دماء أدونيس زهرة حمراء

هتاف دهام

سالت دماء أدونيس نصر على أرض اللاذقية فانبثقت زهرة حمراء من ترابها. وفي قاعة سيدات الشويفات، احتفل محبّو أدونيس بطقوس استشهاده في عرس زفافه بالزغاريد والأناشيد الأحبّ على قلبه إلى عروسته «القضية» التي كانت مزروعة في فكره وعقيدته وكتاباته.

من دون أن يقطع قالب الحلوى، قطع الحزن العميق على وداع عريس المدائن قلوب محبّيه، فهو غادر من دون أن يستأذن أحداً. لم يكن أدونيس بيننا أمس، لكنه كان نجمنا البهيّ. لم يراقب جرياً على عادته بنظرته الثاقبة مَن حضر احتفالات ومناسبات الحزب، سواء في الأول من آذار أو في 16 تشرين أو في 8 تموز أو في وداع رفقائه الشهداء، لم يتأمّل تعابير وجوه الحاضرين، لم يشارك في التنظيم، لم يحمل كاميراته ليلتقط صوراً.

لم يقف إلى جانب ماهر الخطيب، وفراس ورشا الشوفي، وإينانا العدس وزوجها الرفيق سامر عبد الباقي الذي لم يتخلّ عن صورة الشهيد طيلة الصلاة في الكنيسة، وثائر الدنف وكثر غيرهم، كلّ ذلك لم يحصل، فـ»أدو» جمع كلّ محبيه في تلك القاعة التي لم تتسع لهم بطابقيها الأرضي والعلوي وعند المداخل المؤدية إليها وعلى الطريق التي توقّف السير فيها من اتجاهين، أتى هؤلاء من مختلف المناطق، من البقاع والجنوب والشمال وبيروت والمتن والشوف وكلّ الغرب، لكن النسر الذي حلق للعلا في استشهاده في كنسبّا يوم الجمعة الماضي، لم يلحظ اختلاط المشاعر عند نسور الزوبعة الذين يعتزّون به، وعند زملائه وأصدقائه من الذين يوافقونه الرأي أو يخالفونه، لم يقف معهم تحت المطر الذي أكد هطوله خير وحق وجمال هذه الأرض التي افتداها بدمه.

لم ترَ يا أدونيس حصاد ما زرعت من صدق ومن قول للحقيقة. لم تسمع ما قاله لك فراس، لم تواسِ ماهر وسعد القادري وزينون نابلسي، كما واسيتهم في مأتم عميد الداخلية الراحل صبحي ياغي وأنت الذي قلت لماهر «اليتيم هو يللّي ما عنده صديق يروح معه على أيّ محلّ شو ما كان الثمن». وكتفك الذي حمل نعوش رفقائك الذين استُشهدوا في الحرب على الإرهاب، كان مرتاحاً أمس، فهو حُمل على أكفّ رفقاء آخرين وكأنك تقول في بلادي إذ يرتفع الشهيد، يُسعفه شهيد، ويُصوّره شهيد ويودّعه شهيد، ويُصلّي عليه شهيد. حلمتَ يا أدونيس بعرس الشهادة، فتحقق طموحُك بأن تصبح شهيداً كسناء محيدلي ووجدي الصايغ وعاطف الدنف ونورما أبي حسان وخالد علوان، وأنت الذي كنت تحرس لوحته من المندسّين الذين أرادوا انتزاع ملامح مقاومته من شارع الحمرا.

صرت شهيداً أيها المثقف والمناضل. لم تلمح عيناك والدتك أم صنين وهي تقف وقفة العز تؤدّي التحية تودّعك بفخر واعتزاز، لم تسمع أبا صنين يقول «زلغطوا. أدونيس استشهد من أجل هالأمة». لم تسمع وترَ التصفيق لك، لم تدمع عيناك للحشود الغفيرة التي تخطّت الآلاف ومشت طويلاً في ظلّ طقس متقلّب، تارة مشمس وتارة يزخ المطر، من قاعة الشويفات صعوداً إلى كنيسة مار الياس في حي القبّة، متحدّية صعوبة الطريق كرمى لـ»أدو». لم تسمع مَن خرّجتهم من مخيمات ضهور الشوير وبولونيا وبوارج وغيرها مبتهجين باستشهادك يغنّون «هيغالو هيغالو أدو يا نيّالو… استشهد فدا الأمة وبطل عنّو قالوا». لم يمتلئ شعرك بالزهور والأرزّ الذي رُشّ عليك، فخراً لما قدّمته لبلادك سوريانا.

امتزجت مشاعر مَن شارك في عرسك يا نصرنا، خليطاً بين الفخر والاعتزاز بشهادتك، وبين الحزن والبكاء على غيابك شاباً جمع صفات العسكري القوي الصّلب والحنون والطيّب والصريح، الذي لن تطأ قدماه مركز حزبه السوري القومي الاجتماعي بعد اليوم، لكنه لن يغيب عنه قط. والذي لن يسارع إلى توضيب أغراضه للذهاب إلى الشام واللاذقية وحلب والسويداء والجولان للمشاركة بواجبه القومي، ولن يتمشّى في شارع الحمرا، ولن يدخل مقهى كعكايا الذي كان من روّاده على الدوام، لن يذهب إلى شقيقاته اليسار ونبوغ وسحر، لن يشارك في معرض الكتاب، لن يُهدي كتباً لأحد ولن يتلقى كتاباً من أحد الهدية الأحبّ إلى قلبه ، لن يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي عن الحب والجمال، عن سورية وفلسطين، لن يضع صوراً لأيّ من شهداء المقاومة، لكن الأكيد أنّ دماءه حبر التاريخ. ما كتبته قبل أيام من استشهادك يا «أدو» كان أصدق ما اكتنف مشاعرك وما تصبو إليه دائماً «أنا الشهيد تذكروني عندما تحتفلون بيوم النصر».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى