الشال الصوفيّ
وضعَتْ وشاحاً صوفيّاً على كتفيها ووقفت قبالة النافذة. كان المطر آخر ما تحتاج إليه في ليالٍ كهذه. تنزل قطراته راسمةً مساراتٍ متشابكةً أمامها وكأنّ غيمةً رماديّةً ما، كُلّفت بمهمة البكاء عوضاً عنها، وهي التي حرّمت على نفسها البكاء منذ سنين طويلة. حتّى وإن تجرّأت دمعة ما على تعكير صفو عينيها أو ملامسة كحلها، كانت تمنعها من النزول، وتمسحها قبل أن تشعر بحرارتها تلامس جفنها.
صقيع روحها امتدّ نحو كافّة أنحاء جسدها، وسار البرد في شرايينها ليجمّد دمها ويقتل أيّ شعورٍ قد يوقظها من سباتٍ اختارت أن تعيشه كلّ يوم. ربّما جلدها أيضاً أصبح بارداً، بارداً جدّاً تخشى عليه حرارة الدمع. ربما لأن الدمع لو نزل على وجهٍ متجمّد لأحرقه.
تفقّدت هاتفها، ثم جلست وركبتاها على مقربةٍ من صدرها كأنهّا تحتضن نفسها وتختبئ فيها. تنظر إلى فستانها الأحمر الذي رمته على الأريكة. تعيد التفكير في تفاصيل ما جرى خلال ساعات المساء الماضية. دعوة إلى عشاءٍ جمعها وصديقتها وزوج الأخيرة مع صديقٍ له وزوجته.
كعادتها، حرصت على ارتداء ما يظهر روعة أنوثتها، فاختارت الأحمر ليكون سيّد الليلة لثقتها بقوّة التحالف الذي يبنيه وشعرها الأسود. لم يكن جمالها الخارجي سلاحها الوحيد، فقد كان مدعّماً بذكاءٍ حادّ يزيد حضورها جاذبيةً. كانت تتحدّث بكثيرٍ من الثقة وتبدي آراءها بكثيرٍ من الجرأة، خصوصاً أنّها مديرة إحدى كبريات الشركات العقارية في البلد.
ذاك المساء، جنّدت قواها كافة لتحقّق نصراً جديداً أو لتوقع بضحيةٍ جديدة. هي لا تنتقي أهدافها من الرجال، بل هم من يجعلون أنفسهم موضع هدفٍ ما إن يتجرّأ أحدهم على مقاومة سحرها. فكلّ من لا ينحني إعجاباً وأكثر، تحرص على جعله يركع هائماً. وبناءً على استراتيجيتها تلك، لا فرصة لزوج صديقتها المسكين في إثارة اهتمامها، وهو الذي أبدى اهتمامه الزائد منذ لقائهما الأول. أما صديقه، فقد وضعه تجاهله لها في بداية الأمسية موضع هدفٍ.
أثناء تلك الحرب الخفية التي كانت تخوضها ضدّه تحت غطاء لقاءٍ لطيفٍ وأمسيةٍ هادئة، كانت تتبادل أطراف الحديث مع جميع الحاضرين إلّا الهدف. وبعد مرور ما يقارب ساعة، حان وقت الغارة الأولى حين قالت زوجة الهدف ممازحةً زوجها: «كعادتك ستختار مدينةً شتاؤها أشدّ برداً من الطقس الذي نعاني برده الآن. أنت الوحيد الذي يحبّ السفر إلى أماكن يهرب منها أهلها».
بصوتٍ هادئٍ يضجّ نعومةً ولا يخلو من الغنج، قاطعتها قائلة: «وهل هناك ما هو أكثر دفئاً من شتاءٍ قارس؟». قالت تعليقها ذاك، وهي تنظر بعينين ترميان أسهماً وإصبعها يدور ببطءٍ مقصودٍ حول حافة الكأس الموضوع أمامها، لتقطع بعدها نظرتها الطويلة تلك برمشةٍ ثم استدارةٍ نحو صديقتها مغيّرةٍ مجرى الحديث.
لم تُطل البقاء، فبعدما تأكّدت من الاستحواذ على انتباهه ومن كونه سيفكّر فيها كثيراً على الأقل تلك الليلة، قامت بانسحابٍ تكتيكي تاركةً خلفها الهدف حائراً ضائعاً مأسوراً بسحرها. ولكنّها لا تحبّ إطالة أمد الحرب لأكثر من ليلة كي تبدأ نهارها الجديد بحثاً عن غرورٍ جديدٍ تحطّم حصنه المنيع.
ها هي تنظر مجدّداً نحو هاتفها، ولكن ما من رسالةٍ أو اتصالٍ. لا يعقل أن تخسر معركةً هي طرفاها. لا يمكن أن تُهان أمام كبريائها، وقد وعدته أن تهين جميع الرجال أمامه. لا بدّ أن يكون النادل قد نسي إعطاءه تلك الورقة الصغيرة التي دوّنت فيها رقم هاتفها أثناء مغادرتها المكان. يستحسن أن يكون الأمر كذلك، وإلّا سيكون هو أوّل من يخرق بمقاومته فتنة أنوثتها، لائحةً طويلةً من أسماء رجالٍ كانوا يثبتون لها، كلّ مرّة، أنّ أباها الذي اعتادت أن تسمعه كلّ ليلة يحدّث أخرياتٍ بينما تستلقي والدتها على فراشها تصارع المرض، ليس سوى رجلاً، والخيانة شيمة الرجال.
حين قرّرت أخيراً أن تخبر والدتها بكل ما كان يجري، صدمتها الأخيرة بخضوعها وإقرارها أنّها على درايةٍ بالأمر ومنذ زمنٍ طويل. وكغيرها من نساء مجتمعنا، آثرت أن تبقى زوجةً تُخدَع وأمّاً تربّي طفلتها على أن تكون امرأةً مطلّقةً صانت كرامتها ورحلت بكبرياء كلّفها فراق صغارها.
كانت تشعر أنّها هي السبب أو العائق الذي منع والدتها أن تثور. ربما لو لم تكن موجودة على قيد هذه الحياة، كانت أمّها لتصرخ، لتغضب، لترحل، وما كانت لتمرض، لتذبل، ولتموت قهراً. ربما لو تصدّت له هي في إحدى تلك الليالي وجعلته يعرف أنّ طفلته التي كان يظنّها نائمةً لا تسمع شيئاً من حديثه التافه مستيقظةٌ ومتيقّظة.
مجدّداً، تتفقّد هاتفها. هي المرّة الأولى التي تشعر فيها بالقلق على تاريخٍ فنت أحلى سنوات شبابها في بنائها. تاريخٌ حافلٌ بجثث رجالٍ لم يستطيعوا الصمود أمامها طويلاً وأعلنوا استسلامهم في أولى ساعات الحرب متخلّين عن مدنٍ من زوجاتٍ إمّا غافلاتٍ عمّا يجري أو راضياتٍ تحت تهديد المجتمع. ما كانت لتسمح لرجلٍ بأن يحتلّ قلبها يوماً ويجعلها زوجةً غبيةً. قرّرت أن تكون المرأة الثانية التي يترك الرجال نساءهن لأجلها. فالهدف لا بدّ أن يخون يوماً أو كلّ يوم، وهي لن تكون أمّها.
ها هي الساعة على بعد دقائق من اليوم الجديد، والهاتف لم يعلن انتصارها بعد. وفي تمام الساعة الثانية عشر، تفقّدت هاتفها للمرّة الأخيرة، ثم وللمرة الأولى منذ سنين أطلقت سراح دموعٍ احتجزتها أسيرة حربٍ ظنّت أنّها رابحها الوحيد، إلّا أنّه لم يكن هناك خاسراً سواها وقد أضاعت سنين شبابٍ وفرص حبّ ووعود وفاء. وأخيراً، جاء من ينفي عن صنفه هذه التهمة، ويبرهن أنّ الرجل الرجل لا ينحني لكل أحمر شفاهٍ أو كحلٍ أسود يلقاه.
لم يطل بكاؤها كثيراً. كلّ ما في الأمر أن بعض الزوجات يطلن السهر كحال زوجة هدف الليلة. والآن، تستطيع مسح دموعها بشال والدتها الصوفيّ الذي تضعه بعد كلّ معركة على كتفيها، وكأنّها تستر به عريها وعارها. تمسح دموعها وتخلد للنوم بعد أن متّعت سمعها بنغمة رنين هاتفها الذي ما خيّبها يوماً، وإن كان هذه المرّة قد تأخر إلى ما بعد منتصف الليل.
آلاء ترشيشي