هل تقود محادثات جنيف إلى العودة لإصلاحات الأسد عام 2011؟

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

كتبت شارمين نارواني لـ«روسيا اليوم»:

تعثرت محادثات السلام حول سورية، بعدما رفضت «المعارضة» التواجد في غرفة واحدة مع الوفد الحكومي، في حين أنّ شروطاً مسبقة ألقت باللوم على «المعارضة» كما على المنظمين لعدم القدرة على إنتاج «لائحة الإرهابيين».

وكان المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان ديمستورا قد وعد باستئناف المحادثات في 25 شباط الجاري، لكن هل سيتمكن من تحقيق ذلك؟

تحوّل كبير وواضح طرأ على الساحة السياسية العالمية وعلى المسرح العسكري السوري منذ انطلاق المحادثات. فقد استعاد الجيش العربي السوري وحلفاؤه في الأسابيع القليلة الماضية السيطرة على مناطق رئيسة في اللاذقية، إدلب، درعا، حمص وحلب، وها هم يشقّون طريقهم نحو الحدود التركية، قاطعين خطوط الإمدادات والمخارج والطرقات على «المعارضة المسلّحة».

وفي الوقت عينه، يحذّر المحللون والسياسيون من كلا الجانبين من أنّ الحلّ العسكري للأزمة في سورية أمرٌ غير ممكن، وأن شعبية الجيش العربي السوري آخذة في الازدياد، ومع استمرار تحقيق النظام مثل هذه المكاسب، ستتضاءل حكماً قدرة «المعارضة» على رفع سقف مطالبها.

وبالفعل، وباعتراف الرئيس السوري بشار الأسد، فإن الجهات الغربية الراعية لإجراء المحادثات، ستستمرّ في لعب دورٍ في أيّ حكومة مستقبلية ـ ما يشكّل صفعة في وجه «المعارضة» المدعومة من خارج سورية، والتي طالبت بخروج الأسد من البلاد. كذلك، فإن حزمةً طويلة من الإنجازات في محادثات السلام لم تُنفّذ بعد، كمثل «الحكم الانتقالي»، وقف إطلاق النار، الإصلاح الدستوري، الانتخابات، وتلك تشكل مفاهيم واسعة متشعبة، وغامضة بما فيه الكفاية لتكون دعماً للقوة العسكرية المهيمنة على الأرض.

إن تشكيل الحدود الطبيعية والسياسية يصبّ دوماً في مصلحة المنتصر وليس المهزوم بطبيعة الحال. وفي الوقت الحالي، تتطلّع جنيف إلى أن تكون مكاناً ملائماً لحدوث هذا، وذلك على مرأى أنظار ومراقبة عدد من الدول التي تقف وراء تمويل «المعارضة» السورية بالسلاح والمال والتدريب والدعم.

وهنا يطرح السؤال نفسه: فيما يستمرّ المشهد العسكري في الداخل السوري يتحرك في مصلحة الحكومة، فهل نحن نقف على مشارف حلّ نهائي يختلف كثيراً في روحه وشكله عن مجموعة الإصلاحات التي اقترح الرئيس بشار الأسد تطبيقها عام 2011؟

إصلاحات الأسد 2011

في أوائل عام 2011، أطلقت الحكومة السورية سلسلة من الإصلاحات بعيدة المدى. بعضٌ منها لم يسبق له أن رأى النور منذ صعود حزب البعث إلى السلطة عام 1963.

ومع وصولي إلى دمشق في كانون الثاني 2012 ـ وهي رحلتي الثالثة إلى سورية، والأولى منذ بدء معاناتي هناك ـ فوجئتُ برفع القيود والمحظورات عن «تويتر» و«فايسبوك»، وبوجود مساحة معقولة للحوار السياسي المنفتح. لكن ومنذ ذلك الحين، أي بعد مرور عشرة أشهر على اندلاع الأزمة، وسقوط أكثر من 5000 قتيل سوري، لوحظ ازدياد الحملات الأمنية ونقاط التفتيش، في حين تصدّرت عناوين مثل «دكتاتور يقتل شعبه»، و«احتجاجات سلمية» عناوين الصحف الغربية على نحوٍ واسع.

وبعد مرور نحو أربع سنوات، ومع الاستفادة من خبراتنا وتجاربنا، وجدنا أنه يمكننا وضع الكثير من هذه الأمور في سياقها الصحيح. فالاحتجاجات لم تكن جميعها «سلمية» ـ فضلاً عن الإصابات كانت تتساوى بين الجانبين. كما رأينا كيف تحوّلت هذه «المعارضة» إلى أخرى مسلّحة، أصبحت الآن أكثر وضوحاً تحت مسمى ما يُعرف بـ«جبهة النصرة»، «أحرار الشام»، و«داعش». لكن وبالعودة إلى أوائل 2012، نجد أن تعتيماً مقصوداً قد فُرض على هذه المشاهد ـ التي سمّيناها نحن «احتجاجات سلمية أُجبرت على حمل السلاح ضدّ الحكومة القمعية».

ومع ذلك، ومع بدايات عام 2011، بدأت الحكومة السورية في تطبيق مجموعة من الإصلاحات ـ قيل أن بعضها يُنفّذ فقط لإرضاء الجمهور المستاء بينما رأى فيها آخرون فرصة يستطيع من خلالها الأسد تجاهل العناصر المضادّة للإصلاح في حكومته، وإنهاء ما كان ينوي البدء به في «ربيع دمشق» عام 2000.

وفي كلا الحالتين، فقد جاءت هذه الإصلاحات جادّة وسريعة ـ منها الكبيرة، والأخرى صغيرة: كمثل تعليق مراسيم قانون الطوارئ الذي يُنفّذ منذ ما يزيد على العقود الخمسة والذي يحظر التجمّعات العامة، إنشاء نظام سياسي متعدّد الأحزاب وشروط حدود رئاسة الجمهورية، إزالة المادة 8 من الدستور الذي ينصّ على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع، الموافقة على توطين عشرات آلاف الأكراد، تعليق محاكم أمن الدولة، إزالة القوانين التي تحظر وضع النقاب، الإفراج عن السجناء، منح عفو عام عن المجرمين، منح الاستقلالية المالية للسلطات المحلية، إنشاء قوانين تنصّ على المزيد من حرية التعبير، حلّ مجلس الوزراء، خفض أسعار المحروقات، زيادة صناديق المعاشات والإسكان، تعزيز الاستثمارات في البنى التحتية، فتح الطريق أمام المواطن للوصول مباشرة إلى قادة المقاطعات وأعضاء مجلس الوزراء، إنشاء لجنة رئاسية للحوار مع «المعارضة»، وغيرها وغيرها.

لكن، وعلى الفور تقريباً، استُبعدت معظم هذه الإصلاحات من حيّز التنفيذ من قبل عدد من الجهات، وما لبث «الربيع العربي» أن أعلن عن قدومه صارخاً: «لقد فات الأوان».

هل حقاً فات الأوان؟

تشكو الحكومات الغربية من عدم تنفيذ الإصلاحات. لكن ماذا عن التوقيت، ووفقاً لأيّ اعتبارات وأيّ إطار زمنيّ؟ فعندما سعت حكومة الأسد إلى المضيّ قدماً في الإصلاحات الدستورية، ودعت إلى استفتاء وطنيّ بهدف كسب المواطن، قاطعه «المعارضون» بدعوةٍ من وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، هيلاري كلينتون، باعتباره «زائفاً» و«خادعاً».

وبدلاً من ذلك، وقبل يومين فقط من إجراء الاستفتاء، وفي اجتماع عُقد في تونس، ألقت كلينتون خطاباً ـ ذا وزن ـ أمام مجلس سوري مسلم إخوانيّ غير تمثيلي وغير منتخب، قائلة: «نحن نعتبر أن هذا المجلس الوطني السوري SNC ممثلاً شرعياً للسوريين الساعين نحو التغيير الديمقراطي السلمي».

وعندما أجرت سورية انتخاباتها البرلمانية في أيار 2012 ـ والتي كانت الأولى منذ تجديد الدستور ـ صنّفت الخارجية الأميركية هذه الاستطلاعات بأنها «سخيفة وسطحية».

أما الأخبث من ذلك كلّه، الشعارات والعبارات المستخدمة لتقويض الدولة السورية، والإصرار دوماً على أن هذه الإصلاحات جاءت «متأخرة جدّاً» وأنه «على الأسد أن يرحل». فعندما يكون النظام السياسي في مرحلة تطوّر، هل يأتي تطبيق الإصلاحات عملاً متأخراً؟ عندما نعمل على تطوير نظام سياسي، هل تستطيع الأصوات الخارجية التي تزعق من العواصم الأجنبية التأثير في سياسة رأس الدولة أكثر من مواطني تلك الدولة عينها؟

أما وفقاً لتصريحات أدلى بها اثنان من صنّاع السياسة الأميركية السابقين لوكالة «ماك كلاتشي»، فإن «الهدف كان العمل عل تكثيف الاستجابة السورية تدريجياً، بدءاً من إدانة الولايات المتحدة أعمال العنف، وصولاً إلى اعتبار رئاسة الأسد فاقدةً الشرعية».

وما لبث السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد، أن اعترف قائلاً: «لا شكّ في أن كلّاً من البيت الأبيض والخارجية الأميركة وأنا، قد ارتكبنا خطأً جسيماً عندما رفعنا من وتيرة خطاباتنا السياسية إلى أعلى المستويات».

أما بالنسبة إلى التحليلات التي صاغها مراسل الشرق الأوسط المخضرم، مايكل جانسن حول محادثات جنيف منذ أسابيع قليلة، فجاءت خلاصتها: «كانت الأزمة السورية لتحلّ منذ عام 2011 لو أن الرئيس باراك أوباما لم يُعلن في الثامن عشر من آب في تلك السنة، أن على نظيره السوري بشار الأسد التنحّي عن السلطة». إنها مجرّد شعارات فارغة، راح ضحيتها أكثر من 250.000 من المواطنين السوريين، فضلاً عن ملايين النازحين والمهاجرين. أما كانت هذه الحزمة من الإصلاحات السورية تستحق مجرّد المحاولة؟

«المعارضة الداخلية»… الأسد والإصلاحات

كانت القصة في الداخل السوري في شأن المنشقّين في المجتمعات السورية لا تزال غامضة المعالم، إبان زيارتي للبلد عام 2012. وباستثناء بعض الشخصيات، كمثل فايز سارة، الذي ترك البلاد في نهاية المطاف وانضمّ إلى «المجلس الوطني السوري» وإلى «المعارضين السوريين»، الذين خلصتُ إلى أنهم يعارضون بالإجماع فرض العقوبات، والتدخل الأجنبي وعسكرة النزاع.

لكن، هل تبنّى هؤلاء الإصلاحات التي قُدّمت عام 2011؟ على الأرجح لا ـ فالغالبية تعتقد أن الإصلاحات ستكون عبارة عن عيّنة من «مستحضرات التجميل»، لا تصل حدّ الخوض في تفاصيل التغييرات الأساسية المنتظرة، والتي توقفت بمعظمها بسبب العنف السياسي المتنامي. وعندما دعاهم الأسد إلى المشاركة في مداولات حول الإصلاح الدستوري، هل لبّى هؤلاء الطلب؟ لا ـ فقد رفض معظمهم الانخراط مباشرة في تلك الحكومة، ربما لأنهم كانوا يضعون في اعتبارهم أن الأسد «سيرحل قريباً»، فأحجموا عن أن تلحق بهم وصمة الانضمام إلى الجمعيات.

لكن، ألم تكن هذه الإصلاحات لتشكل ـ في جوهرها على الأقلّ ـ نقطة انطلاق؟ فالأنظمة السياسية لا تسجّل تحوّلات ملحوظة بين ليلة وضحاها ـ بل تتطلّب أخذاً وردّاً لسنوات عدّة من النضال الشاق.

وكان عارف دليلة، وهو أحد قياديي «ربيع دمشق» وأمضى ثماني سنوات في السجن، قد أخبرني: «إن النظام تشاور معي ومع غيري من المعارضين بين شهري آذار وأيار طالباً منّا إبداء آرائنا. أخبرتهم أنه لا بدّ لهم من تقديم إصلاحات فورية وجدّية للغاية وليس فقط إظهار عروض، غير أنهم فضّلوا الذهاب نحو حلول أخرى».

أمّا بسام القاضي، الذي سُجن على مدى سبعة سنوات خلال التسعينات، فقد اقترح اتّباع المنحى التصاعدي في تطبيق الإصلاحات: وفي معرض حديثه عن إلغاء محاكم أمن الدولة بدايات عام 2011، قال: «منذ نهاية أيار عام 1973، كانت المحكمة ولا تزال الذراع القويّة للنظام. وكلّ المحاكمات التي عُقدت بعد ذك التاريخ حصلت داخل محاكم مدنية. وفي بعض الأحيان يتدخل جهاز الاستخبارات، أما في أحيان أخرى، فيتصرّف القاضي وفقاً لأهوائه وآرائه. اعتُقل المئات من زملائي وأصحابي خلال الأشهر القليلة الماضية، وما لبث أن أُطلق سراحهم بعد حوالى أسبوع أو اثنين على أبعد تقدير. وبالمناسبة، فإن هذا التغيير، حصل قبل مضيّ أشهر قليلة على إضافة إصلاحات دستورية في الأردن والتي قضت بتأسيس طبقة أمنية جديدة ـ للمحاكم العسكرية ـ وهي خطوة استدعت الإشادة بها على نطاق واسع!».

استغرق حسن عبد العظيم، وهو رئيس «لجنة التنسيق الوطنية NCC» والتي تضمّ 15 من أحزاب «المعارضة»، في شرح وجهة نظر مختلفة تماماً: «تؤكد وجهة نظرنا أن مثل هذه التعديلات يمكن أن تُطبق فقط عند توقف الاعتداءات بحقّ المحتجّين… لكن ـ وفي ظلّ مثل هذه الظروف القمعية ـ سيحاول النظام بشتى الوسائل فرض إصلاحاته هذه، غير أن الإصلاحات ستكون جزئية وشكلية فقط، ولن تغيّر الكثير من واقع الحال».

أقامت «لجنة التنسيق الوطنية» حلفاً مع «المجلس الوطني السوري»، لكنه لم يدم طويلاً، حلفٌ لم يلبث أن انهار بسبب الخلافات على التدخل الأجنبي غير العربي.

قاد لؤي حسين «حركة التيار» وأمضى أيضاً سبع سنوات في السجن، عندما كان في الثانية والعشرين من عمره، وقد صرّح لي أثناء زيارتي تلك: «نحن نرى أن الأسد هو المسؤول عن كلّ ما يجري غير أننا لسنا مستعدّين لجرّ البلاد إلى مأزق… وفي آذار الماضي، طلبنا من النظام منحنا الإصلاحات التي يقدّمها الآن. لكنه، وعندما بدأ بإطلاق الرصاص الحيّ طالبنا بتغييره، وتمنّينا حدوث ذلك على وجه السرعة. إنما وبعد مضيّ كلّ هذا الوقت، فنحن بحاجة إلى إعادة النظر في استراتيجيتنا».

وهكذا، نجد أن قائمة الأسماء «المعارِضة» هذه تطول وتطول. ويبدو أن الآراء قد ترواحت بين محبّين للأسد، وكارهين للنظام، وبين أولئك الذين يطمحون إلى التغيير لكن ليس عن طريق التدخل الأجنبي. وقد عدتُ وزرتُ بعضاً من هؤلاء بعد مضي ثمانية عشر شهراً، ليظهر لي ـ وبشكل جليّ لا يقبل النقاش ـ أنّ تغييراً دراماتيكياً حصل في وجهات النظر في ظلّ تصاعد العنف السياسي. حتى أولئك الذين لاموا الحكومة على هذا التصعيد، بدا أنهم يقومون الآن بتسليم أسلحتهم والعودة إلى حضن دولتهم، لاعتبارات قومية، أولاً وقبل كلّ شيء.

لم يأخذ الصراع الدائر في سورية بُعده الدموي هذا لولا الدعم الخارجي، الذي تحوّل ليصبح عسكرياً بشكل صارخ ووقح، فقد أُنفقت معظم هذه الطاقات في الدفع نحو تطبيق إصلاحات، كانت حينذاك متاحة ومطروحة أمامهم على طاولة البحث.

كيف يمكن لجنيف أن تحوّل سورية؟

للمرّة الأولى على الطاولة في جنيف، يجري تظهير «عملية انتقالية» بين الجانبين للتوصل إلى حكم سياسي سليم. وفي موازاة ذلك، يُعمل حالياً على نزع السلاح وتفعيل وقف إطلاث النار عبر سورية كلها. وسيعمل هذا الفريق الانتقالي على صوغ دستور جديد، خصوصاً أن الانتخابات ستُعقد في غضون ثمانية عشر شهراً. يذكرنا هذا الذي يجري بما كان يحصل في سورية عامَي 2011 و2012.

وبالتأكيد، فإنّ «المعارضة» تعتقد أنها الآن أقوى بكثير مما كانت عليه عام 2011، وتحديداً لجهة الدعم الذي تتلقاه من الأمم المتحدة والممهور بمباركة جنيف. لكن الصعوبات سوف تبدأ بالظهور إلى العلن لحظة اتخاذ قرارات تحتاج إلى بذل مجهود في ما يتعلق بـ«المعارضة» المشاركة في «الجسم الانتقالي»، هذا إذا ما استطاعوا إقناع الحكومة السورية ـ التي تحقّق الانتصار تلو الانتصار، أسبوعاً بعد أسبوع ـ والتي قد تُضطرّ إلى التخلي عن جزءٍ من سلطتها لهذا «الكيان الجديد».

إنه ذلك النوع من «المعارضة» الذي قد يدخل ـ في نهاية المطاف ـ في مسار انتقاليّ يساعد حكماً في تحديد نتائجه. لكن، ومع التدخل الروسي الجوّي بمعدّاته العسكرية النوعية منذ الخريف الماضي، نجح الجيش السوري في كسب الكثير من الزخم الحاسم في ساحات القتال. فلماذا إذاً، يُطلب من سورية التراجع في جنيف والتخلّي عن السلطة بعد كلّ هذه الانتصارات؟ حتى أن مثل هذه التوقعات باتت غير منطقية.

فضلاً عن وجود إجماع متزايد بين المحلّلين السوريين، مفاده أن الأميركيين قد تنازلوا عن المسرح السوري للروس ولحلفاء موسكو. فبالكاد سجّلت واشنطن اعتراضات جادّة على الضربات الروسية خلال الأشهر القليلة الماضية هذا بصرف النظر عن بعض الخطابات العابرة التي تُسجّل هنا وهناك حول ضرب «المتمرّدين المعتدلين» بعيداً من التركيز على «داعش» بما فيه الكفاية كذلك فإن الولايات المتحدة وجدت نفسها غارقةً في هذه الأزمة من دون التمكّن من تخليص نفسها من تبعات ـ غير مريحة ـ لالآف العسكريين «المتمرّدين»، فضلاً عن مطالب حلفائها المتورّطين في الحرب على سورية مثل تركيا والسعودية.

وفّر الروس هذه الفرصة ـ تماماً كما فعلوا عام 2013 عندما سحبوا ملف سورية المتعلّق بالأسلحة الكيماوية من على الطاولة ـ في وقت كانت الولايات المتحدة تتوق للإمساك به بكلتَي يديها. يبدو أن موسكو كانت بانتظار اللحظة الحاسمة للتدخل في المستنقع السوري، ولم تفعل ذلك إلا حين تأكدت أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الخروج من هناك، في وقت كانوا يستمرّون باللعب على كافة الأصعدة والمراهنة على جميع البطاقات.

وكي تتحرّك محادثات جنيف قدماً، على المشاركين هناك، القيام ببعض الالتزامات الحرجة. أولاً، استقدام مجموعة من الإسلاميين وفق اتفاق مسبق على تأليف «معارضة» تحتاج إلى التحايل على هؤلاء، وربما تشتيتهم وتمزيقهم بهدف تشكيل رقعة واسعة من المجموعات السورية المتناحرة عرقياً، طائفياً، ذات وجهات النظر المختلفة في السياسة كما في… النساء.

ثانياً، يتعيّن على جميع الأطراف في المحادثات الموافقة على تحديد الطرف السوري الموضوع على «لائحة الإرهاب». وقد كان هذا البند واضحاً للغاية في فيينا، لكن لم يُعمل به. هذا كلّه سوف يساعد في تحديد الأطراف العسكرية المشاركة في وقف إطلاق النار مستقبلاً، ومعرفة أيّ لعبة ستكون هي «اللعبة العادلة». وبعد هذا كلّه، يبدو أنه ما من وقف لإطلاق النار حتى تحديد هوية الإرهابي الحقيقي على أرض المعركة، وهوية ذلك الذي من المفترض أنه سيخوض المفاوضات.

ومع ذلك، أظن أن هذه اللائحة الإرهابية قد أُهملت لسبب وجيه، بعدما وفّرت رعايةً لـ«المتمرّدين» المنزعجين من اضطرارهم إلى الوقوف في وجه المتشدّدين، بينما منحت الروس والسوريين وقتاً كافياً للتخلّص من هؤلاء على أرض المعركة. وبالتالي، فإن تياراً من الانتصارات حُصدت مؤخراً، في مقابل ردود فعل خجولة صاحبتها من واشنطن.

وفيما يتغيّر ميزان القوى بشكل واضح على أرض المعركة، بدأنا نشهد انعكاسات ذلك بقوة على المحادثات في جنيف. فهل سيولّد هذا عملية سياسية حقيقية، وهل سيتغيّر اللاعبون على الطاولة، وهل سيُصاغ الحلّ السياسي برمّته وراء الكواليس… فقط كي يتمّ تقديمها إلى جمهور المطمئنين المنتظرين على أنها انتصار نجحت جنيف في انتزاعه من قلب «نظام سيء»؟.

ولأن سورية في الوقت الراهن، ستكون محظوظة في إمكان إعادة وضع ملف إصلاحاتها على طاولة البحث والتنفيذ، في وقت يشجعّهم المجتمع الدولي على المضيّ في هذا قدماً… سترتاح الأسلحة. كان من الممكن توفير حيوات أكثر من ربع مليون سوري، المئات من البلدات والقرى المدن التي سوّيت بالأرض، وملايين العائلات التي نزحت وهاجرت وفقدت منازلها.

ربما يمكن لجنيف أن تتمكن من إعادة هذه الإصلاحات إلى واجهة البحث، وجعلها في حزمة أكثر بريقاً وجمالاً هذه المرة، لذا، قد يكون علينا أن نصفّق أيدينا منتظرين حدوث هذا كلّه، والاكتفاء بالإعلان عن ارتياحنا وسعادتنا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى