مختصر مفيد

مختصر مفيد عام 2006، قدّمت المقاومة نصرها التاريخي الإعجازي بكسر قوانين الحرب الكلاسيكية، وإثبات أنّ بمستطاع جيش صغير من بضعة آلاف، مكوّن بطريقة شبه نظامية وغير نظامية، لا يملك سلاح مدرّعات ولا طيراناً ولا بوارج ولا حاملات، أن يلحق الهزيمة بسادس جيش نظاميّ في العالم، يمتلك ما لا تمتلكه إلّا الدول العظمى من أدوات الحرب، ويمنعه من التقدّم شبراً واحداً داخل الأراضي التي يتولى الدفاع عنها وحمايتها. وكانت المرّة الأولى التي يحدث فيها ذلك في التاريخ. إذ كان قانون الحرب أنّ الدفاع عن خطوط ثابتة في الجغرافيا، ليس من مهام حركات المقاومة، مهما كان عديدها وعتادها. وكان التعديل الذي أدخلته المقاومة على قانون الحرب عنوانه أنّ توازن النيران لم يعد العنصر الحاكم لنتائج الحروب. فتوازن بذل الدماء وتوزان الخوف صارا عاملين شريكين بالنسبة ذاتها في صناة حاصل التوازن الذي يقرّر نهاية الحروب. في الحرب على سورية ثبت أنّ الغرب وعلى رأسه مركز القرار الأميركي قد انتبه لهذه النتيجة. وقرأ معنى أن يهزم الجيش الأميركي في العراق ويقرّر الانسحاب. وهو لم يخسر بعد أربعة آلاف جندي ومئات الدبابات. بينما لم يبدأ يتحدّث عن التفكير بالانسحاب إلّا عندما تجاوزت خسائره خمسين ألف قتيل وآلاف الدبابات، وكيف أن «إسرائيل» التي خسرت فقط مئةً وقتيلين، هزمت أمام من تسبّبت لهم بخسارة تفوق الألف من الأرواح. فقرّرت الابتعاد وحلفاؤها الذين يعانون مثلها الوباء ذاته. العجز عن تحمل بذل الدماء، وزجّت بمن يملك هذه القيمة المضافة بصورة افترضت أنها تضاهي قدرة الجيش السوري وحليفته المقاومة اللبنانية. والمقصود هنا تنظيم القاعدة ومتفرّعاته. وكانت معادلات التفاوت تميل إلى حساب القاعدة بقياس عدد الانتخاريين الذين قدّمتهم القاعدة في العراق خلال أربع سنوات وفاق عددهم الآلاف، بينما لا يتعدّى عدد استشهاديي المقاومة اللبنانية المئة إلا بقليل. تنتصر سورية ويخرج الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب القَسَم ليقول أشياء كثيرة عن تفسير الحرب على بلاده، وعن مسارها، وطابعها كعدوان أجنبيّ يتّصل بترسيم خريطة المنطقة على قاعدة «أمن إسرائيل». وأعلن انتصار سورية عندما أعلن تمسّكها بالثوابت التي أرادت الحرب عليها لتغيير هذه الثوابت وفي مقدّمها أن فلسطين كانت وستبقى البوصلة والقضية المركزية. خصّص الرئيس الأسد فقرات هامة من خطابه لتفسير هذا الإعجاز الثاني الذي تحقّق بنصر سورية على تحالف يضمّ مئة دولة ومئة فضائية. وسُخّرت له مئة فتوى ومئة مليار دولار، ومئة تنظيم متفرّع من القاعدة يبذل كل يوم مئة انتحاري، ويقطع مئة رأس ويبقر بطون مئة حامل، فكيف حدث هذا؟ يجيب الرئيس الأسد إنّ مراكز الدراسات ستبقى لعشرات السنين تبحث وتبحث لفكّ شيفرات هذا اللغز. يجيب الرئيس الأسد بتقديم مطالعة تنطلق عن إدخاله في قراءة الاستراتيجية وتوازناتها عاملاً جديداً يقرّر مستقبل الحروب، وهو التوازن الحضاري، المخزون الثقافي للأمم والشعوب، والوزن النوعي التاريخي للدول. فالدول الحديثة المصنّعة لا تملك قدرة الصمود كأمم عمرها عشرات آلاف السنين. التعايش متعدّد الأعراق والديانات خبرة تراكمية هادئة تمتلكها سورية، وهي تتكوّن ببرود موجات الهجرات والموجات البشرية الوافدة عبر آلاف وعشرات آلاف السنوات لتستوعب في نهرها روافد وجداول. وتواصل التراكم كجبال نشأت عبر العصور الجيولوجية بطبقاتها، لا تشبهها جبال صناعية بناها مهندسون من الباطون المسلّح، والكتل الترابية المستجلبة. وعزّة النفس والكرامة والسيادة قيم غير تجارية تراكمها الشعوب وتورثها بجيناتها لأجيالها، وهي تتباهى بمنجزاتها للحضارة الإنسانية. فإن قال السوريون نحن صنعنا للبشرية الأبجدية ومِن عندنا انطلقت الديانات، كم بلداً في العالم يستطيع يقول ذلك؟ وإن قالت سورية أنها هزمت الغزوات الرومانية والمغول والتتار وغزاوت الفرنجة والعثمانيين والفرنسيين، من يستطيع أن يقول مثلها؟ وإن قالت إنّ عمر العيش الحر بين أتباع الديانات في تجاورهم اليومي في السكن والعمل وتساويهم الطبيعي في الدولة والمجتمع هو من عمر هذه الديانات نفسها، فهل يستطيع السعودي والأميركي أن يقولا مثلها؟ البحث يحتاج مساحات ووقائع أكثر بكثير من توازن الثقة بالنفس والثقة بالبقاء في هذه الأرض، والتشبّه باعتدال مناخها. لكن الجوهري أن ثمة مصدر من مصادر القوة الاستراتيجية للدول يضاف إلى مساحتها وعدد سكانها وثرواتها وجيشها. هذا المصدر هو عمر هذه الدول عبر الزمن وتجذّرها في التاريخ وإسهامها في الحضارة الإنسانية بما يعادل الثقل النوعيّ الحضاري للأمم، الذي يصنع قابليتها أو مناعتها في وجه خطر القسمة أو الانهزام والضعف، ودرجة توترها على ما سيكتب التاريخ إلى جانب تاريخ أمجاد الأجداد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى