إبحار في ظلال حلم فاطمة الحسن!
} محمد رستم*
وسمت الشاعرة فاطمة الحسن ديوانها «ظلال الحلم» وهو ثالث قطاف لها على الورق بعد ديوانيها «تقاسيم وطن ونسيم الروح»، وفي تسميتها «ظلال الحلم» سارعت إلى تقديم الخبر بعد أن أخفت المبتدأ في عباءة الغياب على تقدير القصائد أو الديوان، ولكي تزيد الأحلام شفافيّة ألقت عليها شيئاً من الظلال مما يُدخلنا عالم البهائيّة الجماليّة المستوطنة في الخيالات والعتبة النصيّة للديوان تحدّد هويته الإنسانيّة. فالحلم ميزة إنسانيّة بحتة وهو الخطوة الأولى في طريق الحياة المفعمة بالحركة والنهوض. وما الشعر إلّا محرّك فاعليّة خلق الأحلام كي تفتّح براعم الجمال في سهوب الواقع. فيحثنا الشعر على خلق أحلام معلّقة إن لم يكن لدينا في الواقع جسور معلّقة.
ولعلّ المحاور الأهم في الديوان هي، محور العلاقة بين حواء وأدمها ومحور الهمّ الوطني ومحور المشاعر الإنسانيّة والأحلام.
وترى الشاعرة أنّ العلاقة بين حواء وأدمها قائمة على التكامل. إنّها تكتمل به ويكتمل بها تحت شرطيّة جهة العشق الواحدة، وبذلك تحدّد مكانة الأنثى في مدارات الوجود. فنسمعها تهمس للرجل، افتح جرح المسافات، واشتقّ عبير روحي، تدرك ليلاً مقمراً آتياً، وتدعوني ربة الشوق، أسطورة الكلمات… وبالمقابل تؤكّد مكانة الرجل في الكون الإنساني. أنت قبلُ الشواطئ… منارات الأيام، موانئ الأحلام.
سجعها الجميل أنت…
وفي حالة من التماهي بين ضفتي الحياة «حواء وآدم» تقول: «أعد صياغتي.. اغزلني كما تشاء الأساطير.. وتدعوه للحوار الدائم.. فهو المختلف عنها تكويناً…».
تقول: «أنا وأنت عطران مختلفان.. حاورني كما المطر.. وذر الخريف.. واختر لنا هوامش تليق بسماء مقمرة». وترى في الأنثى كامل البهاء حين يتجسّد صلصالاً
فهي اللّازمة في نشيد الخشوع، والفاتحة في صلاة التراويح، ولأنّ العشق هو الكتاب الأقدس الذي تنبض بحرفه شرايين الإنسان كان لقاؤها بآدم هو اخضرار الربيع، وإعادة صياغة الفصول على أنغام الوله… تقول:
«واعلم أنني بلغت فيك الربيع
ومن مشاعرها الإنسانيّة تتناول جانب الأسرة
إذ تجد ذاتها في ابنتها بل ترى فيها وجهها المضيء
ما زلت أقلّب صفحات روحي
فأراك تحملين وجهي المضيء
نبضي المتسارع شمسي المتوّجة».
وحين يصمّ أذنيها طنين الألم تفيض مشاعر الحزن فتبدو الشاعرة كابنة شرعيّة للوجع… تصرخ:
«لا الليل الحالك
لا الأحلام
ولا حتى السلام المفعَم الصيت يلغي كنه الحزن».
وحين ترخي آلام الواقع بصقيعها على نبض الشريان، يستبيحها الألم وتفيض خوابي عالمها الداخلي حزناً… فتلوذ بالشكوى من حياة منقوصة النبض، كل الأحلام فاتها رصد كواكبها، شيء يخالف التأويل. حتى كوكب الحظ السعيد اختار مجرة الآلام الطويلة.
وعن وطنها الذي اكتوى بلهيب المؤامرات تقول:
«كنّا الضحايا التي فاتها وشم القصائد
صدئت بياراتنا يا أمّاه».
والحلم عند شاعرتنا يتماهى مع الأمنيات ليشكّل هاجساً ملحاً دائم الحضور، في العالم الشعري للشاعرة فاطمة الحسن اذ يرد بأشكال مختلفة، لأنّه ترجمة لصهيل الرغبة الداخليّة وتوقٌ عالٍ لفجر ربيعيّ يلوح في الأفق… وهو بالتالي ترجمة لطموحات الأنا الجمعي المتماهي مع الأنا الفردي.
تقول: «أين أحلامي أيها المسافرون.. نحن موبوؤون بالأمل.. الأحلام رقدت تحت الطين.. أخرج تذكرة لحلم عابر».
والشاعرة تجيد الإمساك باللحظة التي تسدّ عليها مسارب الفرح، فالقصائد لديها بوابات تنفتح على عالمها المملوء وجعاً وبحضور قويّ للبعد الشعوري. فتبدو قصائدها حماماً زاجلاً مغمّساً بالألم ولأنّها كغيرها من الشعراء ممن يحملون شرف الكلام السامي فإنّها ترى شلالات النور وسط عتمة الدرب.. تقول: «مشيئتي أن أدوّن قصائدي على مطالع النهار.. وأن أسرق للجياع طعم فرح مدبّر».
ومن الملاحظ أن الجملة الشعرية لديها فيها من إشارات المرور ما يستوقف المتلقي فهي مفعمة بالدلالات مغمّسة بعطر المشاعر بعيداً عن الوقوع في ضبابيّة الانزياحات، وإن مارست أحياناً فن الاختباء داخل زوايا الانزياحات وركبت موجة اللغة الزئبقيّة التي لا يمكن الإمساك بحقيقة مدلولاتها وكأنّها الحلم العابر للزمن. كما في قولها: «آلهة النسيان توالي استدراك النداء
كل رموز الحب
السحب البيضاء
الرغب المستحيلة
الكيانات الجميلة للحزن
الفراغ المحتوم من جدوى الحلم
والانتظارات الطويلة على مبكى أوثاننا المقدّسة».
الشاعرة تجيد بناء الوحدة العضويّة للقصيدة النثريّة بمهارة واضحة لتؤكّد انتسابها إلى أسرة الشعر انتساباً حقيقيّاً ونلحظ تطور تجربتها الشعريّة من خلال مقارنة بسيطة بين ديوانيها الأول والثالث، مما يؤكّد أنّ خيول طموحاتها غير قابلة للترويض إذ تنتظرها آفاق لا تحدٍّ.
*كاتب سوري.