كلمة حول رواية «جملون» للروائية نورا محمد المطيري
الدكتورة سلوى الخليل الأمين*
وأنا في طريقي إلى واشنطن العاصمة الأميركية من بلدي لبنان اصطحبت معي رواية «جملون» التي أهدتني إياها الصديقة المبدعة الروائية نورا محمد المطيري خلال لقائنا في مصر أثناء ملتقى المبدعات العربيات الثاني في القاهرة.
الرواية صدرت بطبعتها الأولى العام 2017 عن 495 صفحة من الحجم الوسط. وأنا أحملها معي رفيقة سفر، كنت خائفة من حجم الرواية والوقت المطلوب للانتهاء من قراءتها. وفي الوقت نفسه كنت قلقة من فقدان شهية القراءة لهذه الراوية، خصوصاً أنني لم أدرك مغزى اسم جملون، هل هو من مخيلة الكاتبة، أو هي ضيعة من ضياع العرب النائية، التي لا ندرك أسماءها، أمام شهرة العواصم والمدن الكبرى.
امتداد المسافة بين بيروت وباريس وصولاً إلى مطار دالاس في العاصمة واشنطن، لم يشعرني بالتعب والإرهاق الذي تعودته، منذ آليت على نفسي زيارة هذه العاصمة الأميركية، التي يسكنها ابني العالم في الأبحاث الطبية، والتي أصبحت تشكل لي محطة آمنة تسري عن النفس بعض ما أعانيه في وطني لبنان من قلق دائم على مصير وطن يتخبّط عشوائياً فوق مسار الدروب المزروعة بالأشواك.
هكذا كانت «جملون» رفيقة الدرب الطويل، قرأتها والدمع يجول في مآقي عيني مفتشةً عن مسارب الضوء، حين بطلة الراوية إمرأة جبلت بالقهر والظلم والاحتقار، هي الشابة الريفية البريئة آفين، العروس الرائعة الحسن، التي غرقت في متاهات الخوف المتحرّك حولها وحول كيانها كإمرأة جميلة، أراد حظها العاثر أن تولد في بيت رجل طيب اسمه ماريو، وأم لعوب اسمها جيهان تطمح إلى المستحيل، الذي لا يشبه طبيعة القرية جملون ولا طبيعة ناسها وعفويتهم بالعيش والتواصل. فالأم جيهان لم تكن ابنة ضيعة جملون، بل لجأت إليها مع والدها إثر قتله أمها، وهربه مع ابنته جيهان لاجئاً إلى جملون، الضيعة الهادئة المستكينة لرحاب الحياة الملتفّة ببساطة اللحظات، التي يحياها أهلها المرتاحون لبساطة العيش، الناتج من زراعة الأرض، التي احتضنتهم ببراءة البريق المرمي على سهوبها والتلال .
والد «آفين» هو «ماريو»، الرجل البسيط الذي لم تغره الحياة وارتضى بواقعه المتآلف مع أهل ضيعته جملون، بحيث كانت جلّ طموحاته إنتاج المزيد من ثمار البرقوق الذي يزرع شجره في الأرض التي يملكها، أما الوالدة جيهان فلم تكن على قناعة تامة بما هو حال زوجها من بساطة عيش ورضاء بما قسم له الله، بل كانت طموحاتها تتجاوز حدود «جملون» البلدة الصغيرة المسوّرة بقناعة أبنائها واستواء أحلامهم، التي لم تتجاوز حدود قريتهم الوادعة. لهذا كانت جيهان ترفض زواج ابنتها آفين من شباب البلدة الذين بهرهم جمالها ورقتها وتهذيبها وعاطفتها الرقيقة تجاه والدها «ماريو»، الذي آنس لطفها الذي افتقده من زوجته جيهان اللعوب الغارقة في طموحات هي حرق المواجع والدهور.
رسم القدر أعاصيره التي حطّمت أحلام آفين بزوج يحترم مشاعرها الأنثوية، فكان طمع أمها جيهان برجل ثري من المدينة نورسين، هو الصفقة التي جرت بين عريس الغفلة الذي ادعى الثراء المغلف بالخبث والدهاء، لغاية في نفس يعقوب، لم تدركها الأم اللعوب، ولم يكتشفها الوالد الغارق في طيبته وسكينته، فكانت الضحية الإبنة آفين، التي حصدت بعدها وحشية الزوج الذي باع شرفه وشرفها بموقع له عند سيده الشاذ بأخلاقياته وسلوكياته المنحرفة، التي خضع لها الزوج «آش» المنحرف أيضاً، تلك الزيجة المركبة تركيباً نفعياً، آلت في النهاية إلى ولادة طفلة لم يدرك أبوها أنها من صلبه.. إلى أن تنتهي الرواية بمأساة.. اختارت نهايتها الزوجة المنكوبة «آفين».. غير آسفة على قدر جعلها ضحية العائلة والزوج والمجتمع الذي لا يرحم.
انتهيت من قراءة الرواية وانا أدور في فلك رهيب من الغضب، الذي وضعتني في خضمه المؤلفة، حين حكايات الحياة تقف لنا بالمرصاد دائماً، حين خطوات القدر تنسج مطارحها من جزئياتها والتفاصيل، حيث الحياة تحملنا على مناكبها، فنغرق في متاهات لا حصر لها من قيم وتقاليد وعادات مقيتة، تجرف معها الحقيقة والإنسانية في أكثر الأحيان، فليس الفقر عاراً وليس الغنى متعة تحملنا على أجنحة الغمام، حين نتكئ على صروف الدهر العابث دائماً بالبدايات والنهايات، وخطوط الطول والعرض وعلامات الاستفهام، التي ترتفع أسئلة متشابكة المضامين، وقعتها كاتبة الرواية نورا محمد المطيري في رواية جملون بقلمها الثر وفكرها النيّر، وهي عديدة.. ومنها:
لماذا تقوى الأعراف والعادات والتقاليد على إنسانية الإنسان حين يسمح للأب أن يستكين حين الأم المتسلّطة هي مَن يختار الزوج للإبنة المطيعة، بغض النظر عن قبولها او أخذ رأيها. وهذه الأمور ما زالت راسخة في عمق مجتمعاتنا، حين تتماهى حولها مشاكل عديدة ينتجها الزواج الحاصل بالخضوع وربما بالترهيب والترغيب. وهنا لبّ المشكلة في رواية جملون، التي عالجت هذه القضية المتجذرة في حياتنا ومجتمعاتنا، التي ما زالت تغضّ النظر عن قيمة المرأة كإنسان، له الحقوق نفسها التي للرجل، خصوصاً حين يتعلق الأمر باختيار شريك الحياة أو العكس؟
والسؤال الثاني هو: لماذ نغضّ النظر عن البحث والتدقيق في حياة الأثرياء وسلوكياتهم، خصوصاً حين يكون الموضوع مصيرياً، خصوصاً حين يتعلق بزواج أبدي كرّسته الأديان برباط إلهي، نزلت فيه آيات بيّنات ومنها: «… أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»، والسكينة رضى والرحمة مودة والقبول تماهٍ في البيئة والمستوى العقلي والنفسي والعلمي وما شابه؟
ثم أليس الخروج من دائرة البحث والتدقيق التي لمستها الكاتبة بأسلوبها الممتع السلس والعميق في تنسيق العبارات والأحداث، هو جرس إنذار لكل عائلة تتخبّط في ترسيم مصير بناتها من منطلق الخضوع لآرائهن التي لا يمكن الاعتراض عليها، خصوصاً في بعض البيئات الاجتماعية، حين الزواج حلقة واسعة الاتجاهات تدخل في دوائر تطوي على أجنحة الريح حظوظ مسارات مغلفة بالقلق وشرارات اللاوعي، المترافقة مع انتظام قدرة العقل على اختيار فصول الانتصار.
لهذا أرادت الكاتبة والروائية نورا محمد المطيري من روايتها «جملون»، أن تظهر عيوب البيئة والمجتمع المغلفة بالقهر والفقر والألم واليأس والغضب والشر الكامن في نفوس البشر، حين القويّ يستغلّ الضعيف، والثري يستعبد الفقير والمحتاج لمآرب خاصة به، وحين حوليات الحياة تحول الطهارة إلى حقد دفين وألم يودي إلى التخلص من الحياة بالانتحار، حين الانتحار حالة ضياع، وحالة جبن حرّمتها الأديان السماوية. هكذا انتهت قصة «جملون» حيث لا مفر من رسم صورة أوضح من قبل الكاتبة لنهاية تراكمت فيها المطبات والعوائق، التي حلّت ببطلة الرواية «آفين»، التي تمثل العديد من الفتيات، اللواتي يقعن ضحية العادات المجتمعية البالية والبيئة التي ولدن وتترعرعن ضمن حوليات شهواتها اللامنضبطة، التي تودي بالنهاية إلى فقدان التوازن العقلي والإيماني، حين تقفل الدوائر ويقوى الانشطار عمودياً وأفقياً، بين واقع مؤلم وحياة أبدية فيها الراحة الموعودة.
يبقى مضمون الرواية في النهاية هو لعبة القدر، وقلة المعرفة، وازدياد الطمع والطموح المبني على الجهل. فالحب عادة لا ينمو إلا في البيئة الخصبة المؤطرة بالتفاهم والإخلاص والإرادة الصلبة الثابتة على الإيمان، الذي يحمل في طياته القناعة التي لا تهزل ولا تميت.
رواية «جملون» لنورا محمد المطيري، رواية فلسفية لواقع مرير، كتبت بأسلوب السرد السهل الممتنع، المجلل بعمق العبارة وجماليّة النصّ المسبوكة جمله ببراعة أدبية ارتبطت بمفهوم واضح لزمان استراح في جوار السماء، شاهداً على عصر ولّى، أرادته الكاتبة صرخة دهر في وجه كل من يشوّه قيمنا وإيماننا بشرائعنا الإلهية، التي ساوت بين الذكر والأنثى في العبادات وطرق الحياة، ولم تبخس المرأة حقها في إبداء الرأي ومواجهة الأمور المصيرية والعادات البالية الموروثة ومن ثم الاعتراض عليها.
* رئيسة ديوان أهل القلم / لبنان