قراءة في بيان الناتو بين التحدّي والزوال
} سماهر الخطيب
انعكس تشرذم الأجواء الدولية على جلسات القمة السبعين للناتو وأعقبتها، وجعلت من إصدار بيان مشترك غاية في الصعوبة؛ الأمر الذي عكس الشيخوخة التي أصابت الحلف فظهر واضحاً وجلياً عمق الخلافات وتباين الاستراتيجيات في القمة.. وبصورة خاصة ذاك التوتر بين واشنطن وباريس وأنقرة.. إذ بات مستقبل هذا الحلف الذي نشأ رسمياً في الرابع من (نيسان) 1949 مثيراً للتساؤلات، ولم تستطيع تلك الخلافات أن تغضّ النظر عن دور الحلف في التعامل مع ديناميات السياسة العالمية وضلوعه المباشر في تشكيل المشهد الجيو – استراتيجي العالمي.
فالقمة الأطلسيّة التأمت بعد أيام من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي أدلى فيها حول الحلف والتي أثارت ضجة في الوسط الناتوي بأنه بات في حالة «موت دماغي»، وإن «أوروبا لم يعُد في إمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع عنها وبالتالي عليها إيجاد آليات بديلة».
وبالرّغم من أنّ هذا الكلام قد صدر منذ عام تقريباً عن الرئيس الأميركي إن لم يكن حرفياً فإنما كان يصبّ في المعنى نفسه، حينما قال ترامب بأن «الحلف صار هيكلاً قديماً عفا عليه الزمن»، لتثير تصريحات ماكرون الغضب الترامبي الذي تحوّل فجأة إلى المدافع عن هذا الحلف في قمة لندن، واصفاً ما قاله ماكرون بـ»غير جدير بالاحترام». معتبراً أن لـ»وجود الحلف هدفاً كبيراً»، ولما لا يعتبره ذا هدف كبير وقد تحقق ما كان يصبو إليه بإقناع حلفائه بوجوب زيادة حصصهم في الإنفاق، ليصبح هذا الحلف في نظره بعد أن قام قادته بزيادة النفقات وهو ما دأب بالمطالبة به منذ توليه الإدارة الأميركية فبات يتغنى بذلك كأحد نجاحاته في السياسة الخارجية. وهذا ما دفعه إلى الغضب من تصريحات ماكرون الأخيرة..
إلا أن قادة دول الحلف تعهّدوا في النهاية التضامن لمواجهة التهديدات التي تمثلها روسيا من جهة والإرهاب من جهة أخرى كتهديد للأمن القومي الأوروبي، مقترحين اتخاذ إجراءات، ردّاً على نشر روسيا لصواريخ جديدة متوسطة المدى. كما أقروا بالتحديات التي يولّدها تصاعد نفوذ الصين اقتصادياً وسياسياً على مستوى العالم، وهذه التهديدات نسخة معدّلة عن التهديدات التي أعلنتها الإدارة الأميركية حينما أعلنت استراتيجيتها للأمن القومي، ليتضح جلياً أنّ ما سمي بـ»الناتو» ليس سوى حلف أميركي بامتياز وبأذرع أوروبية..
فيما التباين في الآراء بين الأوروبيين أنفسهم بات واضحاً في الآونة الأخيرة، وتحديداً حول روسيا وملف اللاجئين شكل التحدّي الأكبر لهذا الحلف ليصبح المشهد بين القادة الأوروبيين كما الخلافات بين الأطفال على قواعد اللعبة التي أرادوا لعبها، ليبدو إيمانويل ماكرون «مخطئاً» في رهانه على صوغ استراتيجية أوروبية دفاعية موحدة، لأن شركاءه القاريين مشرذمون فيما ظهر الأميركي كالحَكَم بينهم لتحديد اتفاق يتوافق عليه جميعهم، وبالتالي لا بدّ لهم من مظلة الحماية الأميركية، إلا أن هذه الحماية الأميركية في العمق تستخدم الناتو كـ»حصان طروادة» لضرب وحدة أوروبا من الداخل..
وإذا ما أردنا الغوص في هذه الحالات الثلاث التي تشكّل بحسب البيان الختامي تهديداً للأمن الأوروبي فإنّه يكفي النظرة الأوروبية إلى الحالة الروسية ليظهر الخلاف العميق في البيت الأوروبي تجاه روسيا فهم يقفون من جهة موقفاً حازماً في وجه التحديات التوسعية الروسية، وفي الوقت نفسه ينتظرون تدفق الغاز الطبيعي الروسي الحيوي إلى قارتهم عبر أنابيب مشروعي «نورد ستريم 2» و»تورك ستريم»؛ هكذا هم يناقضون أنفسهم حينما يرفعون عصا الرّدع في وجه مَن يمدّهم بالطاقة..
أما الرئيس الفرنسي الذي ظهرت حماسته في الدعوة إلى إقامة علاقة تعاون وودّ بين أوروبا وروسيا، وكذلك نظيره الإيطالي وغيرهم الكثير من القادة الأوروبيين منفردين بتلك الدعوة يعمق التباين حول هذا البيان الذي ربما ظهر إرضاءً للأميركي وخوفاً من عصا العقوبات ليكون بياناً جماعياً بالاسم فقط. فالمصلحة التي نشأ لأجلها الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يلغيها حلف عسكري باطنياً إن لم يكن في الظاهر.. وهذا ما يفسر توجه الرئيس الفرنسي لدعوة أوروبا نحو تدبير شؤونها الدفاعية وتحصين أمنها ضدّ عدوانية الدول والجماعات الإرهابية بعيداً عن «بوليصة التأمين» الأميركية، بعد أن انتفى السبب الأساسي لوجود الناتو وهو مواجهة «وارسو» ليصبح الحلف أميركياً وينفذ تلك الأجندة الأميركية وبصورة علنية. وهذا ما ألمح إليه معظم القادة الأوروبيين وبالتالي سيزول عاجلاً أم آجلاً، إلا إذا ابتدع لنفسه هوية جديدة بعيداً عن الهوية الأميركية تلبي متطلبات أعضائه عبر التنسيق الشامل بينهم في العقود المقبلة ويكون منطلقها تحقيق الأمن الأوروبي..
ورغم أنّ هناك قوات أميركية لا يستهان بها في أوروبا، المرتبطة مع تواجد الحلف إلا أنّه لا يمكن الاستهانة بالرؤية الفرنسية أو غض الطرف عنها لكونها تبدو على المدى البعيد رؤية صحيحة وواقعية إن لم نقل على المدى المتوسط، وحتى ألمانيا التي عارضت كلام ماكرون إلا أنّها أول من دعا إلى تشكيل جيش أوروبي حينما رفعت سقف الردّ على تصريحات ترامب السابقة حول الناتو بينما تبدو اليوم كـ»النعامة» متغافلة عن التصرفات والتصريحات الأميركية وكأن الزمن توقف عندها في الحرب الباردة.. أو ربما تنتهج سياسة الفصل بين الأولويات فالأمن الطاقوي المتمثل بأنبوب غاز «السيل الشمالي» الروسي مفصول عمّا تسمّيه تهديداً روسياً لتربح الرضا الأميركي والغاز الروسي..
فألمانيا التي تثير التساؤلات بتصرفاتها تعلم أنّ الموقف الفرنسي موقف صحيح، لأنها تعي جيداً أنّ القارة «العجوز» التي شهدت حربين عالميتين مدمّرتين قد نجحت في الصمود بفضل السند الغربي الآتي من الغرب الأطلسي البعيد، وكان لألمانيا الحصّة الأكبر في ذلك الدمار. فإن الخطر الشرقي بات الآن مضاعفاً مع تعاظم النفوذ الصيني والروسي، وتبلور التحالف الاستراتيجي بين النفوذين. وهذا ما سيجعل من الدور الناتوي أقل قدرة على التصدي في أوروبا مع التركيز الأميركي الواضح على الملعب البعيد في منطقة آسيا – الهادئ، وخصوصاً في مياه بحر الصين الجنوبي وعلى سواحله. وهذا ما يخشاه الفرنسي وربما يعدّ العدّة لإيجاد جيش أوروبي يحقق الأمن الأوروبي وليس الأميركي. وفي الوقت نفسه يحمي البلاد من تحالف صيني روسي أو ربما يجد مصلحة في هذا التحالف. فالرؤية الفرنسية كما سبق وأسلفنا على المدى البعيد ترى في الناتو ثقلاً قد يؤدي بها إلى خسارة دورها في القيادة الأوروبية خاصة بعد أن يتم الطلاق البريطاني واحتدام المنافسة إذا ما انعكس التحالف الاستراتيجي «الروسي – الصيني» على «الأميركي – البريطاني» ليجد الاتحاد الأوروبي نفسه خارج المعادلة الدولية في النظام الدولي وهو ما لا تريد فرنسا الوصول إليه، إنما التساؤل عن الموقف الألماني الضبابي حتى الآن..
وفي العودة إلى الاستياء الفرنسي من الحلف، فقد ظهرت واضحة في تصريحات وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، حينما قالت، إن «واشنطن تستخدم الحلف لمصالحها التجارية الخاصة، من خلال استغلال المادة الخامسة من ميثاق الناتو بشأن الدفاع الجماعي، والتي تلزم الدول داخل الحلف بشراء أسلحة أميركية». وهو استياء حقيقي، لكون فرنسا أحد أكبر منتجي الأسلحة، في الوقت الذي تمتلك فيه معظم الدول الأعضاء في الناتو أسلحة أميركية.
لذلك تصبح مبادرة ماكرون، بشأن تشكيل جيش أوروبي، والتي من شأنها ضمان أمن العالم القديم إلى جانب حلف الناتو، مبادرة محقّة إنما «مستحيلة» إن لم يجد تضامناً حقيقياً وإرادة أوروبية جديّة لتمويل هذا الجيش الموحّد بعيداً عن المصلحة الأميركية.. وكما كتبت «الديلي تلغراف» فإن «صاحب مبادرة كهذه لا بدّ وأن يكون رئيس دولة قادرة على تمويل مثل هذا التحالف العسكري، الولايات المتحدة تستطيع، لكن فرنسا لا يمكنها، ولا جدال حول هذه الحقيقة».
وبالرغم من ذلك، فلا زال لدى ماكرون فرصة لتحقيق رؤيته، خاصة إذا ما بدأت أميركا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية وتفضيل مصلحتها عبر تلقين أوروبا الأوامر الأميركية مرة أخرى، ولا يكفي ذلك لتحقيق الرؤية الفرنسية إنما يتوجب على الدول الأوروبية أيضاً الانتباه لكونها باتت أدوات أميركية وبات الذراع العسكري الناتوي ذراعاً أميركية صرفة.. وتكفي قراءة مقال السفير الأميركي السابق لدى المملكة المتحدة، روبرت وود جونسون، في «الديلي تلغراف»، لمعرفة أنّ ما تريده واشنطن من الناتو هو توحيد العدو وتوجيه البوصلة باتجاه روسيا والصين متغاضية عن المصالح الأوروبية التي تنصهر في هاتين الدولتين من أمن طاقوي وسوق تجارية وأن الحرب التجارية التي أعلنها ترامب ضدّ الصين ربما سيعلنها ضدّ أوروبا، وكذلك العقوبات المفروضة على روسيا ربما يفرضها على أوروبا، إذا ما أحسّ بأنّ أوروبا تتعدّى على شعاره «أميركا أولاً». ويقول روبرت وود جونسون في مقاله إن «على دول الناتو أن تتحد في مواجهة الصين وروسيا، المعاديتين للغرب وقيمه»، ويخلص إلى أن «السلام والازدهار الأوروبيين يعتمدان على الناتو، وقدرته على الدفاع عن نفسه في الفضاء والفضاء الإلكتروني والجو والبر والبحر»، وما بين السطور ليس بالمستور..
فيما تتناقض هذه التقديرات مع آراء الرئيس الفرنسي، الذي يصف الإرهاب الدولي بأنه «الخصم المشترك للناتو»، وليس «موسكو وبكين على الإطلاق»، وبالتالي يتنافى الأمن الأوروبي الذي يريده ماكرون مع إرادة البيت الأبيض، الذي يستخدم المخاوف التاريخية من روسيا لمواصلة إبقاء أوروبا تحت سيطرته بخيط رفيع صارم..
وماكرون الذي «يشك في النظام العالمي، ويسعى للبحث عن بدائل للسياسة الخارجية بما في ذلك تحسين العلاقات مع روسيا»، وفقاً لما ذكرته صحيفة «بيلد» الألمانية، لا يستطيع التراجع دون تكبد خسائر جسيمة بسبب السمعة السياسية والتصنيف. وقد تكون ميركل في وضع صعب مماثل، إلا أن تخفيف حدة خطابها أمر وارد، فبالنسبة للمستشارة الألمانية هذه هي فترتها الأخيرة في السلطة.في حين لا زال العالم القديم يطلق على الاتحاد «الفرنسي – الألماني»، اسم «محرك أوروبا»، معرباً عن أمله في قدرة هذا «المحرك» على إخراج أوروبا من مشاكلها الاقتصادية والجيوسياسية، لكن الآن، وقد أصبح الخلاف بين المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي واضحاً للعيان بشأن دور الناتو، تبدو آفاق الحفاظ على الاتحاد الأوروبي غامضة. ولعلّ وزير الخارجية الألماني سابقاً يوشكا فيشر لخّص الواقع جيداً بقوله: «بغية الحفاظ على الناتو، على الاتحاد الأوروبي أن يعمل وكأن الحلف قد زال بالفعل».