رسالة أثيرية
} الرفيق يوسف المسمار*
استوحيت عبر الأثير من رسالة رفيقتي وزوجتي لي بعد رحيلها بأسبوع عن عالم الوجود المادي هذه الخواطر التي تجعل حضور الانسان – الفرد العاقل المحب للحياة اذا كانت بالعز و»المحبّ للموت متى كان الموت طريقاً الى الحياة العزيزة» حضوراً دائماً فيكون حضوره في الإنسان – المجتمع مستمراً حتى ولو رحل وغاب عن هذا الوجود.
فالوجود الذي ليس له حضور هو الوجود الفاني مهما طال أمده، أما الوجود الحاضر على الدوام فهو الوجود الباقي. وهذا لا يكون ولا يتحقق الا بوجود الإنسان – المجتمع الناهض الذي ينهض بالحياة ويرفع مستوى الحياة بقدر ما تستطيع مواهبه ومؤهلاته ومزاياه وقدراته على ترقية الحياة الانسانية وتحسينها والصعود بها الى المراقي.
فالموت ليس نهاية الحياة، بل الموت جزء متمم للحياة، وبقدر ما تكون الحياة سامية يكون أيضاً الموت سامياً. ومن طبيعة كل نفس إنسان – فرد أن تذوق الموت كما تذوقت الحياة كما ورد في القرآن الحكيم:
«كل نفسٍ ذائقةٌ الموت» وليس لسنة الطبيعة التي أوجدها الله تغييراً ولا تبديلاَ.
أن من طبيعة الفرد الإنساني أن يولد، ومن الطبيعي أن يموت. وكما أن من طبيعة الوجود الإنساني أن يكون مجتمعياً، فان من الطبيعي أن يكون البقاء الإنساني بالمجتمع. وما دام الفرد جزءاً من المجتمع، فالفرد لا يفنى وإن مات بل يبقى ويستمر في المجتمع ببقاء المجتمع واستمراره كما هو في عقائد الأمة السورية عبر تاريخ حضارتها، كما عبر عن ذلك سعاده في خطاب أول آذار عام 1949 بقوله:
«الموتُ ليـــس فناءً لأن الفـــرد جــزءٌ لا يتجــزأ من المتحـــد الاجتـماعي، والمتحــد الاجتماعي لا يزول لأنــه خالد بخــلود الأرض ودائم ديمومة صنعه للتاريخ، والجســد إن عاد للأرض فهـــو يمدّها بطاقــةٍ جديــدة للنهــوض لأن قـــدر ســورية هو النهضة الدائمـــة، وقوة الحق تزداد قوةً كلما زاد وعيُ الإنسان الفرد لأمته، وكلما زاد وعيُ الجمـــاعة لإرادتــها، وإذا كانــت المواهب التي مدّنا الله بها، هي سبيل لتحقيق هذه الإرادة…».
نـهـرُ الحيـاة الدائم التدفق
لا تحـزَننَّ عـلى رحيـلِ أحـبَّـةٍ
إن الـرحـيـلَ تَحـوُّلٌ وتَـطـوُّرُ
نهـرُ الحيـاةِ تَـمَـوُّجٌ متعاقـبٌ
مـوجٌ يغـيـبُ وآخـرٌ يتـفـجـرُ
لغـزُ الخليقةِ كامنٌ بـرحيـلـنا
حارَ الجهولُ ومثلهُ المُتَبحِّـر
لا يعلمُ السرَّ الخفيَّ سوى الذي
خلقَ الحياة وكلَّ ما لا نُبصِرُ
فلما التـأوُّهُ والبكاءُ وعُـمرُنـا
بيدِ القديرِ وما بـنا لا نشعـرُ
فالموتُ من نِعَمِ الإلهِ ولطفهِ
مثل الحياة لو اهتدى المُتفكـرُ
لولاهُ ما انكشفَ السـتـارُ عن
الغيوبِ ولا انجلى سِرٌّ ولا متسترُ
مفـتاحُ اسـرارِ الحـيـاةِ جميعها
في الموت لو ندري فهل نستعبرُ؟
نأتي الى الـدُنـيـا وليس أمامنا
إلاَّ الرحيـلُ قُـدومَـنا يستنظـرُ
كـلُّ الخليقـة في رحيـلٍ دائـمٍ
ما دام تجـديـدُ الحيـاةِ يُكَـرَّر
فإذا انتهى زمنُ الرحيلِ تيبّستْ
في الناسِ أوردةُ الحياةِ وبُعثروا
سرُّ الحياةِ لكي تظـلَّ خصيـبة
في الموتِ يكمنُ واللبيبُ يُفَسِّرُ
فإذا الحيـاةُ تمـيَّـزَت بنضـارةٍ
فالموتُ يسمو بالنضارِ ويعطرُ
ولـذا الحيـاةُ نضارُها بسُمّـونـا
وبه المنونُ الى التسامي معـبرُ
سيان نُبحـرُ في السموِّ بموتـنا
أو نعتـلي قِـممَ الحياةِ ونُـبحـرُ
فلقد عشقنا الموتَ في طلبِ العُلى
وعلى العُـلى تقفُ الحياةُ وتُـنذر
أرقى الرقيِّ بأن نُجَمّـِل عُمـرَنا
فَـنُجَـمِّل المـوتَ الذي به نكـبـرُ
لا تحزنوا ان جاءَ يومُ رحيلكم
لولا الرحيل لما استفاقَ مكابـرُ
فالموتُ يقظةُ كلِّ من عَبَدَ الهُدى
والمـوتُ فَـوزٌ للبصيـرِ وأكثـرُ
فَـبِـنا الجدودُ الغابرونَ تجددوا
وبِـمَـنْ يجيءُ بإثـرنا نتطـورُ
نهـرُ الحياةِ تَـفَجُّـرٌ مُتـدفِّـقٌ
أبـداً يُبرعمُ في الأثيرِ ويزهرُ
ويظلُّ مندفعاً ليحتضنَ المدى
ما شـاءَ ربُّ العالمينَ الأكبرُ
أمـواجُه الناسُ الذينَ تدافعـوا
وعلى المسيرةِ للنهايةِ أُجبروا
بعضٌ يعيشُ وفي المعيشةِ موتُه
والبعـضُ ماتَ وما يـزالُ يُـؤَثِّـرُ
خيرُ الخليقةِ مَن يسيرُ على الهُدى
ويَظَـلُّ في فلك الهُـدى يَـتَعَـبقَـرُ
لا يَرهبُ الأهوالَ أو يخشى الردى
غـيـر الحياةِ وعِـزَّهـا لا يَـنظـرُ
فالعُـمـرُ يُـثـمِـرُ بالمودةِ والعـطا
وبغيـرِ حُـبٍّ لا يجـودُ ويُـثـمِرُ
فإذا انتهت روحُ المودةِ ينـتهي
معـنى الحياة وكُـلّ حَيٍّ يَـفـتُـرُ
والحيُّ مُجتمعٌ تَـمرّس بالهُدى
وعلى العطاء وكلِّ ما يستنفرُ
ليدوم مجتمعُ الفضيلةِ زاخـراً
بالحُبّ في فلك التسامي يُبحِـرُ
سرّ الزهور بعطرها وأريجها
وبغير عطرٍ لا تـدومُ وتُـذكَـر
فاستلهمي يا نفسُ آياتِ السمـوِّ
فليسَ في غير التسامي مَعـبَـرُ
فالموتُ في طَلَبِ التسامي عزّةٌ
مثـل الحيـاةِ بِـعِـزِّهـا نـتَحَـرَّرُ
فلنختر الموتَ الجميلَ فليس في
الموتِ الجميلِ سوى الحياةِ تُطَوَّرُ
سيّان للأخيارِ أن يحـيـوا وإن
ماتوا ففي الحالين ذكـرٌ عاطِـرُ
نَهـرُ الحيـاةِ تَـدَفُّـقٌ مـتـواصلٌ
إنْ جَـفَّ بنـيـانُ الحيـاة يُـدَمَّـرُ
يا أيها الإنسانُ فـرداً كُـنْ كـما
روح الحقيقة في الجماعةِ تَعمرُ
فالفـردُ في نهـرِ الجماعة عامرٌ
والفـردُ من دون الجماعـة عابرُ
نهـرُ الحياةِ على الـدوامِ تَـدافُـعٌ
أبـداً الى مـا لا يُـطـالُ مسـافـرُ
سـرُّ الحيـاةِ بفجـرها ومسائهـا
وبـلـيـلهـا ونهـارهـا يَـتَـسَـتَّـرُ
لن يعرفَ اللغزَ العميق سوى الألى
بسلامـةِ العـقـلِ المُحِـبِّ تَـبَصَّـروا
لا تحـزنـنَّ على الـرحيـل فإن في
سرِّ الرحيـل مِنَ الشـرودِ تَحَـرُّرُ *شاعر قومي مقيم في البرازيل