المصالحة…؟
راسم عبيدات
ماراثون المصالحة الفلسطينية بين طرفي الانقسام فتح وحماس كماراثون المفاوضات العبثية… جولات وجولات… لقاءات وحوارات واتفاقيات… مصافحات وابتسامات امام الكاميرات ووسائل الإعلام… وحديث عن الوطن والوحدة الوطنية ومقارعة المحتلّ بخطب نارية وإنشائية…
أما في الميدان فلا ترى أثراً لذلك، ما أن يجفّ الحبر والتوقيعات، أو بمجرد مغادرة الكاميرات… نعود إلى مسلسل الردح والتخوين والتكفير والاتهامات المتبادلة والتعبئة الداخلية الحاقدة التي تتجاوز الحقد والعداء للمحتل…
المصالحة تجري بأفق عشائري بحت، ولذلك دائماً تبقى النار تحت الرماد، ما أن تهبّ نسمة هواء حتى تشتعل من جديد. سياسة «تبويس» اللحى و«الوجوه»، الكفلاء هم من يرعون تلك المصالحات، وكفلاء الدفع من مشايخ وأمراء لا يختلفون عن شيوخ ووجوه العشائر… دائماً المصلحة الفئوية والخاصة فوق مصالح الوطن… «المحاصصة» هي العنوان ومَن الذي سيقود ويسيطر، الرواتب والوظائف، هي عقد المصالحة… لا أحد يريد الشراكة الحقيقية.. فقط هو صاحب المشروع الوطني، والذي قدّم التضحيات من أجل الوطن؟ والباقي هم على الهامش لا قيمة لنضالاتهم وتضحياتهم… المهمّ أنا ومن بعدي فليأتِ الطوفان… الجماهير لا قيمة لمواقفها ورأيها فلتصرخ ولتقل ما تشاء، نحن نفرض ما نريد، هي الوقود والحطب، ونحن من نقطف الثمار…
لقد ضاقت الجماهير ذرعاً بكم، وغضبها المعتمل في الصدور ونقمتها عليكم وعلى الفصائل تتصاعد يوماً بعد يوم، ولربما تبلغ ثورة غضبها ذروتها وتنفجر… وها هي تقود هبّتها الشعبية ليس بأمر منكم ولا بقيادتكم… وحتى أنكم تخشون مفاعيلها وتطوّرها… وتبحثون عن أفضل الطرق لكيفية استثمارها، بما يخدم مشاريعكم وأجنداتكم وليس بما يخدم المشروع الوطني…
كفوا عن ترداد اسطوانة «الوحدة الوطنية» المشروخة، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة والمصالحة… فلو كانت لديكم إرادة ولم تغلّبوا مصالحكم الفئوية والصراع على السلطة منزوعة الدسم لما وصلنا إلى العام التاسع من الانقسام… والعبارات والكليشيهات والإنشاء والبيانات والتصريحات المندّدة بالانقسام نفسها واللاعنة له وكأنه من فعل جهات خفية وغير مرئية، او من فعل مخلوقات نزلت علينا من السماء وليس من صنعكم وبسببكم، بسب قصر نظركم وفئويتكم وأجنداتكم الخاصة.
لا يمكن لأيّ مصالحة أن تجري من دون إرادة وأسس تقوم عليها، وهي مستحيلة من دون برنامج واحد واستراتيجية واحدة، وآليات ملزمة للتنفيذ، والحديث عن وحدة او حكومة وحدة من دون برنامج، هي مسألة ترقيعية فقط ومضيعة للوقت، فها هي حكومة الوفاق الوطني لم تقلع خطوة واحدة إلى الأمام، بل تراوح مكانها، ولم تقم بأيّ من الواجبات والمسؤوليات والمهامّ التي قامت من أجلها، والتعطيل هنا بغضّ النظر عن مصدره إهمال الحكومة نفسها او عدم تمكينها من القيام بدورها من قبل حكومة حماس، فالأمر سيّان… فشل وتعميق أزمة ومزيد من اليأس والإحباط وفقدان الثقة عند الجماهير، التي تدفع الثمن، مزيداً من الفقر والجوع والبطالة، وتدهور كبير في الخدمات كهرباء، ماء، صحة، تعليم وبنى تحتية، وتأخر وتعثر عمليات الإعمار .
مبادرة قدّمتها الفصائل من أجل إشراف حكومة الوفاق وفتح معبر رفح، فشلت بسبب فقدان عامل الثقة بين الطرفين، والتخوّف عند حماس بفقدان شريان رئيسي يشكل مصدر دخل كبير لحكومتها، وقد يشكل بداية لخسارتها الحكم في القطاع، فكيف بانقسام له تسع سنوات، نمت خلاله الكثير من المصالح والامتيازات والمنافع عند جهات نافذة من الطرفين، تقاتل بكلّ شراسة من أجل عدم خسارتها، فتحقيق الوحدة والمصالحة، يعني غيابها عن المشهد السياسي، وما ترتب عليه من منافع ومكاسب، تحققت لها بفعل ذلك.
أحياناً كثيرة أشعر بأنّ الطرفين ليسا مالكين لقرار إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، حيث حجم التدخلات العربية والإقليمية وحتى الدولية و«إسرائيل» في القرار الفلسطيني والتأثير عليه كبير جداً، وحتى الحسابات الذاتية لهذين الفريقين مرتبطة بذلك، فلا تغليب للمصالح العليا للشعب الفلسطيني على المصالح الفئوية والخاصة، ناهيك عن الخوف من انّ توقيع اتفاق المصالحة قد لا يرضي هذا الطرف العربي او الإقليمي او الدولي.
ثلاثة حروب شنّت على قطاع غزة، وانتفاضة شعبية مشتعلة ومتواصلة حتى اللحظة، الدم الفلسطيني يسيل غزيراً، ونزف وما زال ينزف في هبّته الشعبية التي تدخل شهرها الرابع، ووصل شهداؤها إلى أكثر من 170 شهيداً، وما يزيد عن 17000 جريح، وما يقترب من 2500 معتقل، كلها لم تكن كافية لطرفي الانقسام، لكي يقولا آن الأوان لكي نضع خلافاتنا جانباً، وان نعمل على تحقيق وحدة شعبنا وإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة…
في كلّ مرة من اللقاءات وجلسات الحوار يستبشر شعبنا خيراً، ولكن يكتشف بأنّ ذلك مجرد خداع وتضليل يمارسه كل طرف، لكي لا يُتهم بانه المسؤول عن استمرار الانقسام، وهو جاء للحوار ليس بغرض الاتفاق، بل لكي يبرّئ ذمته، بانه ليس المسؤول عن الانقسام.
عدا أنّ هذا الانقسام المدمّر يزيد من حالة الضعف للحالة الفلسطينية، الضعيفة أصلاً، فهو يشكل خدمة مجانية للاحتلال، من أجل أن يستمرّ في مشاريعه في تكثيف الاستيطان وزيادة وتائره في الضفة الغربية، والسيطرة والإجهاز بشكل نهائي على مدينة القدس، واستمرار بقاء قطاع غزة تحت الحصار الخانق، بالتذرّع بعدم وجود شريك فلسطيني وضعف الرئيس ابو مازن وغيرها، وحتى في إطار الوحدة مع حماس، فهو سيُتّهم بدعم «الإرهاب».
لا يمكن لشعبنا أن ينتصر او يحقق حتى الحدّ الأدنى من حقوقه في دولة كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وحق العودة للاجئين وفق القرار الأممي 194 بدون الوحدة وإنهاء الانقسام، فالشعوب تنتصر بوحدتها، وكذلك الهبّة الشعبية الفلسطينية المتواصلة، لا يمكن لها أن تحقق إنجازات سياسية ملموسة، وتتحوّل الى مشروع سياسي متجاوزاً للانقسام و«أوسلو»، بدون وحدة الركائز الوطنية العامة، وبالذات الركيزتان السياسية والتنظيمية، يضاف إلى ذلك التكاتف والتضامن والتعاضد الاجتماعي، والانفكاك التدريجي للعلاقة مع اقتصاد المحتلّ، وهذا كله يحتاج إلى هدف واضح ومحدّد جوهره إنهاء الاحتلال.
المصالحة لا تحتاج كلّ سنة او شهر الى جلسات حوار ومفاوضات ماراثونية عبثية، واتفاقيات يجف حبرها بمجرد توقيعها، بل تحتاج الى إرادة وقدرة على اتخاذ القرار والترجمة كفعل على الأرض.
Qud.45 gmail.com