نظرة إلى الخطاب الاقتصادي للثورة الإسلامية في إيران
محمد برهاني
من البديهي أن يحمل الحدث الرباني ـ الشعبوي الكبير كالثورة الإسلامية في العام 1979 بقيادة الإمام الخميني في إيران منهجاً خاصاً به كسائر الثورات الكبرى. وبما أنّ الثورة في إيران بُنيت على أسس ومبادئ إسلامية لا بدّ لها أن تتسم بفكر الإسلام والقرآن الأصيل. وأهمّ شعارين أكد عليهما الشعب خلال الثورة هما الحرية والاستقلال. وليس لهذين الشعارين دلالات سياسية بحتة فحسب، بل لهما دلالات اقتصادية كذلك، وقد أُخذت هذه المسألة في عين الاعتبار في المراحل الأولى للثورة ونصّ عليها الدستور في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
لذا نرى أنّ الشعب الإيراني من خلال بعد النظر والتزامه بالإسلام، توجه نحو الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي وعرّف عن هذه المطالب بأنها مطالب حقة وأساسية، وبرزت أهمية هذا الأمر عندما عانت إيران على مدى عقود من الحصار والضغط الاقتصادي المتواصل من الغرب، ولكن استطاع الإيرانيون عبر التمسُّك بهذه المطالب الثورية، وبعبارة أخرى من خلال الاقتصاد المقاوم أن يحموا أنفسهم أمام هذه الضغوط.
إحدى خصائص الثورة الإسلامية الإيرانية الأخرى هي شعبوية هذا القيام، لذا كانت عوائد ونتائج هذه الثورة في مصلحة الشعب ومن نصيبه، وعلى هذا الأساس والنهج ومن خلال هذا الإطار وضعت الخطط الاقتصادية والاجتماعية لكي يتحرّر اقتصاد الدولة من الهيمنة والقيود الخارجية ويتجه نحو الخصخصة الداخلية. ونصّ الدستور من اللحظة الأولى على هذا المفهوم. وعليه بدأ العمل الجدي على الساحة الاقتصادية، كسائر الساحات الثقافية والسياسية والعسكرية، للوصول إلى حياة أفضل في هذا المجال. وحيث من الواضح أنّ الاكتفاء والاستقلال الاقتصادي مرتبط بشكل مُحكم وأساسي بالاستقلال السياسي والثقافي، نصّ الدستور على العمل الدؤوب للتخلص من التبعية الاقتصادية، لتكون تلك القاعدة الاقتصادية التي تعمل عليها البنى الاقتصادية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وعلى هذا الأساس، ومنذ انطلاقة الثورة الإسلامية، أكدت القيادة والمسؤولون في النظام العمل الجادّ في هذا الاتجاه لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي. وأكدت الضغوط والمشكلات التي أوجدها مخالفو الثورة في الداخل والخارج أمام هذه الخطوات على ضرورتها، وزادت من تمسُّك الإيرانيين بها.
أخذ السعي نحو الاكتفاء الذاتي حيّزاً كبيراً من الجدية في بنود الدستور والحياة السياسية والاقتصادية للدولة، حيث نصّ البند الثالث عشر في النقطة الثانية على أنّ وظيقة الدولة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، «العمل على الوصول إلى الاكتفاء في العلوم والتقنيات والصناعة والزراعة والأمور العسكرية…»، وتمّت الإشارة في البند التاسع الباب 43 إلى الضوابط الاقتصادية لعمل الدولة وهو يؤكد على «زيادة الإنتاج في المجالات الزراعية والدواجن والصناعة لكي تؤمّن حاجة البلاد وتوصلها إلى الاكتفاء الذاتي وتفكّ قيدها من التبعية لأي جهة كانت».
ويعتمد البرنامج الاقتصادي الإسلامي، على إيجاد الأرضية المناسبة للإبداع واستثمار الابتكارات الجديدة، وإيجاد جو من تكافؤ الفرص والريادة في المجال العملي ومعالجة الحاجات الأساسية للشعب من خلال العمل الحكومي.
وفي البندين التاسع والثاني عشر من الدستور في الفقرة الثالثة المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي نقرأ الآتي:
نصّت الفقرة الثالثة من البند التاسع على القضاء على التمييز الغير عادل وإيجاد فرص متكافئة للجميع في المجالات المادية والمعنوية… وذكر البند الثاني عشر دعم الاقتصاد السليم والعادل على منهج الضوابط الإسلامية لإيجاد الرخاء ورفع الفقر ومعالجة أيّ حرمان في مجالات الغذاء والسكن والعمل والطبابة وتعميم التأمين الصحي على كافة طبقات المجتمع.
في البند الـ 43 من الدستور الإيراني تمّ تحديد أهداف الاقتصاد الإسلامي من وجه مغاير حيث ذكرت: «من أجل ضمان الاستقلال الاقتصادي للمجتمع، واجتثاث جذور الفقر والحرمان، وسدّ ما يحتاج إليه الإنسان في سبيل الرقيّ مع المحافظة على كرامته، يقوم اقتصاد جمهورية إيران الإسلامية على أساس القواعد التالية:
1 – توفير الحاجات الأساسية للجميع، وهي: المسكن، المأكل، والملبس، والصحة العامة، والعلاج، والتربية والتعليم، والإمكانيات اللازمة لتشكيل الأسرة.
2 – توفير ظروف العمل وإمكاناته للجميع، بهدف الوصول إلى التشغيل الكامل، وكذلك وضع وسائل العمل تحت تصرف جميع الأشخاص القادرين على العمل الفاقدين لوسائله، وذلك بصورة تعاونية عن طريق الإقراض بلا فائدة، أو أي طريق مشروع آخر، بحيث لا ينتهي إلى تركيز الثروة وتداولها بيد أفراد ومجموعات محدودة، ولا يجعل من الحكومة ربّ عمل كبير مطلق، ويجب أن يتمّ ذلك ضمن مراعاة الضرورات القائمة في التخطيط الاقتصادي العام للبلاد لكلّ مرحلة من مراحل الإنماء.
3 – تنظيم البرنامج الاقتصادي للبلاد بحيث تكون طبيعة العمل ومضمونه وساعاته على نحو يتيح للعامل، إضافة إلى بذل جهوده في العمل، الوقت المناسب والمقدرة الكافية لبناء شخصيته معنوياً وسياسياً واجتماعياً، وتنمية مهاراته وإبداعه، والمشاركة الفعّالة في قيادة البلاد.
4 – مراعاة حرية اختيار نوع العمل، والامتناع عن إجبار الأفراد على عمل معيّن، ومنع أيّ استغلال لجهد الآخرين.
5 – منع الإضرار بالغير وحصر الثروة والاحتكار والربا وسائر المعاملات الباطلة والمحرّمة.
6- منع الإسراف والتبذير في الشؤون الاقتصادية كافة سواء في مجال الاستهلاك أو الاستثمار أو الإنتاج أو التوزيع أو الخدمات.
7 – الاستفادة من العلوم والفنون وتربية الأفراد ذوي المهارات بحسب الحاجة من أجل توسيع اقتصاد البلاد وتقدّمه.
8 – الحيلولة دون وقوع الاقتصاد الوطني في ظلّ السيطرة الأجنبية.
9- التأكيد على زيادة الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي لسدّ حاجات البلاد، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لها وتحريرها من التبعية الأجنبية.
كما تناول البندان 46 و47 الملكية الخاصة وأوضحا كيفية التعامل في هذا الخصوص.
يجب على الاقتصاد الإسلامي أن يتمتع بمعايير متعدّدة، منها:
الاقتصاد ليس الهدف: من وجهة نظر الثورة الإسلامية الإيرانية فإنّ هدف المجتمع ليس اقتصادياً بحتاً، ولكنّ الاقتصاد يشكل أحد أهمّ العناصر للوصول إلى الهدف الأساس وهو العبودية لله عز وجلّ. ويمكن للاقتصاد أن يشكل عاملاً مساعداً ومسانداً لتقوية الارتباط بالله عز وجلّ، وفي سبيل تحقيق التكامل الإنساني، ولذلك حاز القسم الاقتصادي على جزء مهمّ من الفقه الإسلامي.
بعض الأمور المهمة عن الاقتصاد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية:
ـ شفافية العمل الاقتصادي للدولة: حيث أنّ الشفافية هي الشرط الأساسي لمكافحة الفساد، وبإيجادها مع عامل الرقابة، يتوفر عامل الاستقرار، وعليه تتولد الفعالية الاقتصادية ويتوفر عامل الامان. ويتمتع المبدع والمستثمر والريادي الذي تمكن من تشكيل ثروة في هذه الأجواء بحماية وتأييد الدولة الإسلامية. وإذا كان الجو سليماً كما ذكرنا، يمكن حينها كسب الثروات المشروعة بشكل مباح وهي تحوز على تأييد النظام في الدولة. ويقول السيد خامنئي في هذا المجال: «عند متابعة المشاكل التي تواجه الدولة، يجب تحديد الأولويات. وهذا يعني أنّ على السلطة والسياسيين وأعضاء الهيئة القضائية، أو أيّ مجموعة أخرى أن يجلسوا ويشخّصوا المواضيع بأهميتها، على قاعدة «المهمّ والأهمّ» ويتابعوا الأمور، بحسب أولويتها، لأنه يوجد اليوم بعض قضايا الفساد التي يجب أن يتابعها القضاء، وأن نرى أي من هذه المسائل تحتلّ الأولوية، واليوم يوجد في المجتمع ملفات الفساد من الرشوة والجرائم ضدّ الثورة والأخلاق والجنايات والخداع والتزوير. وبين هذه الأمور ما هو الأهمّ؟ أعتقد أننا إذا أردنا البحث عن الأهمّ، فإنّ قضايا الفساد المالي والأخلاقي والرشوة والتزوير ومثيلاتها تتمتع بالأولوية، لأنها قضايا تفقد المجتمع عنصر الأمان، وهي تتمتع بأهمية بالغة. بيان السيد القائد، 15/5/92 .
التوجه نحو العلم على أنه مصدر أساسي من مصادر الاقتصاد: «يجب أن نكوّن البنى التحتية لاقتصادنا على العلم والمعرفة وأن نتقدّم من هذا الطريق ونغيّر اقتصاد الدولة بهذا الاتجاه» السيد القائد 8/5/91 . وللعلم أيضاً المقدرة على إيجاد القدرة والقوة لسياسة الدولة كما للاقتصاد، ولذلك حاز تطوّر هذا الأمر في منهج التطور للجمهورية الإسلامية الإيرانية على اهتمام بالغ، وهو جزء مهمّ من عمل الحكومات المتعاقبة، حيث عليها أن توجد الأرضية المناسبة للتقدّم العلمي والصنعة العلمية وتحرص على ذلك. وهذا الأمر بحدّ ذاته قد أقلق الدول الغربية، لأنّ هذه الدول التي اعتادت الاستعمار تسعى دوماً إلى الإمساك بكلّ الطرق الموصلة إلى العلم والتكنولوجيا والمعرفة لاستعمالها كأدوات لفرض الهيمنة والسلطة على الآخرين.
التوجه إلى العمل ورأس المال الوطني أهمّ من المسلم وغير المسلم : «نحن إذا لم نحترم العمل والرساميل الإيرانية، لن نستطيع أن ننتج شيئاً، وإذا لم يكن هنالك إنتاج وطني، من غير الممكن تحقيق الاستقلال السليم لدولتنا». السيد القائد 10/2/91
في عالم اليوم تتطلع كلّ الدول من دون استثناء إلى التطور الاقتصادي الذي يمكن أن تحققه مستفيدة من كلّ السبل الممكنة، ولكنها تولي أهمية وأولوية للمصادر والرأس المال الداخلي لديها، وهذا المفهوم يتخطى مبدأ تحقيق الثروة والقوى العاملة، وهذا ما تمّ التأكيد عليه في اقتصاد الثورة الإسلامية الإيرانية، والتوجه إلى هذا الأمر له أهمية بالغة في حلّ أزمة البطالة، زيادة الرفاه الاجتماعي، زيادة الثروة الوطنية والتوزيع العادل، وإلغاء الحرمان من المجتمع.
التعاون بين الدول الإسلامية: الخطاب الاقتصادي للثورة الإسلامية يعتبر أنّ على الدول الإسلامية، كما سائر الاتحادات، أن تتوجه بشكل جدّي إلى التعاون مع بعضها البعض، وذلك في أطر مشابهة للمصرف التنموي الإسلامي وغيره، لتساعد بعضها البعض على التطور والتوسع الاقتصادي.
اليوم ترون أنّ في الكثير من أنحاء المعمورة تمّ تشكيل الاتحادات الاقتصادية للتعاون والسعي في هذا المجال، وهم يحققون مكاسب من هذه الاتحادات، ونحن في عالمنا الإسلامي يمكننا أن نشكل اتحاداً اقتصادياً قوياً وفعّالاً. السيد القائد 25/6/83
التوجه إلى تحسين نهج الإدارة السليمة: الاعتماد على النفس في الساحة الوطنية: أحد أهمّ الأساليب التي تعتمدها القوى المعادية للشعوب عند معاداتها للأوطان هي إقناع الشعوب بأنها لا تستطيع إدارة اقتصادها وعلومها والتقنيات المتوفرة لها بنفسها. والدولة الإسلامية تؤكد أنّ الاقتصاد الوطني قادر على تلبية حاجات المجتمع ولا يجب على الأمة الإسلامية أن تحسّ أنها أقلّ من غيرها من الأمم.
مع نهاية الحرب ومع هزيمة صدام حسين برفقة من شدّوا على يده، وانتهاء أهدافهم المشؤومة لإيران، وخلال خطة عمل مدتها خمس سنوات تكاتفت من خلالها الدولة والشعب، عادت ودارت عجلة الاقتصاد. وكان حجم البناء والتأسيس في هذه الفترة القصيرة، سريعاً لدرجة تفاجأ بها المراقبون الأجانب، هذا بالإضافة الى إعادة إعمار ما دمّرته الحرب من عشرات المدن والقرى والمصانع والبنى تحتية أمثال مصانع الحديد مباركه، فولاد أهواز، سدّ ساوه، سدّ مارون، ومصانع متعدِّدة للإسمنت، ومعامل الكهرباء، ومصنع السكك الحديدية بافق، وميناء بندر عباس، وتمّ إنشاء المشاريع الزراعية والصناعة، بالإضافة إلى معامل تصفية واستخراج النفط والغاز والبتروكيماويات وتوسيع الموانئ وغيرها.
ومن خلال إطلاق هذه المشاريع وتنفيذها في نهاية القسم السادس من برنامج التنمية يمكن القول إنه تمّ تغيير واجهة الدولة. والانتهاء من هذه المشاريع والمخططات الوطنية يخرج إيران من دائرة الدولة أحادية الاقتصاد لتتجه الثروة الاقتصادية الوطنية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات.