تركيا والنقلة الأخيرة… كِش ملك!
تحرّكت تركيا بمكانتها الحاسمة وقدراتها الهائلة كلاعب إقليميّ محدِّد لقواعد اللعبة منذ بداية الأزمة في سورية قبل أن تصير حرباً. وكانت تركيا بنظامها الفريد، بعبقرية صناعته المشهودة، بذكاء لاعبيها، تستعدّ لإطلاق مشروعها بوضع حلم العثمانية الجديدة قيد التطبيق، وهي العلمانية التي يحكمها حزب دينيّ هو تنظيم «الإخوان المسلمين»، المتبنيّة مواقف تدافع عن استقلال قرار دول المنطقة، وهي العضو في الحلف الأطلسي، المتحمّسة والمتعاطفة مع حقوق الشعب الفلسطيني جهاراً، وهي المتمسّكة بتحالفات عسكرية وأمنية استراتيجية مع «إسرائيل» .
لقد توفّر لتركيا كلّ ما تحتاج إليه لاختبار فرص الفوز باللعبة. فهي صاحبة الدور المستور، والقادرة على كشف ما تحب وما تشاء منه. وهي صاحبة القرار في تحريك الحدود، أو إبقائها مقفلة أو فتحها باتجاه واحدٍ أو بالاتجاهين. ولكن على صنفين مختلفين، مسروقات حلب واللاجئين نحو تركيا والسلاح والرجال إلى سورية. وهي التي تعطي الإشارة من موقع الخبير الذي لا يجادل بين حلفائه بجمع خبرتَي العلمنة والإسلام، فتقول تقدّموا فيتقدّم الجمع وتقول تراجعوا فيتراجعون. للمرّة الأولى بدت واشنطن صاحبة المشروع الذي سلّم الإدارة والتنفيذ لمتعهّد بطريقة الـ«بي أو تي»، أي بناء وتشغيل وإعادة .
على رقعة الشطرنج المعقّدة، ومع لاعبين استخفّ الأتراك بمؤهّلاتهم وقدراتهم ودرجة توتّرهم وتحسّسهم لما يحدث، قامت القيادة التركية بنقلات حجارتها تباعاً، وسجّلت نقاطاً هامة في البدايات، فسقطت تونس ومصر وبعض اليمن وبعض ليبيا وبعض سورية في حضن مشروعها. مرّة كان الوزير، بما له من قدرات في لعبة الشطرنج يصيد حجارة الخصوم، وهو تنظيم الإخوان هنا. ومرّات كانت القلعة وهي قناة «الجزيرة» تمهّد الطريق للتقدّم والتراجع، وكثيراً ما كان البهلول يرمي نيرانه العرجاء، وهو حلف الأطلسي في اللعبة العثمانية فيجري سحبه من ساحة الاشتباك. وغالباً ما كان الحصان بحركته الملتوية يخرج من خلف الصفوف ليسدّد ضرباته وهو هنا السعودية بوهابيتها ومالها ونماذج مهجّنة من تنظيم «القاعدة» بمواهب ومهارات متعدّدة. ولكن اللعبة لم تلحظ قواعد اللاعبين الواقفين على الضفة الأخرى من الرقعة ـ أو الذين سيقفون تباعاً ـ وحساباتهم ومهاراتهم .
لم يُقِم الملك التركي أردوغان حساباً لمعنى سلاح الصبر الذي كان السلاح الرئيس للرئيس الواقف قبالته على الضفة الموازية من المباراة التاريخية على ملعب الجغرافيا. فتلذّذ بمشهد تهاوي الجنود أمامه، ومثلها سقوط مساحات من الرقعة المفتوحة لحركة حجارته براحة أكبر ليقضم منها بأسماء متعدّدة ما يشاء. لكن سلاح الصبر كان يستنهض كوامن التاريخ والجغرافيا ليصير الوزير الذي يستند إليه الرئيس السوري إيران بكلّ ما لديها من يقين بِصلة ما يجري بمستقبل الصراع مع «إسرائيل»، وقلعته صارت المقاومة، والبهلول والحصان ليسا إلا مناورات وحركات مفاجئة يأتي عبرها القيصر الروسي في لحظة مباغتة تغيّر قواعد اللعبة.
يشعر الملك التركي اليوم أنه في ضيق يشبه لحظة دفن الأحياء، وتهاوي التراب المنهال على جسد المدفون حيّاً وضيق أنفاسه، واختناق صوته. وتكفي رؤية رجب أردوغان وهو يهذي متلعثماً لا يعلم بما يتحدّث لمعرفة حال الهستيريا التي يعيشها. فهو يهدّد أوروبا بفتح الحدود رسمياً للاجئين السوريين، لأنه تورّط وقال: لن نقف مكتوفي الأيدي. وتأمل بذهول مضمون ما يهدّد به وما يمكن أن يفعل وما يمكن أن يقول ترجمة للتهديد. فما بقي في الجعبة إلا التهديد باللاجئين. وها هو يقول إن تطهيراً عرقياً يجري في ريف حلب، وإنّ مجازر شرسة تُرتَكَب. وهو يعلم أنه هذيان بهذيان. وعندما يصل ليلفظ مفردة بناء المنطقة الآمنة من دون تغطية من أحد، شاء من شاء وأبى من أبى، يكاد ينطقها ثم يتراجع ليقول: ولكن هذه ليست مسؤولية على تركيا حملها منفردة، فعلى العالم أن يكون شريكاً. ولكن تركيا لن تقف متفرجة، فماذا تفعل؟ يعود ويكرّر: تترك اللاجئين يذهبون إلى أوروبا .
أردوغان صار كملك الشطرنج بعدما مات الوزير وحوصرت القلعة، وأخرج بهلوله وحصانه من اللعب، ويلوح أمامه من بعيد اقتراب الملك المقابل منه نقلة نقلة، من دون أن يعتمد المدى البعيد لرمي الوزير والقلعة في شطره من رقعة الشطرنج، إلا للحصار والحماية وتأمين الظهر. مصرّاً أن يتقدّم ملكاً لملك، ليلفظ كلمة كش ملك، فيرتعش أردوغان هلعاً من رؤية اللحظة تدنو، والمشهد يقترب وترتعد فرائصه، على ما تبقى من وقت يعينه في الاستغاثة بمخرج نجاة يسلم عبره بالهزيمة من دون سماع عبارة: كش ملك!
أردوغان إن تورّط في سورية سيقترب من لحظة كش ملك، وإن لم يتورّط فستقترب منه لحظة كش ملك. هي النقلة الأخيرة دائماً تكون هكذا، كش ملك أو كش ملك.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.