قالت له
قالت له: هل تعلم أن أجمل رائحة في الكون هي رائحة التراب بعد أول مطر في موسم الأمطار؟
قال لها: وما الذي يحمله سحر هذا الجمال؟
قالت: لأنه يحمل أسرار الخلق والعطش والحياة والموت ومنه منبت الزهر والثمر.
قال لها: ولماذا لا يكون عطر الياسمين هو الذي يحمل هذا السحر. وهو أول عطور الخالق فزهرته رافقت ولادة أول المدن المسكونة على الأرض في دمشق، ولا تزال رمزاً للجمال والكمال الهندسي والبياض الناصع والعطر الفواح والتمدد العشوائي البهي بطلعته من فوق العمارات والشبابيك كأجمل ما صنعت يد الخالق في إثبات ضعف قدرات البشر وتخيّلي ألطف هدية يهديها شاب لفتاة في حي دمشقي قبل ألف عام وبعد ألف عام وما عساها تكون غير زهرة ياسمين تشكل بها شعرها أو عقداً تمّت صناعته من براعم ستتفتح تباعاً حول عنق الحبيبة ويفوح عطرها أبهى من كل ما صنعت عبقرية الكيميائيين في باريس أو العطارين في صنعاء أو بغداد.
قالت له: أنا المتيّمة بحب الياسمين تريدني أن أنتقص من قدره دفاعاً عن كلمة قلتها في تفتح رائحة الطين السماوي بعد تساقط حبات المطر وما يدخله إلى الروح من شعور وسحر يذكر بمعانٍ إلهية ونعم ربانية ويفتح القلب؟
قال: تعالي نتخيل زهرة ياسمين بعرقها الأخضر مجبولة بطين المطر الأول.
قالت: فننعم بالعطرين معاً.
قالت: وهل تعتبر التوافق انتصاراً؟
قال: بل هو ضم الجمال إلى الجمال طلباً للكمال.
قالت له: لكنك عارضتني فاستدرجتني فحصلت على موافقتي.
قال: هو بحث عن المشتركات ولولا الودّ لكان التصلب بالرأي طريقاً للمشاغبة ومدخلاً للنكد.
قالت: وهكذا يقع الخلاف أم هو تعبير حقيقي عن اختلاف.
قال: في غير قضايا الحق البائن والباطل البائن والظلم الشائن أغلب اختلافات الرأي هي خلافات أصحاب الرأي.
قالت: أتقصد أن المشاعر الملتبسة بين البشر تصنع خلافاتهم وتذهب باختلافاتهم نحو التصادم وأن الرغبة بتخطي الخلاف تفتح فرص التواصل والتوصل لطي الاختلاف؟
قال: أقصد أن روح البحث عن المشتركات معاناة لا نكلف أنفسنا أن نختبرها فنستسهل العناد، لأنه تعبير عن روح السعي للتفوق وإثبات الذات وغالباً ما تكون الفوارق تكميلية بين الرأيين ولا تستدعي التصادم، لكن الأنا الغالبة على طباع البشر تجعلها كذلك.
قالت: وفي الحب يحدث مثل ذلك؟
قال لها: في الحب أكثر ما يحدث هو ذلك عندما يفقد الحبيبان الاستعداد للتنازل.
قالت: أنكتشف مراحل الحب من ذلك إذن؟
قال: مَن يبحث عن المشتركات هو الأشدّ حرصاً ومن يذهب بالاختلافات لتصير خلافات هو الأشدّ تعنتاً وغرقاً بالأنا. فالمحب قليل السؤال الذي يحمل بذور التشكيك والمتوجس دائماً بالشكوك مدافع عنيد عن رأيه لأنه يدافع عن ذاته.
قالت: وفي الياسمين ورائحة التراب؟
قال: أنا وأنت متصالحان مع الرغبة بالتوافق والموضوع أجمل من أن يضيع في دوامة الجدل العقيم.
قالت: إذن؟
قال: أهديك كمشة طين وتهديني كمشة ياسمين.
قالت: وهل تظنني أغضب؟
قال: وهل قلت إنني لا أرغب؟
قالت: إليك اللعبة كما يلي في العام المقبل سترى في الطين الذي جئتني به نبتة ياسمين وسيكون ياسمينك بعد أيام ذابلاً فهل تلعب؟
قال: الياسمين لليوم والطين لبعد عام ليستولد الياسمين والماء بينهما وأنا وأنت في الملعب.
قالت: ياسمينك لليوم وياسميني للغد فهل نتبادل قبل أن نتعب؟
قال: نلتقي بعد عام وياسمينك الأبعد وإليك ياسميني الأقرب.
فقالت: هات الياسمين وغداً عندما تمطر خذ حفنة من التراب وقد ترطب.
قال: ها نحن قد عدنا تربحين وأخسر وأتنازل فأتعذّب.
ضحكت وقالت: هي هي حكاية السلحفاة والأرنب.