حين لم يكن للبنان سياج 28 كانون الأول 1968
معن بشور _
في ليل يوم السبت في 28/12/1968، وفيما كانت بيروت تضجّ بالاحتفالات والحفلات التي ترافق الأعياد مع نهاية كلّ عام، أغارت فرقة كوماندوس إسرائيلية على مطار بيروت ودمّرت أسطول لبنان الجوي التجاري التابع لشركة طيران الشرق الأوسط (13 طائرة)، بحجة أنّ عملية فدائية فلسطينية استهدفت طائرة إسرائيلية في مطار أثينا..
لم تجد فرقة الكومندوس الإسرائيلية مَن يقاومها، في عاصمة تحوّلت بعد سنوات إلى واحدة من أعظم عواصم المقاومة في الوطن العربي والعالم، إلا رقيب في الجيش اللبناني أحمد شحادة من إقليم الخروب، تمّ استدعاؤه يومها من قيادة الجيش وطُلب إليه الاستقالة، لأنه أطلق النار دون أوامر.
لم يكن في لبنان يومها مقاومة فلسطينية، ولم يكن بالطبع هناك مقاومة لبنانية، بل كان هناك، كما دائماً، أحقاد صهيونية على بلد شكل بصيغة العيش بين مكوناته نقيضاً للكيان الغاصب، كما شكّل بتمسكه بالحرية أرضاً خصبة لكلّ أفكار المقاومة والتغيير…
الردّ الشعبي اللبناني في ما بعد على تلك الغارة، كان ذا دلالات هامة…
فما أن انتهت عطلة الأعياد المدرسية والجامعية حتى هبّ طلاب لبنان بأسرهم في كلّ الجامعات والمدارس داخل العاصمة، وعلى امتداد لبنان، في إضراب استمرّ ستة أسابيع، وصفه يومها المفكر اللبناني الكبير منح الصلح بأنه “أكثر من انتفاضة وأقلّ من ثورة”، ورأينا طلاباً من الجامعات اللبنانية والعربية والأميركية واليسوعية ينسّقون في ما بينهم، ويحدّدون مطالبهم، ويضغطون على حكومتهم التي استقال رئيسها الدكتور عبد الله اليافي بعد ثلاثة أسابيع على العدوان (19/1/1969) بعد تصريح شهير له هو “كلنا فدائيون”.
تجلّت الوحدة الوطنية يومذاك بأبهى أشكالها، وتجاوز لبنان كلّ الحواجز والعوائق والكوابح الطائفية والحزبية، وأحسّ زعماء الطوائف ومروّجو الفتن، بخطر شديد على مصالحهم من ولادة لبنان جديد متحرّر من العصبيات المريضة، بل من ولادة لبنان مُصرّ على مقاومة العدوان، يدعو إلى التجنيد الإجباري وتسليح القرى الأمامية ومحاسبة المسؤولين عن التقصير…
وفي اللحظة التي كان يسطع فيها نجم لبنان موحّداً عبر شبابه، كان “زعماء” أحزاب يجهّزون لإثارة الانقسام من جديد بين اللبنانيين، ويدعون إلى التسلح لمواجهة “الخطر الفلسطيني”، متناسين الخطر الأصلي وهو الخطر الصهيوني الذي وصل به الأمر إلى حدّ احتلال ثلث الأراضي اللبنانية بما فيها عاصمته بيروت بعد سلسلة من الاعتداءات توّجها بغزو عام 1982، وحصار العاصمة الذي استمرّ ثلاثة أشهر بعد أن تعدّدت غزواته على لبنان على مدى سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
وما استحضارنا اليوم لهذه المحطة التاريخية في حياة لبنان إلاّ للتأكيد على جملة معانٍ ودروس مرتبطة بها.
أول هذه المعاني والدروس أنه في كلّ مرة كان يظهر فيها اللبنانيون، وخصوصاً شبابهم، موحدين تنبري جهات طائفية ومذهبية ومرتبطة بأجندات خارجية، لتشويه هذه الوحدة وإعادة اللبنانيين إلى المربعات الأولى للانقسام، ويتمّ استحضار كلّ العصبيات التي تخدم هذا التشويه.
ثاني هذه المعاني والدروس أنّ شباب لبنان الذين برزوا موحّدين بأبهى صورهم، يؤكدون دوماً أنهم براء من العصبيات الطائفية والمذهبية المريضة، وأنهم حريصون على التأكيد على وحدتهم في أيّ مناسبة وطنية أو اجتماعية أو مطلبية، وهو ما تجلى بالعديد من الحراكات الشبابية التي عرفها لبنان، لا سيّما في مسيرة السلم الأهلي ورفض الحرب في 9/11/1987، التي ضمّت مئة ألف لبناني من شطري العاصمة على معبر المتحف مندّدين بالحرب الأهلية، وكذلك في المسيرات التي دعت إليها هيئة التنسيق النقابية، وفي تظاهرات عام 2011 الأسبوعية المطالبة بإسقاط النظام الطائفي، أو بمسيرات الاحتجاج على أزمة النفايات وغيرها في عام 2015، وصولاً الى الانتفاضة الكبرى في عام 2019، والتي رغم كلّ ما انتابها من شوائب، تبقى واحدة من أهمّ المحطات النضالية التي عرفها لبنان المعاصر.
وثالث هذه المعاني والدروس أنّ لبنان الذي كان مستباحاً على مدى عقود من العدو الإسرائيلي، عدواناً وغزواً واحتلالاً، بات اليوم محصّناً تماماً، بل بات العدو يحسب للبنان ألف حساب قبل أن يفكر بأيّ اعتداء عليه، مهما كان صغيراً..
وما كان ذلك ليتحقق، وتصبح غارات مثل غارة 28/12/1968، من الماضي السحيق، لولا ولادة مقاومة لبنانية، وطنية وإسلامية، بدأت أولاً في القرى الحدودية (العرقوب، بنت جبيل، كفركلا، الطيبة، حولا إلخ…) في أواخر الستينيات من القرن الماضي، وتنامت حتى كان الغزو في 1982، حيث استطاعت المقاومة أن تحرّر الأرض دون قيد أو شرط عام 2000، وأن تردع العدوان نهائياً عام 2006، وأن تصنع مع الشعب الصامد والجيش الوطني الباسل معادلة ذهبية باتت تحتذى في كلّ بلد يواجه احتلالاً أو عدواناً.
في 28 كانون الأول 1968، كان لبنان دون سياج، وكان الإسرائيلي يتحدّث أن احتلاله لا “يكلّف أكثر من نزهة نسائية على دراجات هوائية”…
وإذا كانت معادلة “الشعب والجيش والمقاومة” قد أمنت السياج الخارجي للبنان، فالمطلوب قيام معادلة “التنمية والعدالة ومكافحة الفساد” لبناء السياج الداخلي لوطن يحاولون إدامة الحواجز بين أبنائه..
28 كانون الأول 1968، يوم تاريخي في حياة لبنان، ما زالت دروسه ومعانيه حاضرة في وجدان كلّ الشرفاء.
_ الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي