الحريري قال ولم يقُل وكان يمكنه أن يقول!

ناصر قنديل

– مَن صاغ للرئيس سعد الحريري خطابه لا يعرف الواقع اللبناني وأقرب إلى المستشرقين من الذين يعرفون ويعيشون الواقع، فرماه في جب كله فِخَاخ ووقف يتفرّج، وأول الفِخاخ محاولة «الهضمنة» مع ابتسامة رُسمت في الخطاب عند القول «لو عملتها بكير يا حكيم للمصالحة شو كنت وفّرت عالمسيحيين واللبنانيين»؟ والإيحاء أنّ الجملة ارتجالية من خارج النص المكتوب، كما كان خلع الجاكيت في مهرجان 14 آذار 2011 من تصميم أحد متعهّدي حفلات «الربيع العربي» في قطاع الإعلان إيلي خوري، ومعها كانت الورطة بأنّ المرجلة جاءت في غير محلها، وبعدها العودة من طريق مطار دمشق صارت مقطوعة ولا تزال وتزداد تعقيداً كلّ يوم، واليوم وجد الحريري حصاد ما اشتعلت به وسائل التواصل الاجتماعي من حرب شعواء بين مناصري «المستقبل» و«القوات» بفعل تلك الهضمنة المستشرقة.

– هفوات التذاكي التي تبدو «مبكّلة»، لكنها سرعان ما تتهاوى عند جدران الذاكرة تكرّرت في خطاب الحريري، فمحور الخطاب يقوم على اتهام حزب الله برهن لبنان لحساب المصالح الإيرانية، ويترافع في وجهه من موقع وطني لبناني مفترض، وفجأة يصير اللبناني سعودياً، فيسقط بالضربة القاضية، ولا يعود ثمة مبرّر لمواصلة السماع، أما محور السجال حول الاستحقاق الرئاسي فيقوم على مرافعة الحريري عن عدم أحقية ممارسة النائب لحق دستوري هو عدم حضور الجلسات، والحريري هو الذي قال علناً ما هو أخطر وأدهى في أحقيته بممارسة سلاح المقاطعة حيث لا تجوز المقاطعة مهما كانت الظروف، وحيث لم تكن يوماً حقاً دستورياً، بل هي بإجماع الفقهاء الدستوريين تصير اعتداء مشهوداً على الديمقراطية، والقصد هنا هو إعلان الحريري عن نيته وتياره مقاطعة الانتخابات النيابية ترشيحاً وانتخاباً إذا تمّت في موعدها الدستوري بعد نهاية الولاية القانونية للمجلس النيابي، وتلك كانت أولى الآفات الدستورية التي ترتب عليها رمي كلّ الاستحقاقات المترتبة عليها بالفراغ، فالمجلس الممدّد لنفسه كان مطلوباً لتسهيل التمديد للرئيس ميشال سليمان ولما تعذّر التمديد صار الفراغ تحصيلاً حاصلاً، بينما لو تمّت الانتخابات النيابية التي يحمل الحريري وزر إسقاطها اللادستوري بسلاح التلويح بالمقاطعة، وهو يحاضر اليوم بلا دستورية المقاطعة، لكان من غير الممكن ملاقاة مجلس منتخب لتوّه بدعوة تمديد رئاسي، أو باستعصاء انتخاب رئيس.

– قال الحريري في اللعب مع الذاكرة، وفقاً لكاتب الخطاب الاستشراقي، أنه لم يَعِد العماد ميشال عون بدعمه في الانتخابات الرئاسية، لكن الجميع يعلم أمرين، الأول أنّ الحريري أقام الحوار مع العماد عون من مدخل ثابت وحاسم هو نية التفاهم على تبنّي هذا الترشيح، وقول الحريري بأنّ التفاهم لم يتحقق يلزم الحريري بكشف السبب الذي تفاداه لأنه ليس واقعياً، ولأنه سيطرح سؤالاً بديهياً لا يملك الحريري قدرة استفزاز النائب سليمان فرنجية الذي تبنّى ترشيحه، باتهامه بالقبول بما لم يقبله عون، سواء كان الأمر يتصل بالمسيحيين أو بقانون الانتخاب أو بحزب الله أو بسورية، والثاني أنّ الحريري أعلن بعد تعذّر انتخاب رئيس في ظلّ ترشيح كلّ من العماد عون ورئيس القوات سمير جعجع أنّ تفاهم الزعيمين المسيحيين المرشحين كفيل بحلّ معضلة الرئاسة، وأنه سيؤيد ما يتفقان عليه، فهل يتذكّر الحريري قوله هذا أم يراهن كاتب الخطاب أنّ اللبنانيين لا يتذكّرون؟

– قال الحريري في الخطاب وردّد أمس من وراء رئيس الكتائب سامي الجميّل ورئيس القوات سمير جعجع، فيما بدا أنه شعار وحدة الرابع عشر من آذار، انزلوا ولننتخب وليربح من يربح ديمقراطياً. ومرة ثانية نسأل هل هذه هي منهجية الحريري الحقيقية؟ وهل كان ليقبل بهذا لو كان الأمر يخصّ رئاسة الحكومة، مع فارق أن لا ولاية حكمية لرئيس الحكومة المسمّى، فيمكن بتعديل في تموضع الكتل النيابية أن يسقط بعد ثلاثة شهور، بينما رئيس الجمهورية بولاية حكمية تمتدّ لست سنوات، ورغم ذلك هل يرتضي الحريري أو سبق وارتضى أن تعتمد هذه الطريقة في تسمية رئيس الحكومة؟ التجربة تقول إنّ تسمية الرئيس نجيب ميقاتي توافرت لها شروط دستورية وميثاقية كافية وشبيهة بما يدعو إلى ارتضائه في الانتخابات الرئاسية ولأنها لم تعجب الحريري يومها، بوصفه زعيم الأغلبية السياسية والشعبية والنيابية في طائفة رئيس الحكومة، ماذا فعل؟ هل فعل ما يقول إنه سيفعله ويدعو الآخرين لفعله في حال انتخاب رئيس بالأغلبية العددية المطلوبة دستورياً وميثاقياً حتى لو وقف ضدّها من يمثل الأغلبية السياسية والشعبية والنيابية المسيحية؟ هل رأينا الروح الرياضية الحريرية والمستقبلية يومها حتى نصدّق وجودها اليوم؟ أم أنّ ما هو حلال للحريري حرام على سواه؟ وإنْ كان حلالاً عن أيّ رئاسة يريد لنا أن نتحدّث؟ رئاسة تبدأ بالمشهد الذي استقبل به المستقبليون الرئيس نجيب ميقاتي أمام منزله الطرابلسي؟ ارجع من حيث جئت أيها الخائن؟ حرق الدواليب ومشهد النائب معين المرعبي يهدّد ويرعد ويزبد؟ رمي الرئيس ميقاتي بالحرم وإلقاء الحجر عليه؟ ومطاردته وملاحقته حتى استقال؟ أهذه هي الروح الرئاسية الرياضية التي يريدها الحريري للبنانيين، وفقاً لسابقته الحكومية التي لا ينفع لمحوها خطابٌ كتبه مستشرق بلا ذاكرة؟

– بمستطاع الحريري أن يثق أنّ والده المرحوم رفيق الحريري تفوّق في السياسة اللبنانية يوم وضع المستشرقين ونصائحهم جانباً، واستخدم ذكاءه الفطري، وكان سهلاً ومفيداً للحريري لو قال لحزب الله، نعلم وتعلمون أنه يمكن تقاذف الاتهامات وسوق الحجج وأن نجعل من لبنان ساحة مواجهة بين حليفينا إيران والسعودية، لكن تعالوا نجرّب شيئاً آخر وهو أن نجعل من لبنان فرصة حليفينا للتوافق، وأن نهوّن عليهما البدء من لبنان بأن نتهيّأ لتوافق نجعل علاقاتنا وتحالفاتنا مناسبة لتسويقه، لا جسوراً تنتظر تفاهماتهم لتسويق منتجاتها، وبمستطاع الحريري بذكائه الفطري دون معونة وجميل المستشرق أن يقول لجعجع، «يا حكيم تلات أرباع مشكلتنا مع الجنرال كانت منشانك بس مشكلتك مع فرنجية ما تقلي كانت منشاننا»، «فكان بيسوا تقلنا إنك ناوي تصالح يمكن صالحنا معك ولا تلومنا ليش ما قلنالك»، وأن يقول في الخلاف مع عون، لا يمكن إنكار التعقيدات المحيطة بالترشيحات الرئاسية محلياً وإقليمياً وسعينا ليكون الرئيس المنتخب محاطاً بهالة توافق داخلي وخارجي تمكّنه من أن يحكم، وهذا إنْ كان يعيبه علينا البعض فنحن نراه ضرورة لنجاح العهد العتيد ولو تأخر بعض الوقت وسنبقى نواصل هذا المسعى، ولعلّ هذا لعب دوراً في تفضيلنا ترشيح فرنجية على عون، لكن ما ظهر داخلياً أكد أنّ الداخل اللبناني يبقى الأهمّ من الخارج الدولي والإقليمي الذي سيبقى متفاعلاً إيجاباً مع ما يتفق عليه اللبنانيون، وها نحن هنا لنفعل ما يجب فعله من أجل أن يكون الرئيس العتيد ثمرة هذا التوافق»، وللحريري أيضاً أن يقول، أعلم أنّ ديمقراطيتنا التوافقية لا تتناسب مع العددية البسيطة التي لا يمكن الدستور إلا أن يلحظها ويعتمدها أساساً في احتساب حدود الشرعية، ولذلك كما لم نقبل يوماً بتسمية رئيس حكومة من خارج مشيئة أغلبية الطائفة التي ينتمي إليها سياسياً وشعبياً ونيابياً، رغم مكانة الرئيس نجيب ميقاتي يومها، فلن نقبل أن تشعر الأغلبية المسيحية السياسية والشعبية والنيابية بما شعرنا به يومها ولا أن تجد نفسها مضطرة لتفعل ما فعلناه، ولذلك سنتشاور مع الجميع بلا استثناء، وبدلاً من الأغلبية سنحاول المساهمة بتحقيق الإجماع المسيحي حول المرشح العتيد، وسنفتح صفحة جديدة في الملف الرئاسي ونبدأ من بكركي لنكون عوناً لصاحب الغبطة لجمع القادة المسيحيين وتوافقهم، وتأييد ما يتفقون عليه، بالإجماع أو الترجيح، لكن برضاهم ومشيئتهم.

– لم يفعل الحريري، لكن لا يزال بإمكانه أن يفعل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى