من بيروت… إيران تُصوِّب البوصلة فتهتزّ «إسرائيل»

روزانا رمّال

ساعة بعد أخرى يتكشف الأفق الذي انفتح أمام إيران بمجرد تثبيت الاتفاق على برنامجها النووي مع الغرب فكلّ شيء بات خاضعاً لتلك المحطة، وما قبل الاتفاق غير ما بعده، سياسياً وأمنياً واقتصادياً ومعنوياً أيضاً، فإيران التي حذرة في تطرّقها لعدة ملفات، خصوصاً في الشهور الأخيرة للمفاوضات خشية إفسادها، باتت اليوم أمام هامش كبير من حرية العمل بما يعزِّز تأكيدها على الثوابت.

المُلفت في الديبلوماسية الإيرانية دقة التعبير والتوقيت الذين لا يمنعانها عن الإقدام نحو الهدف ولو تأجّل ذلك، ربما لإحداث فارق أهمّ، هكذا يوضح مصدر ديبلوماسي عربي عمل في إيران لسنوات السلوك الإيراني.

لا تنسى إيران شيئاً، لكنّ لجدول أعمالها حساباً آخر ومن بيروت تُطلق اليوم رسالة مدوِّية تخرق الجدار الفاصل بين كيان الاحتلال وجنوب لبنان فتصل إلى القدس. يعلن السفير الإيراني في لبنان محمد فتحعلي خلال مؤتمر صحافي أنّ بلاده ستدفع آلاف الدولارات لأسر الفلسطينيين الذين استُشهدوا خلال الهبّة الفلسطينية، أو الذين هدمت «إسرائيل» منازلهم. ويتابع في تفصيل ماهية القرار فيقول إنّ «القرار يشمل أولاً مبلغ سبعة آلاف دولار لكلّ أسرة من أسر شهداء الانتفاضة في القدس». ويضيف: «إيران ستقدّم كذلك 30 ألف دولار لكلّ أسرة هدم الاحتلال منزلها بسبب مشاركة أحد أبنائها في الانتفاضة».

يتحدث السفير فتحعلي عن الهبّة الفلسطينية التي استُشهد فيها خيرة من شباب فلسطين العُزَّل، هذه الانتفاضة التي لا تزال تعيش آثارها وهواجسها القوات الأمنية «الإسرائيلية» التي عجزت عن تقديم أسباب لعدم قدرتها على ضبطها أمام الحكومة حتى الساعة. وبالرغم من الجهوزية الاستخبارية العالية والأمن المفروض في معظم الأحياء المعنية وحصارها، لا تزال السلطات غير قادرة على إيقافها وعلى هذا الأساس تعيش «إسرائيل» حرباً باردة حقيقية يومياً. اللافت في هذا الإطار غياب أيّ دعم عربي لهذه الانتفاضة، والتفرّغ لأزمات «الربيع العربي» المُفتعلة من أجل إزاحة العين عن القضية المركزية الكبرى، وهي فلسطين، بحسب تعبير كبار المسؤولين في إيران فهم لم يقرأوا يوماً الهجوم على سورية إلا من منطلق استهداف قوى ورموز المقاومة القادرة على إعادة إحياء ما أفسدته الخيانات العربية.

تطلق إيران اليوم مبادرة جريئة جداً بعد توقيعها على الاتفاق النووي مع الغرب، وكأنها تقول «أنا اليوم أقدر مالياً على الدعم، وإذا ظنّ أحد أنه لا يوجد مناصر في هذا العالم قادر على دعم هؤلاء الشبان والشابات في أرض فلسطين فهو مخطىء».

ليس الإعلان الإيراني هذا إلا رسالة أو مقدّمة تتلقاها سلطات الاحتلال لمرحلة مقبلة من السياسة الإيرانية حيال القضية الفلسطينية، وتدرك «إسرائيل» خطورة هذه الخطوة بما سترخيه من زخم وروح على هذه التحركات، عدا عن صداها الإيجابي عند حركات التحرّر الفلسطينية الكبرى، بغضّ النظر عن مواقف الأحزاب والحركات المسلحة أو المعروفة سابقاً مثل حركتي فتح وحماس، فهؤلاء الشبان الذين انتفضوا بعيدين بشكل كبير عن أي انتماء إلى حركات سياسية أو دينية عقائدية، وهذا يعني أنّ إيران تمدّ يد العون إلى نوع جديد من التحركات من دون تمييز، وهذا من شأنه أن يصوِّب البوصلة نحو الهدف لا نحو تكبير الأحزاب للحصول على مكاسب سياسية في البلاد على حساب هدف التحرير، على غرار ما يحدث اليوم.

تقول إيران من بيروت للفلسطينيين: «لا تهابوا تهديدات العدو، وإذا دمّر بيوتكم فأنا مستعدة لإرسال مساعدات لكم لإعادة إعمارها أو للحصول على مسكن آمن، فلا يستفزّكم الاحتلال بلقمة عيشكم ولا بدار تأويكم»، هكذا تصرّفت إيران مع لبنان أثناء عدوان تموز وأعادت إعمار كلّ ما تدمّر.

يشبه هذا الدعم الإيراني اليوم لأهالي الأراضي المحتلة وتذليل العقبات أمامهم وإزاحة عبء التفكير بتبعات الحرب بشكل كبير عنهم، ما توجّه به أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في حرب تموز لأهل الضاحية والجنوب بشكل مباشر، حين قال: سنعيد إعمارها وستعود أجمل ممّا كانت وكانه يقول «لا تركزوا إلا على النصر الآتي».

إنها المرة الثانية التي تعلن فيها طهران موقفاً سياسياً يتعلق بالقضية الفلسطينية، وتحديداً الانتفاضة الحالية من بيروت التي تحمل ما يكفي من رمزية لمقاومة الاحتلال ويشكل إعلاناً من هذا النوع عبرها رسالة دقيقة لـ»إسرائيل»، فقد سبق إعلان فتحعلي عن المساعدات تهديد مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في زيارته الأخيرة لبيروت كيان الاحتلال بقوله إنّ الانتفاضة الفلسطينية مسألة جدية للغاية وإذا لم تعدل «إسرائيل» عن طريقة تصرّفها، فهناك أسابيع صعبة ومريرة بانتظارها. وبالفعل تحولت انتفاضة السكاكين إلى انتفاضة إطلاق نار واشتباكات مع قوات الاحتلال تهدأ تارة وتعود طوراً واليوم تدخل إيران على خط بثّ زخم جديد فيها من دون تردّد.

إيران تتحرك وتصوِّب البوصلة من بيروت وتتدخل في الوقت الحسّاس، أي في مرحلة التحضير لإطلاق سكة الحلول السياسية في المنطقة. فهل يؤسِّس هذا الضغط لتحول في المواقف؟

تتلقى واشنطن الرسالة ومعها «إسرائيل» التي تحاول حشد العالم، من دون فائدة، فإيران تبدو مطمئنة لجهة تماسك توقيعها مع الغرب. كيف لا وقد أنجزت ما يكفي من العقود المالية الكبرى في قلب أوروبا؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى