لبنان الكبير بين الواقع والمرتجى…
وجدي المصري
منذ أشهر بدأت حملة إعلاميّة للإضاءة على مئويّة لبنان الكبير الّذي شكّل إنشاؤه انعطافة تاريخيّة ومفصليّة على طريق تفعيل بنود إتفاقيّة سايكس بيكو الّتي أراد منها الاستعمار تقسيم بلادنا لتهيئة الأجواء الّتي من شأنها تمرير غرس كيان الاغتصاب الصهيوني اليهودي لجزء من بلادنا من جهة، ولوضع كامل جغرافيّة وطننا تحت إحتلال جديد بعد إنتهاء الحرب العالميّة الأولى وانهزام الإمبراطوريّة العثمانيّة الّتي كانت تحتلّ أراضينا وتمارس أسوأ أنواع الاضطهاد على شعبنا، من جهة ثانية. ولا يسعني إلّا أن أشير بنبذة إلى ظروف إنشاء لبنان الكبير، علّ الأجيال الجديدة، خاصّة أجيال الثورة الّتي استشعرت أخيراً خطر الطبقة السياسيّة المتحكّمة بزمام الأمور في لبنان على مصيره ومصيرها في آن تدرك الحقيقة التاريخيّة فتكون لها عبرة لما هو آت من المستقبل.
في الثامن من آذار عام 1920 تنادى ممثلون للشعب من لبنان والشام وفلسطين، الّتي كانت تعرف ببلاد الشام، لعقد مؤتمر، دُعي بالمؤتمر السوري. وصدر عن هذا المؤتمر مقرّرات تؤكّد على إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعيّة والّتي تضمّ فلسطين ولبنان الّذي كان إسماً حصريّاً للمنطقة الجبليّة، وحيث كان الساحل يُعرف بساحل بلاد الشام أو الساحل السوري، وحيث كانت مناطق بعلبك وراشيا وحاصبيا والبقاع الغربي تابعة لولاية دمشق. لكنّ الإستعمارين، الإنكليزيّ والفرنسيّ، الّلذين كانا تحت سيطرة اليهود في ذلك الوقت، لم يوافقا على ذلك، فجاءت مقرّرات مؤتمر سان ريمو في الخامس والعشرين من نيسان 1920، مخيّبة لآمال السوريّين الموعودين بالاستقلال التامّ. في هذا الوقت سعى البطريرك إلياس الحويك، الّذي كانت تربطه علاقات وثيقة بفرنسا، إلى إقناع الفرنسيّين بضرورة الموافقة على إنسلاخ لبنان عن سورية. وبما أنّه كان يدرك أنّ لبنان آنذاك، بما هو المنطقة الجبليّة فقط، ليست لديه مقوّمات الحياة ككيان مستقل، طالب الفرنسيّين أن يضمّوا إليه الساحل المقابل للسلسلة الجبليّة الغربيّة، وسهل البقاع مبرّراً الموافقة على ضمّه إلى لبنان بأنّه منطقة لبنانيّة تربتها جرفتها السيول من الجبل (ورد ذلك في كتاب حكمت ألبير الحداد: لبنان الكبير). فكان للبطريرك ما أراد إذ أعلن الجنرال غورو في الأوّل من أيلول من عام 1920 قيام دولة لبنان الكبير وحدّد بيروت عاصمة لها، حيث أصبحت الجمهوريّة اللبنانيّة في 23 أيّار من عام 1926.
فقيام لبنان الكبير إذن لم يكن مطلقاً بناءً على رغبة شعبيّة عامّة تعود إلى الناس الّذين كانوا يقطنون في هذه البيئة الجغرافيّة الّتي حدّدها الإستعمار مع شخص واحد يمثّل مذهباً واحداً تعود جذوره إلى سورية اليوم الّتي تنكرّ لها. والدليل على ذلك أنّ سكّان الساحل ظلّوا يعارضون الإنفصال عن سورية، وفي هذا الشأن يقول المؤرّخ البيروتيّ جميل بيهم: «بأنّ المسلمين السنّة تحرّكوا رفضاً للإنسلاخ عن سورية والإنتماء إلى لبنان (النزاعات السياسيّة بلبنان: عهد الإنتداب والإحتلال 1919-1945). ونتيجة لتحركات المسلمين السنّة عقدت فرنسا عام 1936 معاهدة مع الجمهوريّة اللبنانيّة، بناءً على مطالبة المسيحيين بشكل عام، توصي بعدم الرضوخ لمطالبة الأغلبية اللبنانيّة بإعادة ضمّ لبنان إلى سورية، وبالرغم من ذلك ظلّ التحرّك قائماً فكان مؤتمر الساحل عام 1937 الّذي أكدّ على رفض سلخ لبنان عن سورية. لكنّ الإحتلال الفرنسيّ كان أقوى بالطبع، فثبّت في الحكم أزلامه الّذين كانوا يجارونه في توجهّاته، وكان عليه أن يعود فيواجههم عندما انتفضوا عليه عام 1943 وحصلوا على إستقلال لبنان بحدوده الّتي وضعها المستعمر. وما من داع بعد هذا التّاريخ لسرد المزيد من الوقائع الّتي تدرّس للطلاب من حيث يتمّ تجاهل الوقائع الّتي حصلت قبل الإستقلال وعلى أثر الإحتلال الفرنسيّ والإنكليزيّ لبلادنا وما نتج عنه من فرض للتقسيم وزرع الكيان الإسرائيليّ بالقوّة.
وإذا كان الإحتلال بوجهيه الفرنسيّ والإنكليزيّ قد نفّذ إتفاقيّة سايكس بيكو، الّتي قسّمت بلادنا وهيّأت لإحتلال فلسطين، وأمّن بذلك مصالحه الإقتصاديّة والإستراتيجيّة، فإنّ الشعب قد استكان وتقبّل مفاعيل التقسيم الّتي كانت ضربة قاتلة لجسم أمتنا الّذي أثخنته جراح الإستعمار العثمانيّ على مدى 400 سنة، فجاء الإستعمار الجديد ليُكمل المهمّة المخططّة من الصهيونيّة العالميّة، مستغلاً غياب الوعي القوميّ العام لدى شعبنا، الّذي حاول جاهداً مواجهة الإستعمار الحديث، لكنّ إمكانيّاته المحدودة بل شبه المعدومة ونزعة الإنفصال لدى قسم منه كانت أقوى من إصراره على وحدته ووحدة أرضه الطبيعيّة، وها نحن نحصد هذه الأيّام وفي كلّ كيانات أمّتنا حصاد ما فُرض على شعبنا أن يزرعه من بذور فاسدة.
إنّ مئويّة لبنان الكبير تفرض علينا، لا التغني والتهليل لهذه المناسبة، بل التوقف عند نتائجها السيّئة والّتي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم. فالمادّة 95 من دستور عام 1926 تنصّ على ما يلي: «بصورة مؤقتة وعملاً بالمادّة الأولى من صك الإنتداب والتماساً للعدل والوفاق تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامّة وبتشكيل الوزارة دون أنّ يؤول إلى الإضرار بمصلحة الدولة».
فإذا كان الدستور الّذي تضمّن هذه المادّة قد وُضع ولبنان تحت الإحتلال = الإنتداب الّذي سار على خطى العثمانيّين بزرع التفرقة الطائفيّة والمذهبيّة، المنبوذة في بلاده، بغية استمرار إحكام سيطرته على الكيانات الّتي انتدب نفسه لحكمها دون موافقة الشعب، قد أكدّ أنّ ذلك يجب أن يكون «مؤقتاً» دون تحديد مهلة المؤقّت، فإنّ الحكومات المتعاقبة منذ 1926 لم تسع للتخلّص من المؤقّت بل جعلته حالة دائمة لأنّها وبتربيتها العثمانيّة كانت تعلم أنّ الطائفيّة تخوّلها الإستمرار بالسلطة الّتي تفسح لها المجال لإستغلال الشعب أبشع أنواع الإستغلال. هذا إذا ما صرفنا النظر عن التبرير المخزي الّذي استند إليه المشرّع أي «التماساً للعدل والوفاق»، فكيف يكون العدل إن جعلنا التوافق بتقسيم الوظائف يخضع للإنتماء الطائفيّ لا الوطنيّ، وكيف لا يحول هذا التقسيم المجحف دون «الإضرار بمصلحة الدولة» كما قال المشرّع؟
ولم تكتف الطبقة السياسيّة بعدم تطبيق الدستور بل عملت على ترسيخ الطائفيّة والمذهبيّة في كلّ مناحي الحياة السياسيّة منها والإجتماعيّة والوظيفيّة وحتّى الإقتصاديّة. وانتظرت هذه الطبقة إثنتين وستين سنة لكي تعيد في اتفاق الطائف تثبيت المادّة نفسها بصياغة مختلفة، وانتظرت حتّى الآن عشرين سنة دون أن تحاول تطبيق هذه المادّة الّتي عدّلها السياسيون بالقانون الدستوريّ الصادر في 9/11/1943، وأعادوا تعديلها بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 لتصبح كالآتي: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إتّخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفق خطّة مرحليّة…»، فهل هذه الخطّة المرحليّة تستوجب التمحيص والتفكير والتخطيط لأكثر من عشرين سنة لكي تولد وتتمّ المباشرة بتنفيذها؟
صحيح أنّ تطبيق الدستور منوط بالمؤسّسات الدستوريّة من رئاسة جمهوريّة مؤتمنة على تطبيقه، ومجلس نيابيّ يجب أن يحترم تشريعاته ويسهر على تنفيذها، وحكومة مدعوّة إلى التنفيذ الفوري لكلّ ما يصدر عن المجلس النيابي من تشريعات، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ الطبقة الحاكمة بتسلّط مستمر منذ خلق لبنان الكبير، ما كانت لتستمر باستهتارها بالدّستور فلا تقدم على تنفيذه بل تمعن بمخالفته علناً، لو لم تكن متأكّدة أنّ الشعب غافل عن محاسبتها ومحاسبة المجلس النيابي الّذي يُفترض به محاسبة ومساءلة الحكومة.
صوت واحد ارتفع على مدى مساحة أمتنا يندّد بما حصل ويضع مبادئ إصلاحيّة حقيقيّة من شأنها تحقيق رفعة الأمّة وكرامة الإنسان فيها، هو صوت أنطون سعاده. وحده كان صوتاً هادراً منبّهاً من خطر الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وحده وضع اصبعه على الجرح وكانت له الجرأة ليعلن ضرورة العمل لتحويل دولة الطوائف إلى دولة مدنيّة حديثة فنادى بفصل الدين عن الدولة ومنع رجاله من التدخّل في الشأن السياسيّ. وحده نادى بضرورة العمل على «إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعليّة في تقرير مصير الأمّة والوطن». وبدلاً من العمل بموجب هذه المبادئ الراقيّة المتقدّمة في تاريخ أمّتنا السياسيّ والإجتماعيّ والإستراتيجيّ تكاتفت عليه الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة بالتعاون مع يهود الداخل فقضت عليه ظناً منها أنّها بذلك تطفئ شعلة النهضة الّتي أطلقها. ألم تمنع عنه الرجعيّة العربيّة السلاح في حرب عام 1948 لأنّها علمت أنّ أفراد حزبه سيقاتلون بشراسة العصابات اليهوديّة في فلسطين؟ هل حاولت الطبقة السياسيّة المتحكّمة بلبنان الكبير، وبالجمهوريّة الأولى والثانيّة، تطبيق الدستور لنقل هذا اللبنان الكبير من وضع المزرعة إلى وضع الدولة؟ وهل حاول الشعب أن يحاسب هذه الطبقة الحاكمة أم أنّه كان يتجاوب معها كلّما أطلقت النفير المذهبيّ ليعيدها إلى مواقع السلطة والتحكم بحياته وحرمانه من أبسط حقوق الحياة الكريمة العزيزة؟
على مدى مئة عام كان الشعب مستكيناً راضيّاً بحكم الطوائف في حين أنّ أنطون سعاده أطلق خلال حياته ثورتين في اللبنان الكبير فاتّهم بالتآمر على الدولة وكان مصيره الإعدام، وأقدم حزبه بعد استشهاده على ثورة ثالثة فكان هدفاً ليس من الدولة فقط بل من كلّ الشعب في لبنان لأنّه تجرّأ وضغط بإصبعه على الجرح. لقد كان لأنطون سعاده وحزبه فضل السبق إلى الوقوف بوجه رجال الدين ورجال السياسة على حدّ سواء، لكنّهم جميعاً كانوا مطمئنين إلى أنّ بذور الطائفيّة لن تنتج عقولاً نيّرة واعيّة مدركة لمصلحة الشعب والوطن.
لقد استفاق الشعب بعد سبع وثمانين سنة على محاولات توعيّته ودفعه بإتجاه التخلّي عن كلّ ما يقف سدّاً في وجه تقدّمه وحياته الكريمة العزيزة، بعد أن كان نائماً في كهف الغرائز الطائفيّة والمذهبيّة والإقطاعيّة السياسيّة. لو عملت الحكومات المتعاقبة على إعداد الجيش القويّ بدلاً من التغني بمقولة «قوّة لبنان بضعفه»، ولو عملت هذه الحكومات على تأمين مصلحة لبنان وشعبه وتقديمها على مصالح السياسيّين الخاصّة لفرضت على جميع الدول احترام سيادة لبنان ولاستطاعت أن تتعامل فقط مع الدول الّتي تؤمّن مصلحة لبنان وتتعامل معه من الندّ إلى الندّ، ولكانت بالتالي بنت دولة مدنيّة يتساوى فيها المواطنون من منطلق الكفاءة لا الإستزلام، ولكانت أعدّت جيشاً قويّاً قادراً على مواجهة أيّ عدوان، ولكانت قادرة على إعداد المجتمع المقاوم إنطلاقاً من تحديد العدو والصديق، وبالتالي لما فسحت المجال أمام المليشيّات للقيام بأعمال عسكريّة داخليّة وُصفت بالحروب الأهليّة. إنّ الضعف الّذي درجت الحكومات على التغني به جعل مجموعات من الشعب تتصدّى بنفسها للحفاظ على الأرض والإنسان وهذا ما أدّى إلى انقسام أفقي وعمودي شعبي مدمّر ما نزال نعاني منه حتّى الساعة.
لبنان الكبير كان يمكن أن يستمر كبيراً لو أنّه نشأ من إرادة شعبيّة لا إرادة سياسيّة مذهبيّة لفئة من النّاس سعت للتحكّم بالآخرين الّذين أحسّوا لعقود وعقود بأنّهم مواطنون من درجة ثانية. هذه الفئة تحاول أن تعيدنا اليوم إلى بدايات لبنان الكبير عبر المطالبة بالمحاصصة الطائفيّة في كلّ مرافق الدولة، وكلّ الطبقة السياسيّة شريكة بهذه الجريمة الّتي يدفع ثمنها المواطن.
لبنان الكبير عاد كبيراً اليوم بإنتفاضته الّتي، ولو جاءت متأخرة سنوات طوال، إلّا أنّها حصلت ووضعت النقاط على الحروف. لكنّ هناك من يحاول تحجيم هذه الإنتفاضة وحرفها عن مسارها الصحيح خدمة لإرادات إقليميّة ودوليّة. وكلّ ما نتمناه أن تدرك الإنتفاضة خطر هذه الإرادات على غاياتها الشريفة، وهي في هذه الحال لديها مهمّتان: الأولى تكمن بالتصدي للسلطة السياسيّة الفاسدة، والثانية التصدّي لمن يحاول استغلال هذه المسيرة المباركة واستهداف من يحمي لبنان من خطر الفوضى الخلاّقة الّتي بشّرتنا بها الإدارة الأميركيّة منذ الثمانينات.
لبنان الكبير الّذي يشكّل مرتجى راقياً لكلّ من يفهم ويدرك معنى قيم السيادة والحريّة والإستقلال، بدأ خطواته الأولى بالإتجاه الصحيح والعبرة بإكمال المسيرة ونزع الألغام والقضاء على الواقع المؤلم الّذي صبغ سماءه الزرقاء الصافيّة بألوان الموت الباهتة.للبنانالكبيرفيمئويّتهنتمنىأنتبقىثورةشعبهمتوهّجةالشعلة،محافظةعلىالأهدافالراقيةالّتيمنشأنهاأنتطويصفحةمئةعاممنواقعمذلّ،مقرف،مفعمبالقهروالظلم،لتفتحصفحةمستقبلجديدمرتجىيحوّلدولةالمزرعةإلىالدولةالمدنيّةالّتيتقدّملمواطنيهاحياةكريمةعزيزةيشعرالمواطنمنخلالهابإنسانيّتهبعيداًعنكلّالغرائزالمدمّرةلوجوده.