مسارات توافقية… أستانا وسوتشي وتفاهمات الواقع السوري
} أمجد إسماعيل الآغا
في إطار الزخم السياسي الذي يشهده الشأن السوري، يبدو واضحاً أنّ تطلعات وهواجس القوى الدولية، باتت مؤطرة في البحث عن سبل حماية مصالحها في الجغرافية السورية، في مرحلة ما بعد الحرب، خاصة أن الاهداف الجيوسياسية التي رافقت بدايات التدخل في سورية، قد تغيّرت نتيجة التغيّرات المُتسارعة لمسار التطورات. هي تطورات هندستها الدولة السورية بالاعتماد على نظرية الصبر الاستراتيجي، للوصول إلى ترتيبات الحل النهائي، وتعبيد طرق التسوية السياسية التي تتخذ من السيادة السورية مُنطلقاً ومنهجاً لأي تسوية، عطفاً على المنجزات الاستراتيجية التي حققها الجيش السوري، دون تعقيد أو تشابك في مسارات التسوية المُعتمدة على نُسخ استانا وتفاهمات سوتشي، والواضح أنّ هذه التطورات المتسارعة سياسياً، والمتلاحقة عسكرياً، التي فرضتها الدولة السورية وجيشها، لا تأتي في توقيت ملائم لـ واشنطن وتركيا على السواء، حتى بدا الحدث السوري بكلّ تفاصيله، مُلتبساً جراء الملفات المتشابكة، والرغبات الأميركية والتركية بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وخلط جُلّ أوراق المنجزات السورية، وتفريغها من مضمونها السياسي والعسكري.
فالوقائع والمُعطيات المتشابكة لا تشي بنيّة قريبة للحلول، وإنهاء الحرب ما زال متعلقاً بالعديد من القضايا الشائكة، فكلّ شيء في الحدث السوري، خاضع للترتيبات الإجرائية القابلة للتعديل، بحيث يبدو الثابت الوحيد في سورية هو تغيّر السياسات وتبدّل التحالفات، مع إمكانية اتساع بيكار التصادم العسكري.
لكن ومع كلّ تغيّر وتبدّل في التطورات السورية، يبقى الثابت الوحيد ضمن هذا الإطار، إرادة الدولة السورية وجيشها بكسر وتأطير كل التدخلات الأمركية والتركية، الرامية إلى العبث بخارطة المنجزات العسكرية، التي رسمت كلّ الوقائع السياسية وتفاهماتها.
محاولة انعاش المسارات السياسية من استانا الى سوتشي، قد تُعرقلها مؤشرات التصعيد الحاضرة بقوة في شمال شرق سورية، ليكون توقيت التوافقات السياسية مضبوطاً على وقع المُعطيات العسكرية، خاصة أنّ واشنطن وأنقرة تصوّبان وتركزان على هندسة سيناريو تكون مضامينه بمثابة القفز بعصا مكسورة، على جملة التطورات في سورية. بيد أنّ أدواتهم في الجغرافية السورية، يعانون من تخبّط جراء الضياع في متاهات البحث عن مكاسب سياسية أو عسكرية، قد سُلبت بمفاهيم الحديد والنار من داعميهم. ليكون التصعيد العسكري المتزامن مع اقتراب أي جولة سياسية، بمثابة جرعة الأوكسجين التي تُعيد الحياة لأيّ تفاهم سياسي، ورغم ذلك، فإنّ محاولات ضامني استانا إنعاش التوافقات السياسية قد تُفلح في بعض جُزئيات الملف السوري، إلا أنّ المعطيات توحي بمضامينها، إلى أن هندسة الميدان العسكري التي يقوم بها الجيش السوري، هي الأكثر قوة وفعالية في فرض المعادلات السياسية، فجولة استانا الرابعة عشرة أفلحت في توفير غطاء جديد لما يُمكن أن يكون مساراً سياسياً توافقياً، الأمر الذي تُرجم عبر توافقات ضمنية لأطراف استانا، تمثلت في تطبيق كلّ ضامن لتعهّداته، الأمر الذي يشي بتعليق تكتيكي لكلّ العمليات العسكرية، على قاعدة التهدئة الميدانية لإعطاء المُهل لتطبيق التفاهمات السياسية.
تفاهمات الواقع السوري بأبعادها السياسية والعسكرية، تفرض نمطاً من التقارب لتجاوز حساسية المرحلة الراهنة، إذ لا يُمكن لتركيا تخطي عتبة استانا والتغريد منفردة في شمال شرق سورية، خاصة أنّ روسيا وإيران يجيدون تطويع الاهواء التركية، وبلورتها في قوالب سياسية، وذلك بالاعتماد على حالة الانكماش الأميركي في التعاطي مع السياسيات الخارجية، في ظلّ انطلاق السباق الانتخابي الأميركي في شباط من العام القادم، وحتى ذلك التوقيت، سيكون لشرق الفرات النصيب الأكبر من جُملة التفاهمات، مع طيّ جزئي لملف إدلب، ريثما ينضج المناخ التوافقي حيال هذا الملف. إذ لا يمكن فصل مسار استانا عن تفاهمات سوتشي وما بينهما من جُزئيات عسكرية ناظمة للعمل السياسي، وعلى اعتبار الترابط العضوي بين ملفي إدلب وشرق الفرات، فإنه لا يمكن الفصل بين الملفين بأي تفاهمات لا تُحقق شروط دمشق. ضمن هذا المُعطى يبدو أن الانسجام السياسي والدخول في التوافقات، سيكون مناخاً عاماً يسود الشمال الشرقي من سورية وتفاهماته.
بيان استانا الرابع عشر الختامي أشار صراحة إلى الاتفاق الروسي التركي حيال شرق الفرات، إضافة إلى التنويه بأهمية اتفاقية أضنة 1998، وإمكانية أن تكون رافعة لمستقبل العلاقة السورية التركية، عطفاً على ضرورة التزام انقرة بتعهداتها لجهة محاربة الفصائل الإرهابية في إدلب، وضرورة تنفيذ اتفاق سوتشي، الذي نص صراحة على إنشاء منطقة منزوعة السلاح على طول خط التّماس في إدلب، وفتح الطريقين الدوليّين M4 (حلب ــــ اللاذقية)، وM5 (حلب ــــ دمشق)، وبتعهّد تركي بإخراج المجموعات الإرهابية من المنطقة المذكورة بما فيها هيئة تحرير الشام/ النصرة سابقاً.
في هذا الإطار، عمدت تركيا على زرع ألغام سياسية ومثلها عسكرية، في سياق أيّ تفاهم، الأمر الذي من شأنه أن يُمهّد لرسم خارطة تُفند بدقة استراتيجية تطلعات تركية وطموحاتها في الجغرافية السورية، إذ لا يمكن للدولة السورية وبصرف النظر عن اتفاق استانا وتفاهمات سوتشي، أن تغفل التحركات التركية شمال سورية، والتغيّر الديمغرافي الذي تُهندسه أنقرة، يُضاف إلى ذلك، رغبات أردوغانية واضحة لتعقيد المسارات السياسية، وكبح سياق التفاهمات، فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّ بلاده ستستضيف القمة الثانية حول سورية بحضور قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا وتركيا في شباط/ فبراير المقبل. الامر الذي يشي بتصعيد ميداني مُتعمّد من قبل تركيا بُغية الاستحواذ على أوراق ميدانية هامة قابلة للصرف سياسياً. لكن يبدو أنّ أردوغان لا زال في حالة دوار سياسي وغير مُطلع على أخبار الميدان، فالجيش السوري الذي وسّع من انتشاره شمال شرق سورية، باتت جُلّ الأوراق الذهبية بحوذته، فأي تسخين ميداني عبر أدوات تركيا، سواء في إدلب أو مناطق انتشار الجيش السوري شرق الفرات، سيُقابل بالحديد والنار.
في المحصلة، دمشق وعبر هندستها لمسار الاستراتيجية العسكرية، تُبقي باب الحلول السياسية موارباً، لكن وضمن المناخ السياسي في شمال شرق سورية، تُبدي دمشق انفتاحاً لجهة إعطاء المزيد من الفرص لتركيا، بُغية الاسراع في تنفيذ تعهداتها في اتفاق أستانا وتفاهمات سوتشي، لإدراكها أن انهاء الحرب يتطلب ترتيب أوراق الشمال السوري، بكافة تشابكاتها وتعقيداتها، والعمل على توافقات جامعة بين كل الأطراف. بيد أن دمشق وكذا روسيا وايران بدأوا يستشعرون خطر التوافقات بالتقسيط، ولا بدّ استناداً لذلك، أن يتمّ القضاء على الارهاب، فدمشق لا يُمكن أن تستمرّ بإعطاء الفرص إلى ما لا نهاية. وعليه، فإنّ صُناع القرار السياسي والعسكري في سورية، دائماً ما يُذكرون بأنّ السيادة السورية ومنع تقسيم الجغرافية السورية، هي أولويات لا يُمكن المساومة عليها، ما يعني أنّ الصراعات المتعددة الأوجه، سيوضع لها حداً، فالجيش السوري مصمّم على دحر واشنطن وتركيا وأدواتهما، والقيادة السورية أدرى بالتوقيت.