أزمة الحراك والقوى الوطنية ومأزق الجميع
} إبراهيم ياسين
بعد أكثر من شهرين على اندلاع الإنتفاضة الشعبية العفوية ضدّ السياسات الإقتصادية والمالية والإجتماعية التي أغرقت البلاد في الديون والعجز وأفقرت اللبنانيين، انحسر الحضور الشعبي فيها بنسبة كبيرة عما كان في بدايته، فانتقلت الإنتفاضة العفوية من الحالة الشعبية الواسعة في أيامها الأولى، لتتحوّل إلى حراك بدأ تدريجياً يشهد تراجع المشاركة الشعبية العفوية فيه حتى طغى عليه الآن ما يشبه الطابع الحزبي المنظّم، إنْ كان من قبل الأحزاب السياسية يميناً ويساراً ووسطاً، أو كان من قبل المجموعات المدنية المتأمْركة أو المستقلة. هذا التحوّل في حركة الإنتفاضة لم يقتصر فقط على الطابع الشعبي لصالح تغليب الطابع الحزبي والمنظم، إنما شمل أيضاً الشعارات والممارسات العملية، وصولاً إلى تبدّل طبيعة المطالب، وظهر ذلك من خلال الوقائع التالية:
1- على مستوى الشعارات والمطالب شهدت تبدّلاً عن مطالب الناس العفوية التي كانت تتناول أو تركز على القضايا الإقتصادية والمالية والمعيشية وحالة الفقر والحرمان وحالة البطالة وإرتفاع كلفة الحياة اليومية، وكذلك التركيز على الثراء الفاحش لدى بعض أطراف الطبقة السياسية والفساد المستشري في كلّ مؤسّسات الدولة وحماية الفاسدين من أيّ محاسبة على صفقاتهم لصالح حلول شعارات سياسية إبتعدت شيئاً فشيئاً عن هذه القضايا التي تهمّ المواطنين، لتسود شعارات تدعو إلى إسقاط المؤسسات التنفيذية والتشريعية والعهد وصولاً إلى حصر المطلب السياسي بعد استقالة حكومة الرئيس الحريري، بالدعوة إلى تشكيل حكومة من التكنوقراط مستقلة خالية من الأحزاب أو حكومة حيادية من الاختصاصيين، ولا مانع بأن يرأسها الرئيس الحريري أو أي شخصية «مستقلة» وهو الشعار الذي ينسجم تماماً مع المطالب الأميركية الهادفة إلى إقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة التنفيذية، وتحويل الحكومة إلى أداة لتنفيذ الإنقلاب السياسي الأميركي الذي يمكّن حلفاء واشنطن من استعادة الغالبية النيابية عبر إجراء إنتخابات مبكّرة وفْق قانون مفصّل على قياسهم.
2- على مستوى الممارسات: أيضاً حصل تبدّل من الممارسات العفوية إلى ممارسات تأخذ طابعاً منظّماً تدرّج من إطلاق مواقف متطرفة ذات طابعٍ لا يخلو من الشتائم والعبارات البذيئة التي تستهدف شخصيات وطنية للنيْل منها، إلى قطْع الطرقات ومنع الناس من التنقل والذهاب إلى أعمالها وشلّ حركة الإقتصاد بهدف مفاقمة الأزمة، واستخدامها وسيلة ضغط لفرض المطلب السياسي «المذكور آنفاً»، وصولاً إلى عودة ظاهرة الحواجز الميليشيوية التي تفتش على الهويات، ما ذكّر اللبنانيين بفترة الحرب الأهلية وممارساتها… إلى جانب إستخدام العنف ضدّ الجيش والقوى الأمنية، وإثارة الشغب في الشارع، إلى التخريب الذي أصاب بعض المؤسسات العامة والخاصة. كلّ ذلك كان يندرج في محاولة تصعيد الأزمة ومحاولة إثارة الفتنة أوالتهديد بها، لتحقيق أهدافها.
3- مستوى الإستغلال السياسي: أيضاً، بعد الأيام الأولى للإنتفاضة وانتقالها إلى حراك منظم، طغى الإستغلال له من قبل أطراف قوى 14 آذار وعلى وجه الخصوص القوات اللبنانية وحزب الكتائب والحزب التقدمي الإشتراكي وتيار المستقبل… الذين كانوا عند كل منعطف في الأزمة يلجأون إلى الإيعاز لمجموعاتهم المنظمة للقيام بقطع الطرقات وشلّ البلاد، وأيضاً بعض المجموعات المنظمة التي تتلقى توجيهاتها من قبل السفارة الأميركية وقد جرى تدريب النشطاء فيها مسبقاً، ليكونوا قادرين على قيادة الإحتجاجات على غرار ما حصل في الثورات الملوّنة المدعومة غربياً في دول أوروبا الشرقية وأوكرانيا وغيرها من الدول التي تسعى فيها الدول الغربية بقيادة واشنطن لتغيير الأنظمة فيها لصالح بناء أنظمة جديدة تابعة لها وتنفذ استراتيجيتها. وكما كان واضحاً الإستغلال الغربي الأميركي للحراك من خلال المواقف والشروط التي أعلنها المسؤولون الأميركيون والغربيون، لا سيما لناحية مطالبة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو بإقصاء حزب الله عن المشاركة في السلطة، وحتى إخراجه من لبنان، ومطالبة إجتماع باريس للدول المانحة بربط تقديم المساعدات المالية للبنان بتشكيل حكومة تنفذ إصلاحات «سيدر» وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تستهدف تكريس تبعية لبنان للنظام الرأسمالي الغربي.
في مقابل هذا التحوّل في الإنتفاضة الشعبية عن طابعها الجماهيري العفوي وعن مطالبها الإقتصادية والإجتماعية، وركوب موجة الحراك من قبل الأطراف المنضبطة بالخطة الأميركية الإنقلابية، لم تنجح القوى الوطنية في الحراك وخارجه من توحيد رؤيتها وموقفها وشعاراتها لقطع الطريق على استغلال القوى اليمينية المتأمركة لأزمات اللبنانيين والتي هي من سبّبها وفاقمها نتيجة النهج الاقتصادي الليبرالي الريعي الذي اعتمدته الحكومات الحريرية منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
فالقوى الوطنية عدا عن كونها مفتتة ومنقسمة تطرح ولا تزال مطالب سياسية تدعوإلى تشكيل حكومة وطنية إنتقالية تحظى برضى الإنتفاضة وتضطلع بمهام واضحة وصلاحيات إستثنائية لمدة محددة وتكون من خارج المنظومة السياسية والإقتصادية الحاكمة. وتتولى هذه الحكومة مهمة إجراء جردة لوضع الدولة المالي بما يشمل كافة مؤسّساتها ومعالجة تبعات الانهيار المالي والاقتصادي للحؤول دون الانزلاق إلى الانقسام الأهلي والفوضى، فضلاً عن مواجهة المخاطر الداخلية على الأمن والاستقرار والحريات العامة ومواجهة المخاطر الخارجية لا سيّما الصهيونية منها…
لكن هل هذه السلطة ستسمح بإنشاء حكومة من خارجها… أم أنها ستدافع عن نفسها وعن مصالحها حتى الرمق الأخير، أيّ هل ستتخلى الطبقة السياسية عن السلطة وتسلمها لحكومة وطنية من الحراك، وهذا مطلب لا أظنّ بأنّ السلطة تقبل به وهو غير واقعي لأنه يحتاج إلى ثورة لها قيادة موحدة وبرنامج تغييري، تقلب النظام وتسيطر على السلطة وتحكم وتنفذ برنامجها، وهذا غير قائم وغير متوفر حالياً لأننا لسنا أمام ثورة لعدم توافر الشروط المذكورة آنفاً، كما أن موازين القوى ليست لمصلحة القوى الوطنية المنقسمة أساساً في الحراك، فلا تزال أحزاب السلطة السياسية تمتلك تأييداً شعبياً واسعاً يتجاوز حجم المشاركين في الحراك، فيما الحراك نفسه مكوّن من أكثر من 100 مجموعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار… فيها الوطني واليميني، الطائفي والمذهبي والعلماني والمجموعات المتأمركة…
أمام هذا الواقع، من الطبيعي أن يصل الحراك إلى مأزق نابعٍ من طبيعته وطبيعة موازين القوى في البلاد، وعدم واقعية بعض الشعارات السياسية يميناً ويساراً، فلا القوى اليمينية التي تنفذ الأجندة الأميركية قادرة على تنفيذ الإنقلاب السياسي على مستوى السلطة، ولا القوى الوطنية أساساً قادرة على تحقيق أيّ مطلب من مطاليبها بسبب عدم واقعية بعض ما تدعو إليه وأيضاً لأنّ موازين القوى ليست لمصلحتها… لذلك الأزمة مستمرة ولا خيار أمام هذا الواقع من توازن القوى، سوى العودة الإجبارية إلى تشكيل حكومة على أساس دستور الطائف، أيّ التوازنات التي يشكلها مجلس النواب وهذا يعني العودة إلى حكومة الشراكة بإتفاق جميع الكتل، وهذا ما تدعو إليه الأغلبية النيابية في البرلمان لتعطيل مخطط الإنقلاب الأميركي على المعادلة السياسية التي أنتجتها الإنتخابات النيابية الأخيرة.
إنّ الإستمرار في رفض تمييز هذا الحراك أو الإنتفاضة عن الأطراف الداخلية والخارجية التي تعمل على حرفه عن مساره وتوظيفه في خدمة أجنداتها السياسية، إنما يسهم، من حيث لا يدري في خدمة هذه الأطراف وتمكينها من إجهاض إنتفاضتهم العفوية لتخلّف بعد ذلك شعوراً بالإحباط…
إنّ أيّ إنتفاضة عفوية لا ترتقي إلى مستوى تنظيم نفسها وبلورة مطالبها وأهدافها الواقعية العقلانية القابلة للتنفيذ والضغط، إلى جانب خوض التفاوض، لأجل تحقيقها، فإنها ستبقى قاصرة، وقد يجري إجهاضها من قبل القوى المتضرّرة منها…
أما القوى الوطنية فعليها أن تعيد النظر في رؤيتها للأزمة وقراءتها للواقع حتى تستطيع أن تكون قادرة على بلورة إطار وطني فاعل يستطيع أن يؤثر في سياق النضال لتحقيق المطالب الممكنة في الظرف الراهن على طريق تحقيق التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مستوى النظام اللبناني.