مجزرة فلوريدا بين ابتزاز ترامب وحداثة إبن سلمان الواهية!
} د. وفيق إبراهيم
العسكري السعودي محمد الشمراني لن يكون الأخير في مسلسل منفذي عمليات إرهابية من بين الناقمين على تبعية بلاده السعودية للنفوذ الأميركي، لأنه ينتمي الى تيار وهابي يؤمن بأن الأمير محمد بن سلمان باع ارض «الأنبياء والأولياء» لـ»الكفرة الأميركيين» كما يصفهم الفكر الوهابي، وسعى الى نشر ثقافة «التهتك والخلاعة» لإيهام الغرب بأنه يريد دولة منفتحة ومعادية للإرهاب.
وبذلك يؤيده الغرب هذا الى جانب استعماله أدوات إسناد أخرى تتعلق بتوزيع مليارات الدولارات للمزيد من إقناع الأميركيين والغربيين بعبقرية محمد بن سلمان وإبداعاته.
هذا ما حصل عندما نثر 500 مليار دولار دفعة واحدة على الرئيس الأميركي ترامب، فتحول بين ليلة وضحاها من أمير إبن للملك سلمان الى ولي للعهد وذلك بعد انقلاب برعاية أميركية، أدى الى طرد ولي العهد الأساسي محمد بن نايف.
لكن وضع الولي اهتزّ بعد اغتياله للإعلامي المعارض جمال الخاشقجي، وتبين أن شعبة من المخابرات السعودية تتبع لمكتبه مباشرة هي التي صنعته وقطعته بمنشار لإخفاء أي أثر له.
هذا ما استتبع نقمة أميركية وغربية عليه شملت أيضاً ترامب عبر معارضيه الأميركيين، فلم يجد إبن سلمان حلاً إلا بالسماح بفتح أندية رقص وطرب وانفتاح وحفلات لم يسبق للسعودية أن شهدت مثيلاً لها منذ تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي، بالتزامن مع نشر صفقات اقتصادية في زوايا الأرض الأربع، لمجرد إرضاء الدول في الغرب وروسيا والصين.
لقد تسبّبت هذه السياسات الداخلية الجديدة لمحمد بن سلمان باهتزاز بين نوعين من الوهابية: الأولى تعمل على مزيد من إغلاق الداخل السعودي بأفكار عنصرية معادية لكل الأديان والمذاهب الأخرى وبين وهابية سلمانية تريد الإبقاء على طابعها الإرهابي انما في اطار هدنة مؤقتة مع الغرب يجري فيها تقديم السعودية وكأنها مقبلة على تقليد بشكل كامل في حين ان الأمر ليس إلا لعبة ماكرة لكسب فسحة من الوقت، يستطيع فيها إبن سلمان تثبيت العرش له ولأبنائه من بعده. فمثل هذه المهمة قد تلقى اعتراضاً من الخارج لو بقي المجتمع السعودي على حاله من الانغلاق الفكري الكامل، لذلك يعمل ولي العهد على إحداث انفتاح ظاهري فقط في الحفلات والملبس وقيادة المرأة للسيارة ومنع شيوخ الوهابية من إلقاء خطابات تحضّ على الالتزام بالقديم.
مقابل هاتين الفئتين المتماثلتين في العمق يوجد تيار متقدم يريد تغييراً حقيقياً في السعودية، لكنه لا يزال في بداية تطوره.
أين موقع الملازم الشمراني من هذه التيارات؟
ينتمي الى التيار التقليدي الأول للحركة الوهابية الذي يرفض الحداثة المشبوهة لمحمد بن سلمان والدعم الأميركي الترامبي لها ولا يعترف بأي تيارات حديثة ومدنية.
لذلك هاله الانقلاب الاجتماعي لولي العهد والدعم الأميركي له ومحاولة إضفاء واجهة سطحية تقلد الغرب الأميركي في مملكة منغلقة على أي تطور تاريخي، فاستغل إيفاده الى قاعدة بينساكولا البحرية في فلوريدا ليتدرّب على انواع من الطيران الحربي في القسم الجوي التابع لها.
هناك فتح النار من دون إبداء أية أسباب مردياً اربعة عسكريين بينهم ثلاثة أميركيين وموقعاً تسعة جرحى بحال من الخطر الشديد.
تلت هذه العملية إطلاق عسكري أميركي النار قبل يومين في قاعدة بيرل هاربر في هاواي وأدت الى عشرات الجرحى والقتلى.
وكان الشمراني غرّد قبل يومين فقط من إطلاقه النار على التويتر متهماً أميركا بأنها امبراطورية الشر.
هذا ما يكشف الحقيقة كاملة، فالشمراني غاضب على معاملة الأميركيين لبلاده بشكل مهين واستخفافهم بتاريخها وعقائدها.
وناقمٌ على استسلام آل سعود لهم بشكل يثير سخرية العالم بأسره، معتبراً أن هناك انتهاكاً للتقليد السعودي القرون أوسطي مع جعله مراتع للخمارات والحانات وعلب الليل لإرضاء الغرب، وليس عكساً لتطور أو انحلال.
فهل يكفي موقف الملك سلمان من الحادثة لوقف تداعيات حادثة الشمراني من دون أي مضاعفات؟
قال سلمان إن الشمراني لا ينتمي الى الثقافة السعودية المنفتحة وشكره ترامب على هذا الموقف الشجاع والنبيل!
لكن المتابعين الذين أصيبوا بقهقهة متواصلة يعرفون أن ترامب بصدد إرسال لائحة بقيمة تقديراته لأضرار الحادثة وقد تكون بعشرات مليارات الدولارات وربما أكثر، والمهم هنا أن سلمان لن يتأخر دقيقة واحدة في الدفع، لأنه يخشى من إعادة فتح ملف الهجوم الارهابي على نيويورك في 2001، الذي نفذه 18 إرهابياً بهجمات انتحارية بواسطة طائرات مدنية، بينهم 15 سعودياً فقط!
وسلمان مصاب أيضاً بذعر من خطورة تبني ترامب لاتهام ابنه ولي العهد بقتل الخاشقجي.
هذا ما يضع الحكم السعودي في موقع ضعيف امام المجتمع الترامبي مالياً وسياسياً.
لكن أزمة الشمراني لن تقف عند هذا الحد، فهي تعكس انفجاراً قريباً لصراعات قوية جداً بين اجنحة داخل السعودية وفي إطار تيارات الوهابية، ما قد يسمح لأجنحة من آل سعود بإعداد انقلابات لاستعادة حقوقهم في ملكية سرقها محمد بن سلمان. ولهذه الحادثة الارهابية تداعيات على الداخل الأميركي بشكل قد يستفيد منها الحزب الديموقراطي للانقضاض على سياسات ترامب الممالئة لآل سعود، وعلى قاعدة إعادة استحضار جريمة اغتيال الخاشقجي المتهم بإعدادها ولي العهد شخصياً، بما يشكل مادة خصبة لدى الديمقراطيين الساعين الى اقالة ترامب من الرئاسة الأميركية وطرده من البيت الابيض.بالنهاية، فإن ترامب ذاهب الى مزيد من ابتزاز الملك السعودي وابنه والحزب الديمقراطي الى الاستثمار السياسي، فيما الإرهاب الوهابي بجناحيه الأصلي والمهادن ذاهب الى المزيد من سجن السعودية في كهوف الظلام والتخلف وتبديد ثروات جزيرة العرب على مصالحهم وأهوائهم.