المقاومة ترتقي إلى مستوى الردع الاستراتيجي
العميد د. أمين محمد حطيط
بدأت المقاومة في لبنان في العام 1982 بعد خروج المقاومة الفلسطينية إلى تونس إثر الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، بزيت مغليٍّ وحجر وبندقية و«آر بي جي» إذا توفر، وكانت تلك المقاومة المولودة من رحم الرفض الوطني والقومي والإسلامي للاحتلال الإسرائيلي، كانت وللأسف محل استخفاف إن لم نقل أكثر، استخفاف فئات لبنانية واسعة تظن بأن إسرائيل القوة التي لا تُقهَر والتي هزمت العرب مجتمعين ومنفردين، والتي فرضت على بعضهم اتفاقيات إذعان واستسلام. كانت تلك الفئات تظن أن هذه المقاومة لن تنتج أكثر من استجلاب الدمار والمزيد من المعاناة للشعب اللبناني، لكن أهل المقاومة يومها وعلى قلتهم كانوا في تصور آخر.
لكن المقاومة لم تأبه للرفض والتشكيك وتدرجت في مسار طويل ارتقت فيه من مرحلة الرفض القلبي للاحتلال والتعبير المادي البسيط عن الرفض بمقولة الشيخ راغب حرب «الموقف سلاح والمصافحة اعتراف»، إلى موقف إزعاج العدو، ثم إلى مرحلة إرهاق العدو في المساحات التي ينتشر فيها، فمرحلة إيلام العدو العالي الشدة، وصولاُ إلى مرحلة جعل كلفة الاحتلال باهظة، وهنا وضع العدو الإسرائيلي أمام خيارين إما تحمل كلفة تفوق احتماله أو الانسحاب من لبنان، فاختار الثاني فسجلت للمقاومة للعرب والمسلمين ومن لبنان النصر التام الأول على العدو الإسرائيلي، نصراً جاء في لحظة عالمية تاريخية مفصلية، سعت أميركا إبّانها إلى إرساء النظام العالمي الجديد الأحادي القطبية.
بعد التحرير في العام 2000، ويقيناً منها بأن «إسرائيل» لن تسكت على الهزيمة ولن تتقبل طردها من لبنان بهذا الشكل المذلّ، تابعت المقاومة السعي إلى حشد القوة الميدانية والمعنوية، وكانت تدرك أنّ المواجهة مع «إسرائيل» مقبلة بدون أدنى شك، لذلك وبتفاهم وتنسيق مع الجيش اللبناني برعاية الرئيس لحود الذي آمن بالمقاومة وشرعيتها وفعاليتها، وباحتضان ودعم متعدد الوجوه تلقته المقاومة من سورية وإيران، قفزت المقاومة قفزة نوعية وامتلكت قدرات دفاعية هامة وابتكرت أساليب قتال دفاعي جديد، وأبدعت في تحصين الأرض وإعدادها للمواجهة مع عدو يملك سيطرة جوية ونارية هائلة، فكانت نظرية الأنفاق ومراكز باطن الأرض مقترنة مع قوة نارية صاروخية هامة، كان ذلك مؤشراً لارتقاء المقاومة إلى مستوى جديد في التوصيف العسكري، مستوى المدافع القادر على المراوغة في الميدان والممتلك قدرات حرمان العدو من الاستقرار في أي أرض يدخلها مهما كان حجم الهجوم الذي يتوسّله ومهما كان ثقله وصخبه.
وبعد 6 سنوات كانت المواجهة الاختبار، وشنّت إسرائيل هجومها على لبنان بقرار أميركي وتأييد أوروبي ودعم عربي وحتى بتمويل من بعض الدول العربية كما ذكرت وسائل إعلام غربية هجوم هدف إلى إفناء المقاومة وفتح الطريق أمام شرق أوسط أميركي جديد، ولم يكن أحد من معسكر العدوان على لبنان وعلى مقاومته، يشكّ ولو للحظة واحدة بأن إسرائيل سترجع من الميدان قبل تحقيق كامل أهدافها وفي طليعتها اجتثاث المقاومة.
لكن المقاومة صدمت «إسرائيل» بسلسلة من المفاجآت المتتالية، مفاجآت من طبيعة عملانية واستراتيجية وحتى نفسية وإعلامية، وكان للقائد الشهيد عماد مغنية دور بارز في كل ذلك سواء دوره في التحضير للمواجهة قبل الحرب أو دوره في المواجهة الدفاعية أثناءها، وانتهت الحرب التي أسمتها «إسرائيل» حرب لبنان الثانية إلى هزيمة ميدانية لـ«إسرائيل» ومَن خلفَها، ولكن الأهمّ في نتائج الحرب أنها انتهت إلى حرمان «إسرائيل» من حرية القرار بالحرب، وتشكلت لأول مرة في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي قيود تكبّل «إسرائيل» في مسألة الحرب، ما يعني نشوء حالة الردع العملاني، أو ما يردّده الإعلام بعبارة توازن الردع أو توازن الرعب، رغم أن العبارة الأخيرة في غير محلها.
لقد أرست المقاومة وتالياً محور المقاومة المشكل منها ومن إيران وسورية، «معادلة الردع المتبادل» مع العدو الإسرائيلي، ردع يكبل أيدي إسرائيل عن الدخول متى شاءت في حرب مطمئنة للنصر، وباتت إسرائيل تحسب ألف حساب لأي حرب أو هجوم تُقدِم عليه ضدّ محور المقاومة. وبات قرار الحرب الإسرائيلي محكوماً أو مشروطاً إسرائيلياً بشروط ثلاثة:
1 ـ اليقين والطمأنينة إلى نتائج الحرب بضمان تحقيق الانتصار فيها ضمن المهل التي تحتمل إسرائيل البقاء في الميدان فيها.
2 ـ القدرة على احتواء ردة فعل العدو، وتحمّل كلفة الحرب من قبل المجتمع الإسرائيلي.
3 ـ القدرة على صرف نتائج الحرب سياسياً وإلزام الطرف الآخر للإذعان لما يفرض عليه من قبل «إسرائيل».
ومن أجل منع توفر هذه الشروط، وبالتالي منع الحرب على لبنان وعلى محور المقاومة، طوّرت المقاومة قدراتها العسكرية لتفهم «إسرائيل» أن ما تسعى إليه من نصر لن يكون مضموناً، وأن ما رغبت به من تحقيق «المناعة الاجتماعية» وتحمل الإسرائيليين لأثقال الحرب أمر لن تبلغه، وأخيراً تأكيد أن المقاومة لديها من القدرات ما يجعل اقتيادها إلى الإذعان أمر مستحيل. وقد نجحت المقاومة في ما صنعت وعززت قدراتها الدفاعية وإمكاناتها الردعية وباتت معادلة الردع المتبادل، معادلة مسلم بها من الجميع وكانت المقاومة تتعهدها دائماً في كلّ مرة تحاول إسرائيل خرقها.
وأخيراً رأت «إسرائيل» أنّ هدم القلعة الوسطى من قلاع محور المقاومة، أو كما أسماها السيد حسن نصرالله عمود خيمة المقاومة قاصداً سورية، أنّ هدم سورية وعزل إيران عن فلسطين ومَن وما يحيط بها سيؤدّي إلى الإطاحة أولاً بالمعادلة ثم الإطاحة بمحور المقاومة ثم العودة إلى الشرق الأوسط الجديد الصهيوأميركي لكن نتائج العدوان على سورية وبعد 5 سنوات من المواجهة جاءت خلافاً لما توخى أهل العدوان، ثم دخلت المواجهة اليوم مرحلة تنبئ بأنّ الشرق الأوسط على موعد مع عهد جديد يشهد تغييراً استراتيجياً هاماً يكون فيه الشرق الأوسط لأهله.
سيولد هذا الشرق الأوسط نتيجة فشل العدوان وكلّ مشاريعه. وكما كان الفشل في وضع اليد على سورية كلها، سيكون الفشل أيضاً في تقسيم سورية خاصة وأن مناورات العدو الميدانية أو السياسية بما فيها العدوان المسلح والإرهاب الإجرامي وطرح عزل الرئيس أو هيئة الحكم الانتقالية إلى آخر ما هناك من مناورات كشفها الرئيس الأسد والسيد نصرالله فشلت نتيجة صلابة ووعي القيادة السورية ومحور المقاومة، وبالتالي بات مؤكداً أنّ سورية الواحدة ذات الدولة الوطنية العلمانية باقية رغم أنف المعتدين.
أما الأخطر والمستجدّ الآن، فهو ما أعلنه السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، الذي قدّم فيه للقادة الشهداء الثلاثة ما يفرحهم ويطمئنهم حول المقاومة وقدراتها، عنيت قوله إن المقاومة امتلكت الآن إلى جانب قدراتها الدفاعية التي تحققت في 2006، قدرات هجومية وهو إعلان يصدر للمرة الأولى عن قائد المقاومة، ثم كانت القنبلة الصاعقة التي ألقاها السيد بوجه العدو، وهي أنّ المقاومة تمتلك من الصواريخ ما هو قادر على تفجير حاويات الأمونيوم، الموجودة في حيفا والتي إذا اندلعت الحرب لن تكون بمنأى عن النار حاويات إذا انفجرت فسيكون لها من المفاعيل مفاعيل قنبلة نووية. وفي هذا الكلام رسالة إلى العدو وطمأنة للصديق أنّ محور المقاومة الذي لا يملك قنبلة ذرية ولا يسعى لامتلاكها قادر بما يملك من قدرات عسكرية أن يتعامل مع الواقع، ويجعل ما تمتلكه «إسرائيل» مادة لتدميرها، وإذا كان السلاح النووي يوصف بأنه سلاح ردع استراتيجي، أفلا يكون هذا التهديد الذي يعادل بمفاعيله القنبلة النووية إشعاراً إلى المستوى الذي بلغته المقاومة وبأنها حققت الردع الاستراتيجي في مواجهة العدو؟
من الحجر والزيت المغلي، إلى امتلاك قدرات مؤهّلة لإنتاج مفاعيل السلاح الذري، مسار سلكته المقاومة ومحورها، قدرات امتلكتها وبات جمهورها وشعوبها على قدر عالٍ من الطمأنينة، بأنّ النصر لمحور المقاومة بات في مرمى النظر، وما الأمر إلا مسألة وقت وبعض التضحيات الإضافية أما النتيجة فنصر أكيد وردع استراتيجي موثوق.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية