الحرب على غزّة… ومعضلة الذاكرة المثقوبة!

نصّار ابراهيم

تتركّز المناقشة في هذه المقالة على الوضع الذاتي، رغم الإغراء بسهولة التركيز على وحشية العدوان «الإسرائيلي»، غير أن ذلك لن يضيف شيئاً إلى ما يراه ويعيشه كلّ طفل فلسطيني في قطاع غزة وفي فلسطين، فمشاهد الموت والدمار والدماء والأشلاء لا تحتاج في الواقع إلى من يعيد تصويرها بالكلمات، ومن ينتظر من الاحتلال غير الموت والدمار والقتل المشكلة عنده وليست عند الاحتلال.

ما يحتاج إلى مناقشة الآن وغداً وكلّ يوم هو الواقع والأداء السياسي الفلسطيني، بغية إخضاعه للنقد والتقويم وإن بقسوة، شرط التحلّي بالدقة والموضوعية والابتعاد عن الإسفاف.

الدافع وراء هذه العملية الحيوية محاولة الارتقاء بالأداء السياسي والقيادي إلى مستوى المجابهة والاشتباك والدماء الفلسطينية التي تفيض وتغطّي وجه الكون، ذلك أنّ الحرب العدوانية التي تدور الآن ضد الشعب الفلسطيني في غزة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ومع ذلك يبدو أن كثيراً ينسون أو يتناسون دروس العدوان، ودروس الدماء والدمار والمقاومة، ويخفقون في النتيجة في التقاط فرص التغيير وبناء الشروط الذاتية للانتصار وإحقاق الحقوق. وهذه تماماً هي معضلة الذاكرة المثقوبة في واقع مثقل بالتاريخ والنضال والتضحيات والدماء والأحلام والطموحات، واقع مجابهة ومعادلات لا تملك ترف الرهانات والخيارات التي تخطئ في أبجديات السياسة وبديهياتها، ذلك لأن الثمن سيكون مزيداً من الدماء والتضحيات والمعاناة.

مفهوم الذاكرة المثقوبة يعني فقدان القدرة على رؤية السياقات التاريخية وتوظيف المخزون المعرفي والدروس والإنجازات المتراكمة، بما في ذلك الدروس المستفادة من الفشل والأخطاء، كما أنها ذاكرة تتجاهل حقائق الواقع الاستراتيجية المادية والمعنوية في حقول التأثير المحيطة القريبة والبعيدة، لذا هي ذاكرة قصيرة تبني مقارباتها على اللحظة الراهنة وعلى الحدث المباشر من دون رؤية امتدادات وتقاطعات ذاك الحدث في الواقع وفي سياقات الزمن. وتصبح خطورة هذه الذاكرة مضاعفة حين يتعلق الأمر بحركة الشعوب والظواهر الاجتماعية، ذلك أن قيادة الشعوب والتغيير الاجتماعي تحتاج إلى ذاكرة عميقة قادرة على رؤية السياقات والعوامل الطاردة والجاذبة، وعوامل الدفع وعوامل الكبح. ذاكرة تتحرك برصانة وعمق مبني على معلومات ومقاربات صلبة مرتبطة بالأهداف الكبرى للشعوب، وبغير ذلك نكون أمام أداء هش وسطحي.

غزة تحت النار وفي قلبها. هذه حقيقة. وهي تحت النار مذ وجد الاحتلال. وهذه أيضاً حقيقة. وفلسطين في قلب نار العدوان «الإسرائيلي» منذ لحظاته الأولى. وهذه حقيقة الحقائق… لكن في كل مرة تبادر «إسرائيل» إلى حلقة جديدة في سلسلة حروبها وعدوانها المتواصلة على غزة أو غيرها، تتصرف بعض القوى وبعض القيادات كأن ذلك يحدث للمرة الأولى. والأكثر سخرية ومأسوية في آن واحد ردود الفعل وشكل الأداء والخطاب السياسي ومضمونهما في مواجهة تلك الحروب الأزلية، ما يذكّرنا بالاسطوانة العالقة وهي تكرّر جملة «افقسي بيضة»!

عدوان مستمر، ومقاومة تحاول جهدها، ودماء تنزف، وخطاب سياسي عالق ومعلّق، وذاكرة تتصرّف كأنها مثقوبة… هذا واقع الحال… كيف؟

قبل الخوض في التفاصيل، ثمة تنويه ضروري وأساسي يجب أن يبقى حاضراً في الذهن وباستمرار، من بداية هذه المقالة حتى نهايتها، وهو أن المناقشة في هذا السياق لا تستهدف بأي شكل من الأشكال المساس بدور قواعد القوى السياسية والشعبية الفلسطينية وجماهيرها بتضحياتهم كافة، أي تلك القوى والجماهير التي تقاوم وتقدّم بلا حدود، بل يستهدف مستوى الأداء السياسي والقيادي الذي من واجبه حماية نضالات تلك القواعد والجماهير وتضحياتها لكي ترتقي المستويات القيادية في أدائها وخطابها إلى مستوى عطاء قواعدها وجماهيرها ونضالاتها.

مع كلّ عدوان «إسرائيلي» نعيد اكتشاف ما هو مكتشف فنكتشف فجأة أن «إسرائيل» عدوانية ووحشية، وفيما الشعب يصمد ويقاتل في مواجهة تلك العدوانية نجد أن الخطاب السياسي يميل إلى الهبوط وهو يكتشف مع كل حرب أن موازين القوى ليست في مصلحة الشعب الفلسطيني، وهنا لا مشكلة في وصف الواقع ورؤيته. غير أن المشكلة تتجلى عندما ندرك أن الهدف من تظهير ما هو ظاهر هو إغراق الوعي الجمعي بلا جدوى المقاومة والصمود لتبرير هبوط الأداء وحالة العجز وتقديم ذلك بكونه تعبيراً عن عبقرية العقلانية السياسية يذكرنا هذا بمقولة بليخانوف بعد فشل ثورة 1905 في روسيا عندما صرخ: ما كان ينبغي حمل السلاح… فردّ عليه لينين مذكراً بموقف ماركس – الذي حذر العمال في كومونة باريس عام 1871 قبل الثورة من خطورة الفشل لكنه قال بعد نزولهم إلى الشارع: لقد «هبوا ليقتحموا السماء» ووضع نفسه في خدمة الثورة . 1 … ومن تجربتنا الفلسطينية، ألم يقتحم عز الدين القسام السماء عام 1935؟ وأيضا غزة، ألا تقتحم السماء كل عام أو عامين؟ فهل نقول لهم ما كان ينبغي حمل السلاح!

مع ذلك، متى كانت موازين القوى على مرّ التاريخ في مصلحة حركات المقاومة وحركات التحرر الوطني تلك ما كانت عليه الحال في كوبا وفيتنام والجزائر ولبنان… فموازين القوى دوماً مختلة لمصلحة الاحتلال، وبالتالي فإنّ الوظيفة المركزية للمقاومة وقيادة حركة التحرّر الوطني والحركة الشعبية هي تعديل موازين القوى تلك كشرط موضوعي وذاتي للتحرّر… أليس كذلك؟

ردود فعل وأداء الذاكرة المثقوبة تبدو كأنها خاضعة لمتلازمة أزلية لا تتبدّل ولا تتغيّر: مثلا أن ما تقوم به «إسرائيل» كدولة احتلال هي حرب عدوانية، حرب إبادة، ما يستوجب الشجب والاستنكار والإدانة، مع إضافة كلمة «بشدة» لاحظوا «بشدة» هذه! . ثم تأتي جهينة بالطلب اليقين: مطالبة «إسرائيل» بوقف عدوانها فوراً… فوراً… فوراً… فوراً… طيب؟!

ثم: نبدأ بمطالبة الدول العربية، ومناشدة «الإخوة» العرب التحرك وفوراً وقف العدوان… طيب؟!

ثم: ندعو ونطالب ونناشد ونتمنى ونأمل أن يجتمع مجلس الأمن للوقوف أمام مجازر «إسرائيل» وجرائمها… طيب؟!

ثم: نطالب الإدارة الأميركية باتخاذ موقف واضح وغير منحاز بلى، هكذا غير منحاز! وأيضاً «بشدة» … فتستجيب أميركا بسرعة فائقة وفوراً: أوباما يؤكد على «حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها»… فيما يعلن السفير الأميركي في «تل أبيب» أن «الولايات المتحدة ستبقى تدعم «إسرائيل» حتى لو قامت بعملية برية ضد قطاع غزة». ثم يتبنى الكونغرس الأميركي «قراراً في حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات الصاروخية عليها»هل هذا واضح؟!

ثم: نطالب بقية المجتمع الدولي، بما في ذلك أوروبا بالتأكيد، بالتحرك لوضع حد لعدوان «إسرائيل» وغطرستها فوراً… طيب!

ثم: وفي حال استمرت «إسرائيل» في عدوانها وحربها فإننا نهدد بالتوجه إلى المؤسسات الدولية بما في ذلك محكمة الصلح ومحكمة البداية، ومحكمة النهاية ومحكمة الاستئناف، والمحكمة العليا والسفلى، ثم محكمة الجنايات الدولية… نعم هكذا!

ثم: «افقسي بيضة!»

يقال إنّ شر البلية ما يضحك، وعادة ما يكون هذا الذي يضحك هو ذاته الذي يبكي… يحدث هذا هنا تماماً «هنا شرق المتوسط» وللمرة الواحدة بعد الألف، حرب مستمرّة براً وبحراً وجواً، وذاكرتنا هي هي وخطابنا هو هو، ذاكرة مثقوبة وخطاب مكرور…

ذاكرة مثقوبة لأنها تحاول وباستمرار تخطي حقائق التاريخ والجغرافيا والاجتماع والسياسة التي تحكم دوائر الفعل الأربع التالية التي تقرر مصائر وصيرورات المواجهة مع الاحتلال وتجاهلها: دائرة الاحتلال وطبيعة المشروع الصهيوني، دائرة الشعب الفلسطيني وشروط مقاومته لتحقيق أهدافه الوطنية، الدائرة العربية وارتهانها السياسي والطبقي، دائرة المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية وما يحكمها من معادلات وموازين قوى.

وتتجلى «مهارات» الدائرة المثقوبة في مقارباتها وتفاعلها مع هذه الدوائر المتداخلة والمتقاطعة في جميع المستويات.

بمعنى، تنسى الذاكرة المثقوبة وتتجاهل مثلاً، طبيعة الاحتلال «الإسرائيلي» والمشروع الصهيوني، بما هو مشروع لا يتحرك عفوياً أو بنزق، كما لا تعنيه ولا تهمه أو تلفت نظره المناشدات الأخلاقية، فخياراته وممارسته وسلوكه السياسي والعسكري يتحدد وفقاً لاستراتيجيته النقيضة لوجود وحقوق الشعب الفلسطيني، لذا فإن أيّ شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية بما في ذلك ما يسمى بالمقاومة السلمية أو غير العنفية هو في نظره عمل إرهابي وعدواني آخر اكتشاف في القاموس السياسي والإعلامي «الإسرائيلي» مفهوم: الأعمال الإرهابية الفلسطينية غير العنفية ، وبالتالي وأمام ذلك كلّه، من حق «إسرائيل» دائماً «الدفاع عن نفسها»! ومن حقها شنّ الحروب والعدوان في أي مكان وفي أي زمان! وفي سياق ذلك لا تلتفت لا للمناشدات ولا للتهديدات، إذ تعتبر نفسها محصنة بدوائر دعم استراتيجية تعرف حدودها وصلابتها ومداها تماماً.

أما بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني فتتجلى الذاكرة المثقوبة في مقاربة واقع هذا الشعب ونضالاته ومقاومته، كأنه وجد وولد بعد اتفاقيات أوسلو بكامل معادلاتها وبناها وترجماتها، وليس شعباً يقاوم تحت الاحتلال وفي المنافي منذ 66 عاماً، لذا تحاول الذاكرة المثقوبة تبهيت تلك المقاومة والتقليل من شأنها، كي تبرر سلوكها «وعقلانيتها» الراهنة، فتتجاهل أيام المقاومة الأولى وسنواتها منذ بدايات القرن الماضي، وصولاً إلى اللحظة وما بينهما.

كما تتحرك الذاكرة المثقوبة انطلاقاً من معادلة عاجزة حيال مفهوم القوة وموازين القوى وعلاقات القوة، وتتصرف كأن الشعب الفلسطيني لا حول له ولا قوة، وفي سياق ذلك تكتشف الذاكرة المثقوبة فجأة أن المقاومة الفلسطينية لا تملك الطائرات والدبابات والصواريخ البالستية لكي تعادل الجيش «الإسرائيلي» يذكّرنا ذلك بإحالة البعض أسباب فشل بعض تجارب المقاومة الفلسطينية في الماضي على عدم وجود غابات فيتنام أو جبال سيرا مايسترا في كوبا! .

وفي السياق ذاته، يمكن رؤية خطاب بعض القيادات التي وصفت صواريخ المقاومة بالحجارة التي لا تأثير لها، وحتى لو كانت كذلك، وهي بالتأكيد ليست كذلك، وباعتراف العدو نفسه. ألم يكن من الأجدى على الأقل الصمت احتراماً لمشاعر أولئك الشباب الذين يحاولون نقل تلك «الحجارة» من غزة إلى «تل أبيب» وتخزينها وحمايتها وقذفها بجهد كبير؟!

الذاكرة المثقوبة ذاتها تتجاهل وعن عمد حالة العجز التي وصلت إليها بسبب خياراتها وما أسست له من معادلات سياسية وأمنية واقتصادية، بحيث جعلت الشعب الفلسطيني أسيراً لتلك المعادلات. لقد أوصلت الشعب الفلسطيني إلى هذا الواقع ثم تأتي لتقول ماذا نفعل؟ ليس في يدنا حيلة! والأكثر خطورة، ولكي تبرّر الذاكرة المثقوبة ذاتها، ترى أن ما وصلت إليه الحال كان بسبب مغامرات الشعب الفلسطيني وعناده ولا عقلانيته عبر التاريخ… السبب إذن هو مقاومة الشعب الفلسطيني وثقافة اليد التي تصرّ على مقاومة المخرز.

كما تحاول الذاكرة المثقوبة وباستمرار حشر معادلات التحرر الوطني والاستقلال وإزالة الاحتلال، ومواجهة الحروب العدوانية تحت سقف العمل الديبلوماسي، فهي ذاكرة ميالة دوماً إلى تقليص المساحات والخيارات، بحجة عدم استفزاز الطرف الآخر وعدم إعطائه الذرائع والمبررات. أي بعد 66 عاماً من الاحتلال لا تزال الذاكرة المثقوبة تعتقد أنّ سياسات «إسرائيل» وسلوكها مرتبطان بالذرائع والمبررات.

الوجه الآخر لهذا السلوك هو ثقافة الاستهانة بالمقاومة كثقافة وممارسة والتقليل من شأنها، والمناورة على التناقض بين مهمّات التحرر الوطني ومهمّات البناء الاجتماعي. في حين أنّ شروط التحرر الوطني واضحة بما هي عملية بناء استراتيجية وطنية تقوم على احترام إرادة الشعب الفلسطيني وحقه في المقاومة بمختلف أشكالها، وعدم حصرها تحت سقوف ومعادلات ما يسمى بـ«المجتمع الدولي»… بل انطلاقاً من الحق الطبيعي السياسي والتاريخي والأخلاقي لأيّ شعب في مقاومة الاحتلال، وهو حق غير قابل للنقض… وبناء على ذلك تقوم الوحدة الوطنية، وارتباطاً بذلك تُحشد التحالفات وبناؤها سياسياً واجتماعياً وقومياً وإقليمياً وعالمياً…

الذاكرة المثقوبة تلك هي التي دفعت أيضاً قيادة حركة حماس إلى المأزق، حين اعتقدت أن أولوياتها حركة «إخوان مسلمين» تتقدم على أولوياتها كحركة مقاومة فلسطينية، وعندما انحازت ضدّ الدولة الوطنية السورية ورحلت إلى قطر ونقلت رهانها إلى السلطان أردوغان، وأيضاً عندما سمحت للثقافة والسلوك الطائفيين بالتقدم على البُعد القومي والوطني في الصراع الدائر في المنطقة ومع الاحتلال، لتكتشف أن ما كانت تحظى به من احترام ودعم وتقدير لم يكن بسبب بُعدها «الإخواني» أو الطائفي، بل بسبب دورها كحركة مقاومة ترفع راية فلسطين، في حين أن رحيلها إلى قطر كان المصيدة فيما تصب عنتريات أردوغان الآن وقوداً في طائرات «إسرائيل» التي تقصف غزة كما تقول بعض وسائل الإعلام في حين أن التي تعيدها إلى ذاتها هي صواريخ سورية وإعادة تموضعها مع محور المقاومة وليس مع عربان الخليج وسفسطات الغنوشي.

في السياق ذاته، تتجلى الذاكرة المثقوبة في ممارسة بعض قيادات اليسار الفلسطيني الذي ضاعت وغابت ملامحه وهويته اليسارية ثقافياً واجتماعياً وممارسةً، حين فقد هذا اليسار رؤيته وبدأ يغازل الفكر الليبرالي والفكر الديني، وتخلى عملياً عن مقارباته الطبقية التي تشكل الجوهر وحجر الزاوية لأي تنظيم أو حزب سياسي يساري، فهيمنت على خطابه السياسي والاجتماعي الميوعة والنزعة الحقوقية والإنسانوية، وبالتالي فقد القدرة على الربط الدائم والمحكم بين الاقتصاد والسياسة، والتقاط التحولات الاجتماعية العميقة في المجتمع الفلسطيني كشرط ضروري لصوغ البرامج واستراتيجيات العمل.

يتعمّق ثقب الذاكرة في التجربة الفلسطينية، عندما تتجاهل أو تقفز تلك الذاكرة عن جوهر النظام الرسمي العربي وطبيعته، فيما هو محكوم بمعادلات التبعية السياسية والاقتصادية والهيمنة والتموضع الاستراتيجي تحت مظلة الحلف الأميركي «الإسرائيلي»، حيث لا تأثير أو دور أو مكان للمناشدات والعواطف الأخوية في معادلات كهذه، وعليه فإن الاستمرار في مطالبة النظام الرجعي العربي، بكامل بناه ومقارباته وارتباطاته بدعم شعب فلسطين، هو مثال ساطع على معضلة الذاكرة المثقوبة، وحال الجامعة العربية المثقوبة من كل اتجاه هو نموذج على هذا الواقع المهين.

أما في ما يتعلق بالرهان على عدالة المجتمع الدولي، فتواصل الذاكرة المثقوبة الرهان على إمكان تحييد الولايات المتحدة وأنظمة أوروبا الاستعمارية، كأن انحياز تلك المنظومات الاستعمارية هو مجرد سوء فهم أو بسبب نقص في المعلومات أو لقلة التواصل… كأن ذلك الانحياز ليس في جوهره انحياز استراتيجي شامل لـ«إسرائيل» باعتبارها مكوناً عضوياً من مكوّنات الاستراتيجية الإمبريالية في المنطقة بلى، الإمبريالية ، ولذلك فإنّ المناشدات والنداءات والاستعطافات لا تغني ولا تسمن من جوع، بل تعكس سذاجة سياسية منقطعة النظير.

الذاكرة المثقوبة ذاتها هي الذاكرة التي تصدّق وتروّج لتخاريف الرجعيات الدينية لا أقول الدين الإنساني العادل المقاوم والحضاري بما تضخه من غيبيات وهبوط وتشويه للوعي والقيم ومخاطبة حيوانية للغرائز وحرف للتناقضات وتشتيت المجتمعات وتمزيقها إلى طوائف وقبائل متناحرة.

قد يقول البعض هذا غير ممكن وليس صحيحاً، ولذا من المفيد أن نعيد تدوير المناقشة من خلال التذكير بعدد من المحطات التاريخية في التجربة الفلسطينية لنرى هل فعلاً كانت حركة الدوائر الأربع المشار إليها في سياق هذه المقالة غير ما ذكرت أم لا، فإذا كانت غير ذلك فأنا أعترف بخطأي وأسحب كل ما كتب أعلاه، أما إذا كانت كذلك ونصرّ على مواصلة الرهانات والخيارات والخطاب ذاته، فنحن إذن، وبلا أدنى شك، أمام ذاكرة أكثر من مثقوبة. لنتذكر ونستعيد:

الحرب العالمية الأولى ووعودها وعد بلفور سايكس بيكو صك الانتداب ثورات العشرينات والثلاثينات جيش الإنقاذ- مجازر العصابات الصهيونية عام 1947 و1948 العدوان الثلاثي عام 56 – اجتياحات لبنان 78 و 82 الانتفاضة الأولى-فشل أوسلو – الانتفاضة الثانية مواقف أوروبا عبر تاريخ الصراع مواقف أميركا واستخدامها الفيتو أكثر من 42 مرة لمنع إدانة «إسرائيل» مئات القرارات الدولية التي تنام وبهدوء تام في أرشيف الأمم المتحدة ومجلس الأمن… حرب غزة الأولى وحربها الثانية وحربها الثالثة وحربها العاشرة… و… و… و.

إذن، ما يواجهه الشعب الفلسطيني والحروب التي ُتشنّ عليه، ليس ردود فعل وانفعالات، وليس رداً على الصواريخ وسواها، بل سياسة واستراتيجيات عمل عميقة ومتراكمة لترسيخ المشروع الاستعماري وحمايته بجميع الوسائل ومن سائر أطراف الحلف العالمي والإقليمي بكل ما يمثلونه من حوامل ومصالح طبقية اقتصادية وثقافية، وبالتالي لسنا في سوق عكاظ لنواجه ذلك كلّه بخطبة وقصيدة.

هنا أصل إلى السؤال الآتي: هل تستطيع القوى السياسية الفلسطينية بجميع أطيافها أن تعيد بناء ذاتها بما يخرجها من متاهة الذاكرة المثقوبة ويعيدها إلى وهج ذاكرة الشعب الفلسطيني وما يجترحه من مقاومة وقدرة على الصمود وقدرة على تحمّل الألم وقدرة على بذل التضحية وقدرة على الانتفاض وقدرة على مجابهة عدو يتفوق عليه مادياً ألوف المرات ومع ذلك يقف ويجابه ويتصدى ويستشهد ويردّ بما ملكت يداه؟

التعامل مع هذا السؤال ليس رياضة ذهنية، بل عملية إعادة بناء وتقويم شاملة للخيارات: سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً، ثقافياً، تنظيمياً بما يشمل القوى السياسية وم.ت.ف. والسلطة الفلسطينية والمنظمات الشعبية والأهلية وبناء أسس استرتيجية التحالف الاجتماعي والقومي والإقليمي والدولي بما ينسجم مع أهداف عملية إعادة البناء المشار إليها، وبما يتناغم وينسجم مع تاريخ وإرادة وحقوق ومقاومة الشعب الفلسطيني وإرادته وحقوقه ومقاومته… عملية تعني في بعض جوانبها نفض الواقع تماماً وتحمل آلام التجديد وصعوبات البناء… وغير ذلك ستستمر المأساة وستواصل الذاكرة المثقوبة فعلها حتى النهاية.

1 – «من المعروف أن ماركس حذر عمال باريس في خريف سنة 1870 قبل الكومونة بعدة أشهر من أن أي محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع إليها اليأس، لكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في آذار 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدت الانتفاضة أمراً واقعاً، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذر السوء. لم يصرّ ماركس على اتخاذ موقف متحذلق وإدانة الحركة «باعتبارها جاءت في غير أوانها» مثلما فعل الماركسي الروسي المرتد سيئ السمعة بليخانوف، عندما كتب في تشرين الثاني 1905 مشجعا نضال العمال والفلاحين لكنه راح يصيح بعد كانون الأول 1905على طريقة الليبراليين «ما كان ينبغي حمل السلاح».

لم يكتف ماركس بالإعجاب الحماسي ببطولة أصحاب الكومونة الذين «هبوا لاقتحام السماء» على حد تعبيره. فقد رأى في هذه الحركة الثورية الجماهيرية وإن لم تحقق هدفها – خبرة تاريخية ذات أهمية كبرى، وخطوة إلى الأمام للثورة البروليتارية العالمية، أهم من مئات البرامج والمناقشات. ووضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه التجربة واستخلاص الدروس التكتيكية منها وإعادة النظر في نظريته على ضوئها». الدولة والثورة لينين .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى