هل بدأ «تعريق» لبنان؟
د. عصامنعمان
في 17 تشرين الأول/اكتوبر الماضي، انطلق في لبنان حراك شعبي عابر للمناطق والطوائف والمشارب. في 19 كانون الاول/ديسمبر تفجّرت داخل الحراك اضطرابات أمنية في مناطق ذات لون سياسي غالب. الحراك كان طابعه الغالب وطنياً وسلمياً. الاضطرابات كان طابعها الغالب مذهبياً وعنفيّاً. جمهور الحراك طالب بإسقاط النظام السياسي الطائفي، ومكافحة الفساد واستعادة الأموال العامة المنهوبة، وإجراء انتخابات مبكّرة على أساس قانون جديد للانتخابات. جمهور الاضطرابات جاهر برفض تكليف حسان دياب تأليف حكومة جديدة وبإعادة تكليف رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري. قوى الأمن واكبت تظاهرات الحراك وحمت جمهوره المشارك، لكنها تصدّت بشدة بالقنابل المسيّلة للدموع لجمهور الاضطرابات غير المتراجع عن استخدام العنف.
لعل الفارق الأبرز بين الحراك والاضطرابات أن جمهور الحراك لم يكن حزبياً بل عابر للمشارب السياسية والايديولوجية والاصطفافات الحزبية، بينما اتسم جمهور الاضطرابات بصبغة سياسية ومذهبية نافرة. باختصار، الحراك تكوينه وطني وأهدافه إصلاحية؛ الاضطرابات تكوينها مذهبي وأغراضها سياسية “حريرية” الهوى والهوية.
هل كان سعد الحريري فعلاً وراء تحريك جمهور الاضطرابات الذي حاصر منزل رئيس الحكومة المكلّف حسان دياب، وقطع الطرقات، وهاجم قوى الأمن، وأطلق شعارات مذهبية نافرة؟ وهل من صلة سببية بين الاضطرابات وزيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية دايفيد هيل لبيروت في هذه الآونة؟
ثمة مفارقات لافتة رافقت اندلاع الاضطرابات وتخللتها وأعقبتها:
الحريري كان أبدى رغبته في عدم العودة الى الحكم ورشّح ثلاثة من أصدقائه لتأليف الحكومة، ثم ما لبث أن أبدى رغبة واضحة في العودة الى رئاسة الحكومة على “أشلاء” مرشحيه الثلاثة المخذولين.
الحريري كان جهر بإصراره على تأليف حكومة من التكنوقراط الاختصاصيين غير السياسيين بغية إقصاء حزب الله عنها، واستبعاد حليفه السابق رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ثم ما لبث أن تخلّى عن موقفه الإقصائي هذا بالموافقة على تأليف حكومة تكنوسياسية، أي مختلطة، من سياسيين وتكنوقراط، مفسحاً في المجال لتمثيل الحزبين المذكورين.
كان حزب القوات اللبنانية (سمير جعجع) الموالي لسياسة السعودية والولايات المتحدة مؤيداً دائماً للحريري، لكنه فاجأ الحريري فجرَ اليوم المحدد للاستشارات النيابية المخصصة لتسمية رئيس الحكومة المكلّف، بإلاعلان عن امتناعه تسمية الحريري ما أوحى بأن السعودية (وأميركا) تخلّتا عنه.
أعلن الحريري عزوفه عن العودة الى رئاسة الحكومة بعدما فَقَد “التغطية المسيحية”، وأوحى بأنه يؤيد ترئيس حسان دياب بدلاً منه، لكنه امتنع وأعضاء كتلته النيابية عن تسميته خلال الاستشارات النيابية التي أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
أعلن شركاء الحريري في حكومته السابقة – التكتل العوني وحركة أمل وحزب الله – تسمية حسان دياب لتأليف الحكومة الجديدة فيما اعلن حليفاه القديمان، تيمور جنبلاط (الحزب التقدمي الاشتراكي) وسامي الجميّل (حزب الكتائب) تسمية نواف سلام.
تبيّن بنتيجة الاستشارات النيابية حصول حسان دياب على تأييد 69 نائباً من مجموع أعضاء مجلس النواب الـ 128، بينهم ستة فقط من السنّة، الأمر الذي أثار سخط جماعة الحريري ودفعهم الى التظاهر وتفجير اضطرابات ومواجهات عنيفة مع قوى الأمن في بيروت وسائر المناطق.
بعد اتضاح أن أنصاره هم محرّكو الاضطرابات ووقودها في آن، قام الحريري بإطلاق دعوة بصيغة تغريدة فريدة: “مَن يحبني يترك الشارع فوراً”.
أنصار الحريري لم يتركوا الشارع بل صعّدوا الاضطرابات ما حمل معارضيه على القول إن المسألة تحتمل تفسيرين: إما أن الحريري يرفض الاضطرابات ظاهراً فيما هو يقف وراءها باطناً، وإما أن انصاره ما عادوا يحبّونه بدليل أنهم لم يتركوا الشارع!
موقف الحراك الشعبي من تكليف حسان دياب تأليف الحكومة الجديدة تكشّف هو الآخر عن مفارقات لافتة. ذلك أن فريقاً منه ارتأى منحه فرصة للعمل وبالتالي لاختباره بدعوى ان الحراك كان يطالب دائماً بضرورة الإسراع بإجراء استشارات نيابية ولا يجوز تالياً معارضة ما انتهت إليه بتكليف دياب قبل تجريبه واختباره. فريق آخر دعا الى رفضه وحاول السيطرة على الشارع مطالباً بإعادة تكليف الحريري تأليف الحكومة. وثمّة فريق ثالث رفضه لكونه وزيراً سابقاً وبالتالي جزءاً لا يتجزأ من الطاقم الحاكم الفاسد الذي يتوجب إقصاؤه برمّته دونما هوادة.
ماذا عن زيارة دايفيد هيل والغرض منها في هذه الآونة؟
هيل حرص على القول إن لا دور للولايات المتحدة في اختيار رئيس الحكومة، داعياً المسؤولين والمواطنين الى تسريع إجراء الإصلاحات الضرورية لتفادي الانهيار الاقتصادي. غير أن ثمّة تفسيراً شائعاً وربما راسخاً في مختلف اوساط الرأي العام هو ان الغرض الأساس لزيارته هو حثّ المسؤولين على القبول بوساطة أميركية بين لبنان و”إسرائيل” برعاية الامم المتحدة بغية اعتماد التسوية الأميركية (المنحازة لـِ”اسرائيل”) بشأن تحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة بما يمكّن الكيان الصهيوني من الاستيلاء على قسم من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية لا تقل مساحته عن 850 كيلومتراً مربعاً.
الى ذلك، يرى خصوم أميركا الكثر في لبنان ان لحضور وكيل الخارجية الأميركية في هذه الآونة غاية أخرى خطيرة هي ترميم العلاقات بين حلفاء أميركا في لبنان وإعادة بناء التحالف في ما بينهم على نحوٍ يجعلهم أكثر قوة وجاهزية في مواجهة المقاومة وحلفائها بدءاً بتكريس إقصاء حزب الله وحلفائه عن الحكومة ومجابهة نشاطه وسياسته بفعالية ومثابرة.
المقاومة وحلفاؤها لا يستغربون البتة أن يكون دايفيد هيل قد حضر الى البلاد بغية تحقيق الأغراض سالفة الذكر، لكنهم يتخوّفون ويتحسّبون لما يمكن أن تتطور إليه سياسة اميركا محلياً وهو تأجيج الفتن الطائفية والمذهبية وصولاً الى تعميم الاضطرابات الأمنية الدموية في جميع أنحاء لبنان “وتعريقه” بمعنى تعميم وضعٍ يحاكي ما يجري في العراق حالياً بغية استنزافه وشلّه.
“تعريق” لبنان هو، على ما يبدو، ما تبتغيه إدارة ترامب الأمر الذي يستدعي أن تكون الاولوية المركزية للقوى الوطنية والتقدمية الحيّة في هذه المرحلة هي مواجهة سياسة أميركا وأغراضها الخبيثة بكل الوسائل السياسية والأمنية المتاحة، وذلك بالتزامن مع بناء جبهة للتكاتف والتضامن في مواجهة تحديات الانهيار المالي والاقتصادي، والعمل تالياً لتحقيق إصلاحات ديمقراطية جذرية على طريق النضال الهادف الى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، وقد آن الأوان.
*وزير سابق.