«جماهير.. وكوارث» بين لبنان والعراق!
} نظام مارديني
ونحن نتابع لحظة الاحتجاج المذهبي الطارئ في لبنان بعد تكليف حسان دياب رئيساً للحكومة اللبنانية.. والانقسام المذهبي في العراق، تذكّرتُ عنوان كتاب المفكر هنري حاماتي، ذلك الموسوم بـ «جماهير وكوارث»، وقد أدركتُ ضرورة الحاجة الى رؤية واضحة لمعرفة ما تحمله هذه الاحتجاجات المذهبية من خفايا، وما تتطلّبه من استحقاقات، لقطع الطريق على «مُشعِلي الحرائق» من استكمال أن يحرقوا هذه «اللحظة» لقيامة لبنان، ويضعوا أحلام الناس واحتجاجاتهم في العراق في مهبّ «الصراع الأهلي» أو لعبة العنف والعنف المضاد.. هذه اللحظة يجب أن تكون مدعاة للمراجعة الإجرائية المسؤولة، وقبل أن نقع في اللحظة التي تعيد إلى الأذهان قولاً للإمام علي (عليه السلام): «مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وأَقَلَّ الاعْتِبَارَ»!!
إن السياسة في لبنان والعراق، تحكمها الآن مسألتان: الصفقات المذهبيّة/ الطائفيّة، وخلق الأزمات واحتكارها!
فمع نهاية هذا العام تكشّفت الازمة الراهنة للواقع اللبناني/ العراقي عن مشهد سوريالي حقيقي، وعن تمظهرات في منتهى الغرابة، بعضها يتعلّق بالظهور المثير للجدل لقوى سياسية مذهبية عنفية وغامضة، وبعضها يتعلّق بالطبيعة الملتبسة في تسويق صور الخطاب السياسي والديني والاجتماعي الغاطس في متاهة الأصوليّات، وبعضها الثالث يرتبط بمزاج سسيوثوري، هذا المزاج الذي وجد تحت يافطات ما يُسمّى بـ»الاحتجاجات المطلبية» نوعاً من التخندق الجماعاتي، ونوعاً من التوهيم السياسي، واتجاهات استعادية لا علاقة لها بالتوصيف الدقيق – المهني للثورة مفهوماً وإجراءً، ولا بهويتها المتخيلة، ولا حتى بطبيعتها، لأن ما حدث من «ثورات ملوّنة» كشف لنا خلال السنوات الماضية عن انساقٍ مُضمَرة اختلط فيها السياسي بالديني، بالأصولي والطائفي والعرقي، مثلما اختلطت فيها المصالح والأجندات القريبة والبعيدة، حدّ القول والقطع بعدم براءة هذه «الثورات».
بطبيعة الحال ليست غاية هذه القراءة هو التوصيف، ولا التعويم أو التجريد، بل عتبة طريق للمعرفة.. المعرفة التي تتزامن مع زيارة معاون وزير الخارجية الأميركية، ديفيد هيل، إلى لبنان بعد زيارته الخاطفة إلى العراق، وما يحمله من أوهام تفجيريّة. وقد أكدت الاحداث في كل من لبنان والعراق أنها مترابطة، من خلال استغلال احتجاجات الناس المطالبة بحياة كريمة وعدالة اجتماعية بالقضاء على الفساد القائم منذ عقود، وإن رهان البعض على استشراء الطابع العنفيّ لن يكون عقلانياً، لأنّ الرهان الآخر سيكون ضداً نوعياً وفاعلاً في مواجهة ذلك العنف.
ما يحصل في شوارع لبنان والعراق، يؤكد أن «جماهيرنا» لا تزال تعيش «كوارثها المذهبيّة والعرقيّة» وهي لذلك بلا أبجديّة وتحلم من غير وعي وتمشي في شوارع لم تعرفها أقدامهم من قبل، وكأن الأرض اختفت من تحتهم وهم يلتمسون الضوء فلا يجدونه، واهنين يطؤون النتوءات بلا أصابع.
ما يحصل يؤكد أن «الجماهير» منذ بدء الحراك إلى الآن تعيش «كارثيّتها»، بل ولم تنفذ ضربة جزاء صحيحة واحدة.. فمجموع عدد الكرات الخارجة من ملعبها هي بالنتيجة كلها.. لا وجود لحارس مرمى جيد ولا صاحب تسديدة توافقيّة يمكن التعويل عليه، ولهذا ترك الأمر لنتوءات مقبلة ربما تحل جميع هذه العقد وتقوم هذه «الجماهير» بتسجيل هدف واحد حتى إن لامس شباك المرمى!
الأسئلة المثارة الآن هي أسئلة الخوف السيسيوثقافي. الخوف من الحرية، الخوف من الآخر، الخوف من الماضي.. فهل بات المثقف/ السياسي عاطلاً عن المسؤولية؟ وهل مات المثقف العضوي فعلاً، وذهب المثقف النقدي إلى أوهام الخطاب المذهبي والعرقي، وجلس المثقف الإجرائي في بيته يتفرّج على خراب وطنه؟ أم أن الرهان الآن يقف بين خيارين: امّا موت التاريخ أو موت المكان.. ولا نظنّ أن البعض سيفهم هذا الموت المفاهيمي، لذلك سيواصل بـ «جماهيريته الكارثية» لعبة الركض إلى خنادق الجمر، فهل يريدوننا أن نصرخ مع مايكل مور: «إنهم يحاولون إقناعنا بأن الله صنع كل هذه الوحول!؟».لكي يستعيد المواطن الواعي في كل من لبنان والعراق وظيفته الأخلاقية والرمزية، يمكنه المشاركة في تفعيل حراك الجماعات المدنيّة للحد من الصعود الغرائبي للعنف اللغوي المذهبي والإثني، وذلك بالاعتماد على الخيارات العاقلة في جوهر خطابها، بهدف إيجاد مساحات مرنة للوعي تفتح أفقاً لحوار عقلاني ونقدي يبدأ من النقد المفاهيمي والتداولي للدولة والنقد التوصيفي لمأزق الهوية وصولاً إلى نقد الجماعات ذاتها التي تشوّه أية صناعة جادة لمفهوم المجتمع، وللسلم المجتمعي.