باريس تقيم معرضاً للسويديّ كارل لارسن… رسّام الحياة العائليّة الهادئة

يحتضن القصر الصغير في باريس معرضا يضمّ مئة وعشرين لوحة لرسام السويد الأشهر كارل لارسن 1850 /1919 توزعت بين الرسم المائي والرسم الزيتي والحفر والنقش وحتى قطع الأثاث، وهي أعمال تأخذ الزائر إلى حياة منزلية هادئة في ريف جميل تلفه السكينة، كرمز لنمط الحياة السويدية.

ينحدر كارل لارسن من أسرة فقيرة، ولولا معلمه الذي لمس لديه استعدادات فطرية لما استطاع الفتى أن ينمي موهبته ويقتحم عالم الفن، إذ ألحقه في سن الثالثة عشرة بالدروس التحضيرية المؤهلة لأكاديمية الفنون الجميلة. ورغم الصعوبات المادية وازدراء رفاقه من أبناء المترفين، ظل يتابع دروسه، ويقيم أوده من عائدات ما يرسمه من كاريكاتور لبعض الصحف أو الصور التوضيحية للكتب والمجلات.

بذلك ضمن عيشه أولاً وسجل حضوراً لافتاً ثانياً، ولكنه كان يحمل في نفسه طموحاً أكبر من القناعة بمهنة «رسام كتب». فلما اشتد عوده ولم يذع بعد صيته قرر عام 1877 أن يزور باريس فلم يلق فيها ما كان يأمل إذ رفض صالونها عرض أعماله الأولى. عندئذ انتقل إلى ريف غري سور لوان قرب غابة فونتينبلو في فرنسا حيث التحق بجالية من الفنانين، أنكلوسكسونيين واسكندينافيين، تلمّس بينهم رؤية مغايرة للطبيعة واستكشف تقنية الرسم بالألوان المائية للإمساك بتأثيرات الضوء المغبشة، الشبيهة بالأبخرة، وتقنية التقاط أعمال الفلاحين والمزارعين في رتابتها وخصائص تقاليدها. هناك التقى رسامة سويدية تدعى كارين برغو أحبها وتزوجها بعد سنة من وصوله عام 1883 وأنجبت له ثمانية أطفال، وذاك ما سيكون له أطيب الأثر في مسيرته، إذ غدت الأسرة مركز اهتماماته ونمط عيشها الموضوع الرئيسي لعدة لوحات وألبومات مثل ألبوم «بيتنا».

عاد لارسن مع أسرته إلى السويد عام 1888، وكان بدأ يحوز بعض الاعتراف سواء من صالون باريس عن بعض لوحاته المائية التي اقتنت الدولة الفرنسية منها لوحة واقتنى المتحف الوطني في ستوكهولم اثنتين، أو من هذا المتحف الأخير الذي كلفه بزخرفة مدارجه الشرفية بجداريات لا تزال ماثلة حتى اليوم، أو من الوسط الفني والأدبي.

كان يرسم بورتريهات لشخصيات معروفة مثل أوغست سترندبرغ وسلمى لاغرلوف التي توجت لاحقاً بجائزة نوبل للآداب. لكنه سوف يفرض نفسه في سجل مغاير، هو توصيف حياته العائلية في بيته في قرية سندبورن في منطقة داليكارليا. عام 1901 استقرت العائلة نهائياً في هذا البيت الذي يسميه لارسن «ليلاً هيتناس» أي الكوخ الصغير، وفي نواحيه رسم زوجته كارين وكانت هجرت الرسم بعد الزواج واستغلت موهبتها في تزويق البيت ونسج أقمشة ذات ألوان زاهية وطلاء الأثاث بالبرتقالي والأزرق والأحمر. أما أبناؤه وبناته فكان يرسمهم داخل البيت، وخارجه، في فضاء تحيط به الغابات والأودية وبحيرات يلتم على ضفافها المصطافون وصيادو السمك ويمخر عبابها هواة الزوارق. جمال طبيعي وجد فيه لارسن ضالته فاتخذه خلفية لحياته العائلية، مازجاً العادات الريفية الخشنة بالأسلوب الياباني والفن الجديد. وبذلك استنبط وزوجته أسلوباً غير مسبوق سيكون له أبلغ الأثر في فنون الـ»ديزاين» في القرن العشرين.

ينفتح المعرض على لوحات مشرقة ومغبشة كان رسمها لارسن في أرياف فونتينبلو. امرأة شابة في بستان خضر، رجل عجوز في مشتل، بركة غري سور لوان. كلها تعكس جواً هادئاً سوف يتواصل حضوره في سائر أعماله.

ثم يدخل الزائر عالم لارسن الحميم. هنا كرسي حذو كنبة استعارهما المعرض من بيت الفنان الذي تحوّل اليوم إلى متحف ، معروضان تحت لوحات ذات أطر عصرية تذكر بأطر الصور الشمسية، وفيها يصور لارسن مشاهد من الحياة اليومية: فتاة تحوك، أو تكتب، أو ترتب المائدة، أو تقرأ. ولد يطالع أو يتعهّد الأزهار بالسقي والتشذيب. وكارين، زوجته، تعدّ الأكل في المطبخ، أو تسترخي في الصالون. أفراد العائلة وهم جالسون إلى مائدة عريضة يفصّصون قرون البسلّة.

هو أيضاً كان حاضراً في الصورة لوحة «الفنان في الهواء الطلق» مثلاً رسم نفسه فيها وهو يعمل وحوله عائلته في فضاء مشرع يكسو الثلج أديمه. ذلك الكون الهادئ المزين بذوق وعناية ظلّ على مرّ الأجيال نموذج الشبان والشابات السويديين المقبلين على بناء عش الزوجية. وجعلوا من ألبوم «بيتنا» والألبومات التي تلته رمز أمة تفخر برفاهيتها المنزلية وقيمها الإنسانية. بل إن تأثير تلك الرسوم المائية في عمليات التزيين في البيوت السويدية لا تزال حاضرة إلى اليوم. وإن كان للتأطير فضل كبير في الجانب الفاتن لتلك الصور، وهي سمة تميّز بها لارسن عن تابعيه.

رغم النجاح الذي حققه، والانتشار الذي سجلته أعماله، أمضى لارسن بقية حياته متألماً، متأثراً من مآل لوحته «قربان الانقلاب الشتوي» التي يعدّها أنضج أعماله، فقد حزّ في نفسه أن ترفض الدولة اقتناءها عام 1915، وكتب يقول في مذكراته أن ذلك الرفض دمّره. تلك اللوحة بيعت لليابان ولم تعد إلى ستوكهولم إلاّ عام 1992.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى