة رابحة، علماً أنّ ما يقوم به الناس من اعتراضات وما يجاهرون به من أقوال هو الحق بعينه… الذي يجب أن يتمّ الاعتراف به، كي يبقى المسؤول مسؤولاً وطنياً!
هنا لا بدّ من تذكير المسؤول بقراءة التاريخ، والعودة إلى جوهر الديانات السماوية وحتى البوذية أو العلمانية المتقدّمة، حين قيمها ومضامينها تقوم على أسس العدالة وقيم الخير والرحمة التي توجب تدبير أمور العباد.
لذا سأبدأ بما خاطب به بوذا الظالمين ق.م. قائلاً: «… فيا من تقترفون المظالم، انتبهوا إلى أنفسكم، وانظروا الأشياء بأعيانها لا بظواهرها، ولا تستسلموا إلى عبودية الذات، فتقعوا في شرّ أعمالكم، واعلموا أنكم لا تجنون من العلقم عنباً».
وجاء في التوراة «العهد القديم» مزمور 33: 4ـ 5: «كلام الرب مستقيم وكلّ أفعاله حق، يحب العدل والإنصاف ومن رحمته تمتلئ الأرض»، طبعاً عمد حاخامات بني صهيون إلى تغيير النص لصالح أهدافهم الشيطانية.
بعدها أتت المسيحية لتقول: «… على أنّ كلّ الأحكام يجب أن تتخذ بعدالة وعلى الإنسان أن يكون متيقظاً لكي لا يسقط في أحكام الشرّ»، وقد جاء في الإنجيل العهد الجديد: «أيها السادة عاملوا عبيدكم بالعدل والمساواة عالمين أنّ لكم أنتم أيضاً سيداً في السماء».
أما الإسلام فعدّ العدالة ركناً أساسياً من أركانه العبادية، لهذا أكد القرآن الكريم على إقامة العدل بين بني البشر أجمعين مركزاً على العدل، والقسط، والميزان، وأن لا إكراه في الدين، وجادلهم بالتي هي أحسن، إلى ما هنالك من فرائض محكمة توّجت في سورة النحل بالقول: إنّ الله يأمركم بالعدل والإحسان، الآية 90، ومن ثم تمّ فرض الزكاة على كلّ مسلم ومسلمة… بالقول: «في أموالكم حق للسائل والمحروم».
أضف إلى ذلك تأتي آراء الكتاب والفلاسفة والمفكرين السياسيين العلمانيين الذين أثروا الحياة بأفكارهم التنويرية التي تدحض الباطل وتنصر الحق المقرون بالعدالة الاجتماعية والمساواة حسب قول الفارابي: «العدل أولاً يكون في قسمة الخيرات المشتركة التي لأهل المدينة على جميعهم».
كذلك فإنّ ابن خلدون حدّد طرق العيش بين البشر بالقول: الإنسان لا تستقيم أحواله إلا بالعيش مع غيره من بني جنسه، وإنّ الأمل الذي يراود الناس من حين إلى آخر في ظهور منقذ يصحّح الأوضاع ويقيم العدل يبقى قائماً».
أما أنطون سعاده فيقول: «… كلّ نظام يحتاج إلى الأخلاق بل انّ الأخلاق هي في صميم كلّ نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى»، إضافة إلى ما قاله غيره من مؤسسّي الأحزاب التقدّمية العلمانية كالبعث وحركة القوميين العرب وغيرهم، حين أصرّوا في مبادئهم التنظيمية على أنّ قيمة المواطن تقدّر بعد منحه الفرص المتكافئة.
ترى لو كان إبداء الرأي والمطالبة بالحقوق الواجبة خطأ جسيماً يعاقب عليه المواطن، لما كانت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والأفكار التقدّمية لها هذا الكمّ من الأتباع والمريدين، الذين يدركون مبدأ الخير ومبدأ العدالة اللذين تبنى عليهما القيمة السياسية، التي هي بالنتيجة قيمة أخلاقية لها تأثيراتها على المحازبين والأنصار، كما أحدثت ورقة التفاهم، بين حزب الله والتيار الوطني الحر، هذا التقارب السياسي المثبت بعشر سنوات صلبة المسار، بنيت على الأخلاق والوجدان المنقّى من الشوائب والخلافات السطحية بين الفريقين.
لكن هل استطاع هذا التفاهم أن يعكس مفهومه للدولة العادلة على مواطني هذا الوطن الغارق بالفساد والإفساد؟ هنا لا بدّ من التذكير بما قاله جون رولز أستاذ الفلسفة في جامعة هارفرد الأميركية في كتابه «نظرية العدالة» الصادر في العام 1972 الذي جاء فيه: … انّ الخير من الممكن أن يكون قيمة سياسية، لأنّ القيمة السياسية هي قيمة دينية وأخلاقية أيضاً لها تأثيرات هائلة في الفلسفة السياسية». لهذا المطلوب الاهتمام اكثر وأكثر بمصالح الناس الذين هم مصدر السلطات والأمن والأمان.
ما يؤسف له أنه في لبنان يحدث العكس، يستغبون الشعب، ويهملون أهل الفكر والثقافة، ويقرّبون منهم القادر على تقديم فروض الطاعة طمعاً في جاه أو مال، دون الأخذ بعين الاعتبار المبدأ الأسمى لصلاح الوطن الذي يكمن في نشر مبدأ العدالة بين الناس، التي يرعاها الدستور، الذي ينص على أنّ الشعب مصدر السلطات، وأنّ تطبيق القانون أمر لا يجوز تجاوزه أو التلاعب بمضامينه مهما كانت الأسباب.
في النهاية لا بدّ من التذكير بأنّ لبنان ينوء بأطماع مسؤولين طمسوا ثرواته النفطية، وأفرغوا كرسي رئاسة الجمهورية بسبب خوفهم من الرئيس القوي المؤمن بالإصلاح والتغيير، حيث المثل يقول: «من بجنبه مسلة تنكزه»، لهذا يبقى الشعب اللبناني برمّته، ضاجّاً بالقرف واللامبالاة، التي يدرك جيداً المسؤول في السلطة أنها ستكون قصاصاً قاسياً لهم في الانتخابات المقبلة لا محالة. لهذا فإنّ الشاطر من يراجع حساباته ومن يرجع إلى كتب التاريخ يستسقي منها الإلهام الموجب لكيفية إدارة الأزمات، وليس أدلّ على ذلك من موقف للخليفة عمر بن الخطاب حين حاججته امرأة في أمر أصدره واعترضت عليه، حينها ألغى قراره… قائلاً: «أصابت امرأة وأخطأ عمر».
لهذا نأمل أن يقرأ جيداً من في يدهم الحلّ والربط بعض ما لخصته لهم من أمّهات الكتب التاريخية، علّهم يعودون عن كيدياتهم لينتخبوا رئيساً للوطن يشاركونه الإصلاح والتغيير، حتى يتمّ استقرار الوطن والمواطن على حدّ سواء، وحتى يتعاون الجميع في استخراج ثرواتنا النفطية التي ستجعل لبنان في غنى عن الأموال المستوردة، ساعتئذ يصحّ القول لبعض المراهنين على الخارج… أيضاً: ما النفع أن يرضى الآخرون ولا يرضى أهلك وناسك الذين هم اللبنانيون جميعهم، فارحموا مَن على الأرض اللبنانية، قبل ان يسبق السيف العذل، وتأتي التغييرات التي بدأت تباشيرها بالظهور، امتداداً من إيران حتى فرنسا وأميركا وهلمّ جرا…
رئيسة ديوان أهل القلم