القدس… وعبور بوابة الموت والانفصال
راسم عبيدات
القدس بشكل عام ثكنة عسكرية… وأحياناً تجد إلى جانب كلّ جندي جندياً… ناهيك عن الدوريات الراجلة والحواجز الثابتة والطيارة ووحدات المستعربين ورجال الضريبة بمختلف مسمّياتهم وشرطة السير… ولكن كلّ ذلك يعتبر نقطة في بحر من الحشود التي تجدها في منطقة باب العمود – بوابة دمشق الشهيرة – المدخل الرئيس للبلدة القديمة، تلك البوابة التي في ساحتها وعلى درجاتها نفذت أكثر من عملية طعن بحق جنود الاحتلال، وأقيم فيها الكثير من الفعاليات الوطنية الاحتجاجية، ضدّ سياسات وإجراءات الاحتلال وممارساته القمعية بحق أهلنا وشعبنا ومقدساتنا، سواء في مدينة القدس أو في الضفة والقطاع.
الاحتلال نصب الحواجز الحديدية في الساحة، وأبراج المراقبة وعشرات الكاميرات للمراقبة، وقطع الأشجار تحت حجج وذرائع أنها تحجب الرؤية عن جنوده وشرطته ضدّ من يستهدفونهم بعملية طعن أو إلقاء زجاجة حارقة أو إطلاق نار أو ضرب حجارة من الشبان الفلسطينيين، وكذلك كثف الاحتلال من وجوده الأمني والعسكري والاستخباري في تلك المنطقة. وهذا الوجود المكثف ليس فقط من اجل التنغيص على المقدسيين في كلّ مناحي وشؤون حياتهم، ومنع وصولهم هم وأهلنا في الداخل الفلسطيني- 48 إلى البلدة القديمة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، بل أصبح منطقة ممنوع الجلوس فيها أو على درجاتها، حيث يجري تحرير مخالفة لكلّ من يجلس هناك يشرب القهوة أو حتى يدخن أو يمارس هواية التمعّن في حركة الناس والبلد بمئات الشواقل، والأخطر من ذلك أنّ كلّ الشبان والفتيات الفلسطينيات أصبحوا ن قنابل موقوتة أو مشروع طاعن ة لجنود الاحتلال ومستوطنيه، فأيّ حركة كإخراج اليد من الجيب أو مجرد فتح طالب مدرسة حقيبته المدرسية معرّض لإطلاق النار عليه والإعدام الميداني، والسكينة جاهزة لكي توضع جنبه، والتصريح المفبرك والروتيني عن شرطة الاحتلال جاهز ومعدّ سلفاً، تمّ تحييد شاب أو فتاة فلسطيني ة حاول ت طعن جندي/جنود، أو شرطي من حرس الحدود، والتحييد المقصود هنا القيام بإعدامه ميدانياً. ولعلّ الجميع شاهد كيف تمّت عملية الإعدام الميداني للشهيد محمد أبو خلف في ساحة باب العمود، فرغم استشهاده استمرّ جنود الاحتلال بإطلاق النار على جسده المسجى، لتخترقه أكثر من خمسين رصاصة.
الاحتلال المربَكة حكومته، ومجتمع مستوطنيه الداخل في أزمة عميقة وحالة من الهوس والهستيريا، والتي وصلت تصوّر جنود الاحتلال ومستوطنيه، بأنّ ظلّ الواحد منهم يحمل سكيناً، يدركون تماماً بأنّ هذه الانتفاضة الشعبية، رغم كل أشكال العقوبات والقمع التي اتبعوها من اجل وأدها وإطفاء جذوتها لم تفلح في تحقيق هذا الهدف، وأنهم بقيامهم بعمليات التفتيش المذلة والمهينة للشباب والفتيات بطريقة ماسّة بالأخلاق والكرامة الإنسانية والخادشة للحياء والمستفزة لكلّ من له كرامة أو نخوة، قد يستطيعون من خلالها أن يكسروا إرادة هؤلاء الشبان والفتيات، ويبثون الذعر والخوف في قلوبهم، أو أن هذه الأساليب الهمجية والوحشية، قد تدفع بأهاليهم للضغط عليهم، من أجل عدم الذهاب إلى منطقة بوابة دمشق، أو الدخول إلى البلدة القديمة، المستهدفة هي الأخرى بمثل هذه العقوبات والجرائم، من خلال إعاقة وتقييد وصول الناس إليها، وبما يشل الحركة التجارية والاقتصادية في البلدة القديمة، ويدفع بالتجار إلى هجرتها ونقل مركز حياتهم إلى خارج مدينة القدس، فالهدف هنا هو تطهير عرقي وتفريغ البلدة القديمة، بما يمكن من تنفيذ مخططات تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً توطئة لإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
في القدس نحن أمام حرب شاملة تشنّ علينا. تشترك فيها كلّ أجهزة الاحتلال ومستوياته وأذرعه وطواقمه المدنية والعسكرية والأمنية، يضاف إليهم قطعان المستوطنين وجمعياتهم التوراتية والتلمودية والتهويدية بمسمياتها المختلفة، العنوان والهدف واحد الطرد والترحيل القسري والاقتلاع.
لكن كل هذه العقوبات الجماعية والقرارات والتشريعات والقوانين العنصرية، والمشبعة بالحقد والكراهية لكل ما هو فلسطيني، والتي تتم أغلبها وفق قوانين الطوارئ البريطانية، فشلت في تحقيق هذه الأهداف، ولذلك بدأت حكومة الاحتلال ومراكز بحثها القومي والتفكير الاستراتيجي، والعديد من المركبات والمكونات الحزبية والسياسية، بمن فيهم قادة أمنيون وعسكريون وسياسيون سابقون، في البحث عن خيارات من شأنها تخليصهم من أكبر عدد ممكن من السكان المقدسيين، عبر خطط ومشاريع الانفصال أحادية الجانب، بمعزل عن أهل المدينة وقيادتهم السياسية. خطط ومشاريع جوبهت بالرفض من قوى اليمين المتطرف، لأنّ ذلك يعني تقسيم للقدس، وكيف تقسّم من أسموها «عاصمتهم الأبدية»…؟ فهذه هزيمة وتنازل مجاني لـ«الإرهابيين» قوى المقاومة الفلسطينية.
ولكن تواصل الانتفاضة الشعبية وتصاعدها وتطورها وامتداد تأثيراتها ومفاعيلها في كلّ الجغرافيا الفلسطينية، جعل قادة الاحتلال يعيدون حساباتهم، فها هو حزب العمل الصهيوني بقيادة هرتسوغ يقرّ خطة الانفصال الأحادي الجانب عن الفلسطينيين، بما في ذلك فلسطيني القدس، وكذلك الوزير وعضو الكنيست السابق حاييم رمون، ومعه عدد من القادة الأمنيين والعسكريين والسياسيين السابقين، مثل مائير شطريت وعامي إيلون واريه عميت وغيرهم، طرحوا ما يُسمّى بخطة «إنقاذ يهودية القدس» عبر التخلي عن 28 قرية مقدسية، وبما يغير بشكل جوهري في الواقع الديمغرافي، بحيث تصبح نسبة وجود العرب فقط 12 بدلاً من 38 ، وهذه الخطة والوصفة، لا تعني الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، أو الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، بل هي خطة تقوم على أساس التطهير العرقي وتهويد المدينة وأسرلتها، ومنع تحوّل القدس إلى مدينة ذات أغلبية فلسطينية، وكذلك عدم تحوّل دولة الاحتلال إلى دولة ثنائية القومية.
كلما أمعن المحتل في قمع شعبنا وفي سياسة إذلاله والتنكر لحقوقه، وكلما زاد من عقوباته الجماعية وعمليات الإعدام الميداني، صبّ النار على الزيت، وتصاعد لهيب الانتفاضة. فالحلول الأمنية والرهان على أن العربي فقط يخضع بالقوة، أو بتحسين شروط وظروف حياته الاقتصادية الذي يكفل بجعله هادئاً فلا أظن أنها ستنجح. فهذا اللهيب الانتفاضي يتصاعد ويتجذر، ويقول للمحتلّ إنّ الحلّ فقط يكمن بالاعتراف بحقوق شعبنا، وتمكينه من العيش بحرية وكرامة كباقي الشعوب بعيداً عن المحتلّ الذي عليه أن يرحل.
Quds.45 gmail.com