«عولمة التحالفات الرديفة» في وجه «الإرهاب المُعولم»

علي عوباني

تحالف إثر تحالف، سمفونية تكرِّر نفسها، بعناوين دولية، عربية، أو إسلامية، نعيش اليوم زمن «عولمة التحالفات الرديفة»، بوجه «الإرهاب المُعولم». تحالفات ناشئة تطرح إشكاليات حول مدى استقامة وجودها وتعايشها مع منظومات المنظمات الدولية والإقليمية المعمّرة. فهل تتقاطع أو تتشابك معها وتهدّد وجودها؟ هل هي نواة نظام عالمي جديد، تجبّ ما قبلها، وتؤسِّس لمنظومات كونية جديدة؟

يعيش العالم اليوم هاجس الإرهاب، ورغم كلّ ما يعانيه جراء اكتواء الجميع بناره، يصرُّ البعض على التعامل مع هذه الظاهرة بخفّة، مفضِّلاً مصلحته الآنية الذاتية، على مصلحة الجماعة الكونية. وبدلاً من توحد الجميع في محور واحد وصفّ واحد، نرى المحاور والتحالفات والاصطفافات «تفرّخ» يوماً بعد يوم. الكلّ عدو للإرهاب، ويجاهر بمحاربته، لكنّ هذا الكلّ، ليس كلاً بل أجزاء مجزأة، تضعف الموقف، وتقود إلى الاعتقاد بأنّ الإرهاب أضحى مستعصياً على أعتى جيوش العالم وتحالفاتها، لا أحد بإمكانه أن ينتصر عليه، إنها «مهزلة العصر» و»العلامة السوداء» في تاريخ البشرية جمعاء بكلّ معنى الكلمة.

الإرهاب المشبوه، ليس بكائن فضائي يغزو الأرض، وهو لم يخلق من العدم، إنه هجين تحالف استخباراتي وتقاطع مصالح استعماري سلطوي ونفطي له جذور اضطهاد إقليمية ودولية، تغذيه إيديولوجيات جاهلية، مسخته إرهاباً ظلامياً هدّاماً بأوجهه كافة، يشوّه صورة الإنسان، يخلخل المجتمعات، ويشرذم الكيانات، فتضمحل معه الاتحادات الإقليمية، وتنهار المؤسسات والمنظمات الدولية التقليدية.

تاريخياً، وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وحتى في ظلّ الحرب الباردة، والحروب التي شهدها العالم ومنطقتنا العربية، بقيت للعبة الدولية حدود مرسومة، وخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، وبقي جشع وطمع الدول الاستعمارية الكبرى، ضمن إيقاع وضوابط محدّدة، يمكن ردّها عند حدّها، ولو ضمن حدود معينة. طوال المراحل السابقة لعب مجلس الأمن الدولي دور ضابط الإيقاع في الأزمات الدولية الكبرى، باعتباره ضامن السلم والأمن الدوليين، نجح حيناً، وفشل أحياناً أخرى، وتلاعبت به المصالح الدولية في أغلب الأحيان، ومع هذا الدور تكاملت منظمات إقليمية كثيرة منها ما أسس على أساس اللغة أو الدين أو الإقليم، ومنها مؤتمر التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد الأوروبي، وقد لعبت كلّ هذه المنظمات أدواراً كلّ في نطاقها الجغرافي والديموغرافي، لمصلحة مشتركة للأعضاء المنضوين تحت لوائها، ما ساهم في رأب الصدع، وإزالة التوترات الدولية والإقليمية ونزع فتيلها أحياناً، وأوجد حداً أدنى من الاستقرار الدولي.

بقي الكيان «الإسرائيلي» الاستثناء الوحيد، والمتمرّد الوحيد على كلّ المنظمات والقرارات الدولية على مدى نحو سبعين عاماً، وهذا بديهي باعتباره في الأساس كيان احتلال وعدوان يمارس إرهاب الدولة، لذا كان جلياً تهرُّبه منذ تأسيسه من الانضواء في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي يمكن أن تنقلب ضدّه يوماً، وكان واضحًا تفلته المستمر من كلّ ما يمكن أن يحدّ من حركته العدوانية، أو يجعله موضع مساءلة ومحاسبة وملاحقة دولية.

وإذا أردنا أن نقسِّم المراحل التاريخية التي مرت بها المنظومة الدولية يمكن الإشارة إلى التالي :

المرحلة الأولى، بداية الأمر ربما كان بإمكان تلك المنظومة يوماً أن تُمارس دوراً وكان لها هامش، يمكنها المساهمة من خلاله في حلّ بعض الأزمات الدولية المستعصية وتوفير شيء من الاستقرار فيها باللجوء إلى أدواتها الناعمة وأخرى الغليظة كالفصل السابع ونشر قوات طوارئ دولية في عدد من دول العالم.

المرحلة الثانية، تحوّلت المنظومة الدولية تحديداً إلى «حصان طروادة»، أي مجرّد أداة في يد بعض الدول الكبرى، وتحديداً أميركا، وأضحت مجرد مظلة دولية لشرعنة الاعتداءات الخارجية ضدّ بعض الدول كما حصل خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.

المرحلة الثالثة: أضحت المنظومة في حالة موت سريري، بلا فائدة عملية مرتجاة، مجرد هياكل عظمية، بلا أنياب، تجري المياه من تحتها، ويقتصر دورها على العويل والصراخ، لا تحرك ساكناً لحماية السلم والأمن الدوليين الذي يفترض أنه مهمّتها الرئيسية، أضحت تقف موقف المتفرج، لا تبادر، رغم بياناتها التذكيرية الكثيرة آخرها بيان بان كي مون حول الاستيطان الإسرائيلي ، ورعايتها حوارات هامشية اليمن، سورية… من دون أن يكون لها أي تأثير أو قوة دفع باتجاه الحلول، وإصدارها قرارات سطحية تفيدنا بأنها لا تزال موجودة على الساحة الدولية، لكن لا حياة لمن تنادي.

إنّ ما يدعو إلى الأسف أنّ تلك المنظومة غاب دورها بينما يعيش العالم أصعب مرحلة أزماته الكونية، فما تُصدره اليوم من قرارات على كثرتها 65 قراراً منها ثلاثة حول الإرهاب عام 2015 ،63 قراراً منها خمسة حول الإرهاب عام 2014، 47 قراراً منها 3 حول الإرهاب عام 2013 يبقى حبراً على ورق، لا يلتزم بها معظم الدول الأعضاء، رغم مشاركة هذه الدول في «همروجة» إقرارها، وحفلة التصفيق لها، ومما لا شكّ فيه أنّ ذلك يعود بشكل أو بآخر إلى فقدان الثقة بالمنظمة، التي لا يمكن إعفاؤها من مسؤولية ما وصلت إليه حالها اليوم جراء انحيازها وانحرافها عن مسارها المُحدّد.

أمام الواقع الحالي اليوم، بعد سبعين عاماً من عمر المنظومة الدولية، وفي خضم طفرة التحالفات الدولية، نطرح العديد من الأسئلة أهمها :

لماذا باتت قمة السهولة اليوم تتمثل بالإعلان عن تحالفات تارة دولية، وتارة عربية، وطوراً إسلامية، من خارج أطر المنظومة الدولية؟

ألا تنعي تلك التحالفات المستحدثة بشكل أو بآخر المنظومة الدولية والمنظمات الإقليمية وكلّ الأطر التي حكمت العلاقات بين الدول على أسس وثوابت ومواثيق محدّدة؟ ألا تعني الاستغناء عنها وعن أدوارها، وهل باتت اليوم مجرد قوالب فارغة، شكلية، خاوية من أي مضمون، يمكنها من لعب دور جوهري في ساحات الصراع وما أكثرها اليوم؟

لماذا يتمّ التهرب من الأحلاف والمنظمات الإقليمية والدولية التقليدية الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، الاتحاد الأوروبي، منظمة مؤتمر التعاون الإسلامي ويجري استنساخ تحالفات رديفة لمواجهة الإرهاب؟ هل في ذلك هروب من قيود معينة تفرضها تلك المنظمات؟ هل هو هروب من إشراك بعض الدول وتحجيم دورها؟ هل في ذلك مساع لاحتكار بعض الدول أدواراً معينة؟

ألا يعني ذلك إقراراً واضحاً بما كرّسه «الربيع العربي» من انتهاء الكيانات العربية والإسلامية الحالية وتفككها، مع ما يفتحه ذلك من شهية لدى الغرب نحو إعادة رسم خريطة المنطقة وتغيير البنية الجيوسياسية فيها؟

هل بات العالم عاجزاً إلى هذا الحدّ أمام الإرهاب حتى يستنتسخ ويستنفر أحلافاً ما أنزل الله بها من سلطان؟ هل تكون محاربة الإرهاب بالأحلاف فعلاً، وكم من حلف حتى الآن أعلن عنه، ولا يزال الإرهاب يضرب بل ويزداد توسعاً؟

لا شك أنّ تفكك الدول وتفشي ظاهرة الإرهاب وتعمُّق الأزمات والنزاعات الدولية، بالتزامن مع تراجع دور المنظومة الدولية وطفرة التحالفات يثير قلقاً على مستقبل البشرية جمعاء، وما يطرح اليوم خطير لأنه يعبِّر عن انقسامات مفصلية، وهو ليس خطوة تقدمية، بل رجعية، تعيدنا إلى عصر الجاهلية، في القرن الواحد والعشرين، وهذا أمر مسيء جداً إلى صورة الإنسان الذي يظهر بعد كلّ حقبات التطور التكنولوجي والعلمي، صورة نمطية عن «داعش» في علاقته مع الآخر، فكيف لتحالفات تبدو مسخاً حقيقياً لهذا التنظيم أن تحاربه وهي متأثرة بعقليته، بعدم قبول الآخر وإقصائه، وصولاً إلى هدر دمه؟

في المحصلة، كلما ازدادت الاصطفافات حدّة وكثرت المحاور والتحالفات والاتحادات، وكلما فقدنا الجهات التي تتسم بالعقلانية والنزاهة، والحياد، كلما اقتربنا من لحظة الاشتباك الحقيقي، وإذا وقع الاشتباك، حينها من يضمن من، ومن يثق بمن ومن يهدئ روع من في غياب أي وسيط دولي أو إقليمي محايد، لعلها لحظة الحقيقة المرة، لحظة المراجعة والتخلي عن الأنا القطبية، دولية أو إقليمية أحادية أو ثنائية أو تعددية، لصالح الجمع الإقليمي العام والجمع الدولي العام، للحفاظ على أمن الإنسان واستقراره. من هنا فالجميع، دولاً ومنظمات وجماعات، معنيون اليوم أكثر من أي يوم مضى بالحفاظ على ما تبقى من هيبة دول وهيئة منظومات دولية، أو الذهاب فوراً نحو إنشاء منظومة دولية أكثر عدالة تراعي التوازنات الإقليمية والدولية الجديدة في العالم أجمع ليقود الجميع معركة الإرهاب بمحور واحد وحلف واحد، بدل تحالفات تتعدّد أسماؤها ولا تغني ولا تسمن من جوع، ولعلّ المهمّة الأولى اليوم على عاتق المنظومة الدولية المفترض ترميمها أو استحداثها من جديد والمطلوبة أكثر من أي وقت مضى باتت تحديد المفهوم الدولي للإرهاب، بشكل دقيق، بعيداً عن المصالح والاعتبارات الدولية المتضاربة، ومصلحة هذه الدولة أو تلك، فمنذ عشرات السنين ونحن نعيش دوامة، التناقض والاجتهادات في فهم الإرهاب، حتى أضحى لكلّ دولة قائمتها السوداء، ما أدى إلى تضييع البوصلة الحقيقية، بخلط ولغط، بين مفاهيم لا تأتلف مع بعضها البعض كمفهوم الإرهاب المنبوذ ومفهوم مقاومة الاحتلال المشرعن وفق الأعراف والقوانين الدولية، وتضييع الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب الحقيقي والفعلي وساهم في تمدُّده وتوسُّعه.

كاتب وباحث لبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى