اعتداءات وشتائم وعمليات كرّ وفرّ… استثمار في وجع الناس وتقويض للمطالب المحقة… من يصوّب البوصلة؟
عبير حمدان
بعد مضيّ شهرين على التظاهرات التي خرجت رفضاً للضرائب وللواقع المعيشي الصعب، وما تخللتها من عمليات شغب وقطع طرق، فإنّ تطوّراً بدأ يظهر من خلال عمليات الكر والفر التي لا تخدم المطالب المحقة للناس، نتيجة وقوف أطراف سياسية وراءها اختارت أن تجعل من وجع الشعب شماعة تعلق عليها مشاريعها الفتنوية وتسعى لحصد ما يمكنها من مكتسبات ولو على حساب المواطن الذي لا يملك إلا صراخه في وجه الفساد المستشري منذ عقود ويصبح صراخه مادة إعلامية يتمّ تحرفيها كيفما يريد رأس المال المتحكم بجزء من وسائل الإعلام، وتستثمر معاناته سياسياً ومناطقياً وطائفياً كيفما يريد دعاة التقسيم والحياد.
الشارع بات لعبة خطيرة قوامها المقامرة ومن خلاله حُرِقت الأسماء واحداً تلو الآخر وتبدّى الالتباس الواضح في شعار «كلن يعني كلن» الذي أطلقه جزء من الحراك ليظهر أنّ الطائفية في النفوس تتغلّب على المواطنية والانتماء.
في اليومين المنصرمين تصاعد المشهد في وسط بيروت لتتحوّل ساحتي رياض الصلح والشهداء إلى ميدان حرب بين المتظاهرين والقوى الأمنية استعملت فيها الحجارة والعصي وكلّ ما تيسّر من عوائق وساهم جزء من وسائل الإعلام في صبّ الزيت على نار الساحات بشكل فاضح وبعيد كلّ البعد عن المهنية. ناهيك عن تسلل «التطبيع» إلى الساحات وسعي من يسوّق له إلى التصويب على «المقاومة» بشكل مفضوح ومدان من كلّ القوى الوطنية المتمسكة بمواقفها كما الناس الذي أطلقوا صرختهم المدوية في وجه الفساد والتي يجب أن يعمل الجميع على مواكبتها بكلّ شفافية ومصداقية بمنأى عن كلّ المشاريع الفئوية المشبوهة.
بين «السلمية» و»التطرف»
تختلف الرؤية بين متظاهر وآخر ولو أنّ العنوان الأساس الذي دفع الناس إلى اللجوء للشارع كوسيلة تعبير هو رفض سياسة الإفقار والضرائب، في أولى أيامه حصل شبه إجماع على أنّ التظاهرات عفوية وبدا التحرك أشبه ببارقة أمل مرجوّة لدى السواد الأعظم من الناس إلى أنّ لوثته السياسة وأربابها بمشاريع قديمة جديدة. حيث بدأ الانحراف مع قطع الطرقات كوسيلة ضغط ألقت بأثرها السلبي على الناس بالدرجة الأولى ورافق ذلك التصرف فرض الخوات في بعض المناطق وطلب الهويات مما جعل شبح الفوضى والفلتان ماثلاً وبشكل مخيف، لكن الحادث الذي وقع في منطقة الجية وأدّى إلى استشهاد شخصين ساهم في استبعاد منطق قطع الطرقات الذي كان من المفترض أن لا تسمح القوى الأمنية المعنية بتكريسه من الأساس.
ومن يراقب المشهد بشكل يومي يلحظ أنّ غليان الشارع بعيد عن السلمية وممنهج بحيث يتمّ تحريكه بأسلوب ميليشياوي يصل حدّ التطرف في إطلاق الشعارات المستحضرة للحرب، بالإضافة إلى السباب والشتائم بحق رموز مشهود لها بمواقفها الوطنية في محاولة لاستفزاز جمهور عريض تمكن من الحفاظ على انضباطه ولو بشكل نسبي منذ تلوّث الحراك المطلبي بالمشاريع السياسية المشبوهة.
المواجهات التي حصلت مع القوى الأمنية بعد ظهر السبت الماضي أسقطت عنه صفة السلمية وضاع الصالح من جراء ما فعله الطالح وقبيل هذه المواجهات تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو الإشكال بين الجيش اللبناني وبعض المحتجّين في جلّ الديب ولم يخجل أحد هؤلاء بالقول لعقيد في الجيش «انزعوا سلاحكم وواجهونا» فهل هؤلاء هم دعاة تغيير سلميّين؟
بعد ظهر الأحد الماضي توجّهت الباصات من مناطق متعددة متوعّدة القوى الأمنية بالويل والثبور وعظائم الأمور، واشتعلت الساحات مجدّداً وأصبح مقرّ المجلس النيابي هدفاً لهؤلاء الذين يطلقون شعاراتهم على قياس طائفي بعيد كلّ البعد عن المبادئ والقيم الوطنية البناءة، فكانت المواجهة مع القوى الأمنية حتمية واستمرت حتى ساعات الصباح الأولى، فمن المستفيد من هذا التصعيد المفتعل وأين العقلاء في الحراك المطلبي للعمل على تصويب البوصلة وتنظيف رواسب التحريف والتطرف عن مطالبهم المحقة؟
بين المهنية والاستعراض
يمكن للمتلقي رصد وسائل الإعلام التي تأخذ الصورة من زاوية محددة ولكن يبقى التفسير مرتبطاً بأهداف كلّ وسيلة سواء كانت هذه الأهداف سياسية أو إعلانية أو على الأغلب استعراضية، وتصبح المهنية في هذه الحالة صفة يندُر توفرها.
مع بداية المواجهات بعد ظهر السبت تمكّنت مؤسّسة إعلامية من الإحاطة بالمشهد في مختلف جوانبه ونجحت في نقل كلّ وجهات النظر بمهنية حتى أنّ النداء الذي أطلق من أحد جوامع المنطقة يدعو الشبان إلى ضبط النفس والالتزام منازلهم درءاً للفتنة ترافق مع تغطيتها للمواجهات، لتطالعنا وسائل إعلام أخرى بأخبار واضح كيفية صوغها تقول فيها «إنّ النداءات على مكبّرات الصوت في الجوامع تدعو لنزول الشبان إلى الشارع والتعدّي على المتظاهرين السلميين» وفي ذلك دعوة صريحة لتأجيج الفتنة.
بقي التفاوت في نقل الوقائع كلّ من وجهة نظره إلى ما بعد منتصف الليل وتكرّر المشهد في الإضاءة على إحدى المتظاهرات التي رأيناها وبشكل مباشر ترشق القوى الأمنية بالحجارة وتلوذ بالفرار حين يتمّ ملاحقتها، وبأقلّ من دقيقة نرى نفس المتظاهرة على شاشة ثانية محاطة بالمراسلة وفريق العمل المرافق مدعية أنّ القوى الأمنية اعتدت عليها وعلى شقيقتها وأكثر من ذلك فقد استشرست المراسلة لمنع اعتقالها بحجة أنها تعاني من مشاكل نفسية، والسؤال البديهي هذه التي تعاني من مشاكل نفسية ماذا تفعل بعد الساعة الثالثة فجراً في الشارع المشتعل وما هي مطالبها كي تقنعنا بوجودها وسلمية تعبيرها؟ ناهيك عن التوجيه الذي يعتمده بعض المراسلين من خلال طريقة طرح السؤال الذي يحتوي على جواب معلّب وكأنهم يقولون لمن يسألونه عليك أن تجيب على هذا النحو كي تحصد لقب «ثورجي» وكي تتصدّر الشاشات.
من الصعب رصد كلّ السقطات الإعلامية حيث أنّ جزءاً كبيراً من الإعلام يعتمد الاستعراض وبث الأخبار المجهولة المصدر إن لم نقل المفبركة في الغرف السوداء والهادفة إلى نشر الفوضى وجعل الناس وقوداً لها، ولعلّ الوعي هو الخلاص الوحيد للمتلقي في ظلّ هذا الكمّ الهائل من المغالطات المتلفزة والالكترونية التي تنتشر كالنار في هشيم الساحات.
تسلل التطبيع
في خضمّ المواجهات التي تتصاعد تارة وتخمد حيناً يتسلل إلى خيم الحراك الكثير من الأفكار المشبوهة على هيئة محاضرات وندوات يدعو إليها ما يُسمّى بجمعيات المجتمع المدني.
نجح ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمنع إحدى «الإعلاميات» التي ارتبط اسمها بجبهة النصرة الإرهابية خلال سنوات الأزمة في سورية من المشاركة في ندوة بعنوان «الثورة أنثى» بهدف الإضاءة على دور المرأة في «الثورة» ولكن وفقاً لوجهة نظر رأت أنّ الحركات الإرهابية لها الحق في تدمير سورية وقتل الأبرياء تحت اسم «الثورة»، وكان حرياً بالوطنيين في الحراك التصدي لهذا التسلل الإرهابي إلى الساحات ولو بهيئة إعلامية.
في مشهد آخر يسعى البعض لتمرير منطق الحياد والمجاهرة بالتطبيع بكلّ وقاحة وصلت إلى حدّ الاعتراف الصريح بالكيان الغاصب ومنحه صفة «دولة»، والسؤال من سمح بوجود خيمة لهؤلاء، وما هي أهدافها؟
في الختام يبقى وجع الناس هو النقطة المركزية لتصويب البوصلة بدءاً من محاسبة الفاسدين مروراً بالسياسة المعتمدة من قبل المصارف والتي يجب أن يتمّ رفضها جملة وتفصيلاً وصولاً إلى الحفاظ على هوية لبنان المقاومة في مختلف المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية، لذلك يجب أن يكون مطلب صون المقاومة بكلّ أطيافها على رأس مطالب المنتفضين منذ شهرين في الشارع درءاً منهم لأيّ استغلال سياسي سواء كان بإيعاز خارجي أو داخلي.