ثقافة وفنون

«السراب»… ملمح لخيوط خارج سرب نجيب محفوظ!

} محمد رستم*

منذ البدء نلمح إلى أن رواية «السراب» لا تمثل العالم الروائي لمحفوظ فهي ليست أكثر من توليفة لمسايرة الموضة السائدة في الغرب. فالعالم الروائي لمحفوظ هو الواقعية الاجتماعيّة (ثلاثيّة زقاق المدق. القاهرة الجديدة..الخ..) ولعلّه جسّد إعجابه بالمدارس الغربيّة في رواية السراب إذ كتبها وفق المنهج النفسي وعلى المنهج التجريبي والتقانة الحديثة كتب (ميرمار) واعتبرت روايات محفوظ تمثل مراحل تطور الرواية العربيّة.

ولأنه مأخوذ بالمكان فإنّه يحيل صوغ فضائه الحكائي السردي على المرجعيّة المكانيّة فاتخذت معظم رواياته المكان عنونة علية وعتبة لها، وأما رواية «السراب» فأول ما يلفت النظر الضبابيّة في سيميائيّة العنونة إذ جاءت غائمة ليقول إنّ بطلها كامل المهزوز نفسيّاً ضائع فليس من أرض صلبة يقف عليها، كما أنّ لا مكان له على المساحة الاجتماعية. فالشخصيّة السليمة تغرس مرساتها في أرض الواقع وتتكامل مع محيطها ولما كان (لكل امرئ من اسمه نصيب) فقد غمس الكاتب بطله في أحداث المرويّة معتمداً المفارقة في التسمية والروائي هنا يتّكئ على التسمية المعكوسة كي يشير عبر خيط خفيّ إلى النقص الذي يعتمل في أعماقه، فأسماه «كامل».

وواضح أنّ العالم النفسي المريض لكامل أهم ما في المرويّة، وهي كما تناولها النقّاد مبنيّة على عقدة أوديب، العقدة التي تقوم حسب التفسير الفرويدي على مثلث (الأب، الأم، الابن)، حيث يغار الابن من أبيه الذي ينافسه حبّ أمه فتحضر الكراهيّة.

لكن الرواية هنا جاءت بمثابة ترجمة سيكولوجيّة لعقدة تظهر ثلاثيّة الأبعاد في حالة مرضيّة.

وإذا كان الأب (أحد أضلاع المثلث) قد غاب عن المشهد الروائي هنا فقد أظهر الابن كراهيّته له حين ابتدع الكاتب حضوره مع الأم في صورة العرس وتجسّد ذلك في تمزيق كامل للصورة.

ولعلّ سكر الأب وإهماله للعائلة وانصرافه عنها عزّز الكراهية بينهم، ومما يلفت النظر أن كامل يمثل البطولة الانسحابيّة في خطّ الرواية فقد جاء في الوقت الضائع بعد التوبة الكاذبة للأب وكأن مجيئه غير سويّ، إذ جاء في وقت مسروق من خلف الزمن فبدا وكأنّه غلطة أو نتيجة استراحة محارب بين شوطين من الخلافات.

هذا وقد أبدع الكاتب في تغطية هذه الشخصيّة بكلّ ما يلزم لتأتي نموذجاً للمريض النفسي «المهزوز» أي تأمين العوامل الخارجيّة من تربية وغيرها فقد عاش كامل مدللاً وأمه المطلقة والمحرومة من ولديها فهي (كانت مصابة في صميم أمومتها فوجدت فيّ أنا السلوى والعزاء والشفاء)؛ وعن حنانها الزائد يقول كامل «لم أدرك إلّا بعد فوات الوقت أنّه كان حناناً شاذاً قد جاوز حدّه».

لقد كانت أمه مرفأ راحته وسعادته وأمانه ويراها ثاني اثنين في القداسة بعد الله. يقول «أمي هي حياتي وحياتي هي أمي». وهنا يبيّن الكاتب أثر التربية في الصحة النفسيّة. وبسبب احتكار أمّه له وحرمانه من اللعب مع أقرانه لسعته عقارب العزلة وحرم من دفء العلاقات الاجتماعيّة بل صار يرى في الآخرين أعداء وهم يسخرون منه وغدا مصلوباً على خشبة الخوف والضيق والوحشة والجهد والامتحان، بل صار يشعر بالعجز «شعوري بالعجز لا يفارقني». وعندما قرع الألم أجراس نواقيسه أضاع تأشيرة دخوله عالم الفرح والأمان وصار المجتمع يمارس عليه الكبح بشدة. فالخجل عنده متورّم حدّ الطفح يوقظه في أعماقه ركام الخيبات وبسبب غبائه وشروده بلله مطر الخيبات وتعرض لعقاب المدرسين فوجد في البكاء كعبته التي تريحه، وهو يخاف من الأنثى «لم يستطع أن يكلم رباب إلا بعد سنة ونصف»، ولعلّ غباءه الظاهر للعيان جعل زملاءه في الوظيفة يسخّرونه للقيام بأعمالهم لذا فهو مهزوز نفسيّاً، هزيل، كثير الشرود ينفصل عن الواقع ويعيش أحلام اليقظة، كثيراً ما فكر بالانتحار، منطوٍ على نفسه منخور بسوس البلاهة ويعتصم بدمع البكاء..كان يحمل أطناناً من الخوف وغيوماً من الخجل، فهو نموذج جهير للمريض النفسي خانه جسده تحت تأثير الخجل والخوف دفعه عجزه إلى الإحباط فلم يتمكّن أن ينزل الحب الطاهر إلى وحل العملية الجنسيّة الحيوانيّة وأمّه كرمز طاهر مغسول من الدنس حاضرة معه في خلوته مع زوجه. (فأمه هي أيقونة الطهر والجمال) كما يرى في زوجه مثالاً للجمال المطلق «إذا طالعت وجهاً ناضراً يقطر نوراً وبهاء ملكني الإعجاب وبردت حيوانيتي»، «ويتساءل هل تعتري حبيبتي الطاهرة المحتشمة هذه الشهوة الوحشيّة»..

لا بدّ من القول، إنّ عواصف الخيبات أفسدت طويّته فوقع في المدى المجدي للخمرة والجنس. وهذا ما جعله يغدو وينوس بين الطهارة والإغراءات ولأنّ الكرة القذرة قادرة على التدحرج أيضاً، فقد تدحرج في مستنقعات الرذيلة بالرغم مما في أعماقه من كوابح تعوق حركته وانحدر إلى قبو الرذيلة كي يسند قلبه بثمر المتعة واللذة..

هناك حيث يتخفّف من ضوضاء صهيل الجنس ويتمّ تحقيق ذاته كرجل لا يختلف عن بقيّة الرجال فيبلسم رغباته الهاربة في حيلة لكسر وتجاوز عقدة النقص.

وصار يمارس مع المرأة الدميمة بينما يرى في الجمال طهارة لا يجوز أن تدنّس بالجنس لأن في الجنس قباحة. فمنذ صغره رسمت أمه في ذهنه صورة أنّ الجنس والعقاب وجهان لعملة واحدة، حين ضبطته مع الخادمة الدميمة وهو يمارس الجنس بشكل فطري وببساطة الأطفال.

لقد حطّم صورة المقدس الثاني «الأم» حين تزوج بمعزل عن رغبتها كما حطّم نظرته إلى هالة المقدس الأوّل حين ماتت زوجه، فقال: «لن أعبده بعد اليوم».

وحين أسقط المقدّسات أعلن الحرب على ما تبقى من حقيقة مزيّفة والتي صارت أمامه وجهاً لوجه، إذ جاءت الخاتمة تعبيراً عن مرايا الانكسار لعالم كامل تشظى بفعل هول الصدمة وإذا عاودنا النظر إلى الشخصيات الأخرى نجدها تعاني من اضطراب ما. فمبالغة الأم في خوفها على ابنها وإعراضها عن الزواج لأجله وانقطاعها عن الحياة الاجتماعية يضعها في دائرة الظنّ وكذلك الأب المنقطع عن المحيط الاجتماعي بسبب السكر والجد المدمن على القمار والمنصرف له والزوجة التي فقدت الرجولة بالكامل. فالتفتت إلى غيره فهبطت قبو الرذيلة وكأنّ الأسرة مصابة في جوهرها إنّها «عائلة عاهات».

ولأن الرواية نفسيّة جاءت حبكة الأحداث مصطنعة فقد اضطر الكاتب لاستخدام الموت وسيلة ليرفو أحداث روايته معتمداً القدريّة لإنقاذ الموقف (موت الأب ليتم زواج كامل) كما مات الجدّ والأم والزوجة أي كل شخصيات الرواية.

وواضح أن شخصيّة كامل (مخبريّة مسبقة الصنع) مرسومة بما يناسب مرضه النفسي لكنّ الكاتب لم يلتفت إلى طريقة كامل في اللفظ (من تأتأة أو لجلجة أو احتباس كلام) ولا حتى إلى الكلمات المفتاحيّة التي نردّدها عادة دون شعور منّا.

وتخلو الرواية من القطب المخفيّة والجوانب المشفّرة إذ لا تحتاج لكبير عناء لمعرفة مؤدّاها الفكري «عقدة أوديب» لذا تبقى رواية السراب تغرّد خارج سرب العالم الروائي للكاتب الكبير نجيب محفوظ.

* كاتب سوري.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى