«خلسة في كوبنهاغن» لسامية عيسى رواية الشتات الفلسطينيّ

كتب عمّار المأمون: صدرت لدى دار «الآداب»، في بيروت رواية «خلسة في كوبنهاغن» للكاتبة والروائية الفلسطينية سامية عيسى، ويتناول هذا العمل الثاني بعد روايتها «حليب التين»، معاناة شعب كامل يقاسي الأمرّين لتحديد انتمائه وهويته وإبراز محاولاته لاستعادة الأرض التي هجّر منها. كما تبني عيسى صوراً من ملحمة الشتات الفلسطيني كجزء من تاريخ نضال طويل ما زال مستمراً إلى اليوم.

الحكاية التي تدور حولها رواية «خلسة في كوبنهاغن» بسيطة، فاطمة الأم التي فقدت أبناءها تُفاجأ مرة برؤية ابنها عمر الذي ظنته ضائعاً على التلفزيون، لتبدأ رحلة البحث عنه ومحاولة إعادته إلى كنف العائلة، إلاّ أن حبكة الرواية تتعقد، لتصبح أشبه بألبوم صور كل منها يروي حكاية عن القمع والتهجير الذي شهده الشعب الفلسطيني. فالحبكات الفرعية تقدم صوراً مختلفة لملحمة الشتات التي انتهت بجيل كامل في أوروبا والدول الإسكندنافية، خاصة التي وجدت نفسها بسبب اتفاق أوسلو أمام واجب أخلاقي باستقبال اللاجئين، وتنتهي الرواية بعودة الإبن الضائع عمر إلى أسرته بعد المحاولات المضنية التي يقوم بها حسام ـ ابن شقيقه ـ ليستعيد عمر ذاكرته ويعود إلى كنف الأسرة.

تطرح الرواية العلاقة مع الآخر بصورة إشكالية، الآخر الفلسطيني والعربي الأوروبي وحتى اليهودي.

العنوان نفسه يطرح إشكالية الانتماء، إذ ترسم الرواية فضاءين يسير كل منهما بصورة موازية للآخر، فلسطين الذكرى والأرض البعيدة التي انقطع عنها المهجّرون إثر الويلات التي ذاقوها فيها وفي لبنان وكوبنهاغن، والمدينة المختلفة تماماً عما اعتادوه، وتبرز كذلك محاولاتهم لتأسيس وجود جديد في دول تعطيهم فقط حقوقهم الإنسانية.

أما «الخلسة» فهي تعكس الحيوات السريّة التي عاشها كل من شهد هذا الشتات في محاولة لتجاوز جوانب رهيبة ستبقى طي النسيان، ففاطمة الجدة أدمنت العادة السريّة، وصديقة عملت بائعة هوى في دبي، أما حسام فيحاول التأسيس لانتمائه الجديد، وعمر العم الضائع فمتعدد الانتماء، فهو الفلسطيني الذي نجا من الموت صغيراً، وهو عاموس ابن اليهودي عمير الذي تبناه بعد فقدان ذاكرته، وهو آدم آدم العالم المشهور ذائع الصيت… الجميع يخفون ذكريات ومحناً، إما تدفعهم إلى الانخراط في المجتمع الجديد وتبني عاداته، أو التكتّل في أحياء شعبية غيتو يحاول سكانها الحفاظ على ما تبقى من انتمائهم.

صوت الراوي بارز في الرواية، فأحيانا تتورط الروائية عيسى عاطفياً في السرد ليعلو صوتها على أصوات الشخوص كأنها إحداها، ولتتحدث بصوت من يحاكم الوطن والدول والأفراد على مواقفهم. من الصعب أن تحافظ على حيادها، فالقضية لم تنته بعد بل هي مستمرة، وتتوغل في التفاصيل اليومية لكل فلسطيني.

تتناول الرواية جانباً مهماً من القضية الفلسطينية وهو العنصرية. عنصرية الآخر، إذ تطرح مفهوم «اللاوطن» الذي انتشر في مخيّمات اللجوء في الدول الإسكندنافية، فصورة اللجوء في هذه الدول ليست لامعة مثلما يظن البعض، لأن اللاجئين يُعرّفون بأنهم من دون وطن، من دون أيّ هوية تثبت انتماءهم. يعيشون معلقين في التاريخ وفي المكان، محرومين من حقوقهم، والاحتجاجات التي شهدتها النروج والدانمارك تعكس هذه الحالة. فالحكومة هناك حاولت تجاهل ما يحدث، وهبوب رياح «الربيع العربي» دفع إلى قيام تظاهرات للمطالبة بالحقوق المدنية التي لم تعد من مطالب الفلسطيني فحسب، بل لسائر المهجرين والمشتتين من أوطانهم بسبب الحروب والقمع. ثمة إشارات للجوء السوري في تلك الدول والمعاملة التي ينالها اللاجئون بعدما هجّروا من أوطانهم هو استغلال من قبل الدول ومحاولة لتبييض الأوجه على حساب المأساة والمعاناة.

كأنك معلق في الفضاء، تعيش تاريخ أرضك وتاريخاً آخر تحاول صنعه الآن. الأمر أشبه بسقوط مستمر لا نهاية له. الشتات ليس أن تفقد وطنك وأسرتك فحسب. إنه أزمة وجودية، إذ تعيش تناقضين، ما كنت، وما ستكون، أيهما يستحق العناء أكثر. في النهاية لا إجابة واضحة عن هذا السؤال. الرواية ترسم معالم الشتات الفلسطيني واليهودي أيضاً، شعبان، كلٌّ منهما يفقد ما يملك ويدفع حساباً لا ذنب له فيه، الكل مهدّد بالفقدان دائماً. الشتات يتسع ليشمل كل معذب وكل لاجئ، إذ لا مفر من أوجاع الذاكرة المفاجئة التي تحطم الأفراد ليتحولوا إلى أشبه بعالقين في متاهة. أن تكون بعيداً لا يعني أن تَنسى.

ينسحب ذلك على الجسد وما يعانيه في ظل الشتات. البعض أدمن المخدرات لينسى، والبعض تورط في المافيا. المهم أن ينجو. الجنس بات معادلا الوجود. البعض ينفي وجوده فيمتنع عنه في الشتات. هو الخوف من الانتماء إلى تلك الذاكرة مجددا، محاولة للهرب. حسام أحب امرأتين، منى الفلسطينية التي تقاسمه وجدانه وانتماءه ويتمنى لو يضيع في حضنها إلى الأبد، ويارا ذات الأصول اليهودية التي تشاركه انتماءه الفكري، فالموضوع يتجاوز اللذة ليصل إلى حدّ الخوف من الجسد. حتى عمر الذي فقد ذاكرته كره الجنس، يشعر بالقرف من العملية كلّها. هو الامتناع عن توريط الجسد في ظل ما شهده من عذابات، محاولة للحفاظ على ما بقي منه بعيداً عن إنهاك الجنس.

يقف اللاجئون والمحكومون بالشتات أمام أزمة ثقافية، حقوق لم يعرفوها أصبح في إمكانهم ممارستها. المشاركة السياسية وحق المرأة في المطالبة بحقوقها كانا صدمة للكثيرين والكثيرات، حتى أن بعضهم رفض الزواج كي لا «يتبهدل». السطوة الذكورية تختفي. الأنثى أصبحت سيدة نفسها، بعيداً عن ذكريات الاغتصاب والقهر.

معالم التكنولوجيا الجديدة وأساليب الاتصال غيّرت من شكل الانتماء إلى القضية والأرض. حلم العودة التقليدي لم يعد يكفي. لا يستغنى عنه، إنما تغيّرت أساليب التعامل معه، ما دفع حسام إلى تأسيس موقع «الشمال» الإلكتروني في محاولة لتجميع الجالية الفلسطينية وتحقيق الترابط بينها ومساعدة المهجرين في بلد يحق فيه للشخص أن يصرّح بالخطأ وأن يطالب بحقه إن كان على صواب. الشمال هو سيد الاتجاهات، أساس الاستدلال عن باقي الاتجاهات في حال الضياع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى