العنونة والقفلة في القصة الوجيزة
} د.دريّة كمال فرحات*
تستند القصة الوجيزة إلى سمات تميّزها عن غيرها من الأنواع، وانطلاقًا من التّنظير الذي يقوم به ملتقى الأدب الوجيز لتأصيل هذا النّوع، فلا بدّ من التطبيق، ومن خلال التّحليل نصل إلى تثبيت هذه المفاهيم. وسنحاول في هذه المساحة المحددة لمقالنا أنّ نقدّم تحليلاً لأربعة نماذج لقصص وجيزة من نتاج مبدعين من تونس، وسنلقي الضّوء على أمرين العنوان والقفلة.
إنّ دراسة العنوان من الآليات التي اهتمّت بها الدّراسات السّيميائية، يقول جيرار جينت بأنّ العنوان مجموعة من العلامات اللسانيّة يمكن أن توضع على رأس النص لتحدّده، وتدلّ على محتواه، ويساعد ذلك على إغراء الجمهور المقصود بقراءته. وما يميّز العنوان أنّه يُخفي أكثر مما يُظهر، وهو بذلك يثير المتلقي ليستحضر الغائب في العنوان.
ومن هنا يمكن القول إنّ العنوان هو من أهم العتبات النّصيّة التي توضّح دلالات النّص، واكتشاف معانيه الظاهرة والخفيّة، من خلال التفسير والتّفكيك والتّركيب، وعليه يُشكّل العنوان المفتاح القادر على فهم النّص، وسبر أغواره. وقد حدّد جيرار جينيت وظائف عديدة للعنوان منها الوظيفة التعيينيّة/التسمويّة، والوظيفة الإغرائيّة، والوظيفة الوصفيّة والوظيفة الدّلاليّة الضمنيّة، وقد تتحقّق هذه الوظائف كلّها في عنوان واحد، بحيث يصف المحتوى، ويوحي بأشياء أخرى، ويُغري المتلقين بالقراءة.
وانطلاقًا من هذا الدور الذي تشغله عناوين النّصوص، وخصوصًا في الدّراسات الحديثة، فقد نالت اهتمام النّقاد، وحرص الكتّاب والأدباء في حسن اختيار العنوان الذي يكون قادراً على إثارة تساؤلات القارئ، ولا يلقى الجواب عنها إلّا في نهاية النّتاج الإبداعيّ. ومن هنا بات العنوان في النصّوص الحديثة حاجة أساسيّة وليس زينة أو تعبئة فراغات. وهذا ما يدفع الأدباء إلى الاهتمام باختيار عناوين نتاجاتهم، فيحرصون على اختياره بما يتناسب مع المضمون وما يجعله جذّاباً يشدّ المتلقي إلى قراءته.
وإذا عدت إلى القصص الوجيزة المراد تحليلها، ألمح فيها ما يثير إلى قضايا عديدة في اختيار العنوان، فهو يجب أن يكون ذا صلة بمتن القصة، من دون أن يكشف القصة وفي الوقت نفسه لا يكون غامضًا، فيحتاج المتلقي إلى عمق في التّفكير وقدح الذهن للوصول إلى الغاية، ولعلّ القصة الموسومة بـ»قناص» للكاتب عبدالله الواحدي، تحقّق ذلك:
«ذهبت الحكاية إلى السوق لتتبضع شخصيات، ساردها يلتقط المفارقات ويتجنب الرطانة، اِستهوته فتاة ريفية تبيع دجاجة، اِبتاعها منها، تبعها إلى عتبة بيتها باحثاً عن الدهشة».
فهذا العنوان المكوّن من كلمة واحدة، يحيلنا بدلالته إلى القناص الذي تعوّد عليه المتلقي في الحروب، أو لعلّه القناص الذي يصطاد الطّيور، لنكتشف أنّه قناص من نوع آخر، هو يبحث عن فريسة دسمة لمادته السّرديّة، واللافت أنّ العنوان قد جاء اسماً نكرة، وهذا الابتعاد عن التّعريف يفتح المجال، فلا تنحصر الدّلالة في قناص محدّد.
ومن العناوين الجيدة التي يستند اختيارُها إلى التّضاد ما يخلق المفارقة في القصة، وهو بذلك يُسهم في كسر التّوقّع، وقد نرى ذلك في قصة «حياة» للكاتب إدريس البيض:
«سألني صغيري عما يحزنني، أطرقت قليلاً قبل أن أجيب:
منذ عشرين عاماً ونيفاً، وفي مثل هذا اليوم قضى رفاقي حتفهم جميعاً على يد قرش أبيض، خيّرنا بين الطحن تحت أنيابه،
وبين دغدغة زعانفه اللزجة.
– وأنت ماذا فعلت يا أبي؟».
فالعنوان ينفتح على مفهوم فرح فيه الحياة والأمل، وينطلق السّرد إلى عالم الموت والحزن، لنكتشف المفارقة بين موقفين موقف المضحّي وموقف المتمسّك بالحياة. ونلاحظ هنا أيضاً أنّ العنوان قد تكوّن من كلمة واحدة/ اسم نكرة، فلم يعرّف الكاتب كلمة حياة، ما يترك المجال مفتوحاً أمام المتلقي لتحديد نوعية هذه الحياة.
من المهم أن يحيل العنوان إلى مضمرات في ذهن المتلقي، فقصة «كاشفة الألغام»، للكاتب حسن برطال، تدفع القارئ إلى البحث عمن سيقوم بهذا الدّور ليتبين أنّه الحماة، التي كشفت ما يمكن أن يسبّب ألغاماً في العلاقة الزّوجيّة، وقد يؤدّي إلى تدميرها. واللافت أنّ العنوان جاء مسانداً يعمل على إيصال العلاقة بين القراءة والنّصّ بأعلى درجة من التّفاعل. واعتمد كاتب القصة على عنوان مكوّن من كلمتين تعتمد الإضافة:
«تأخر الإنجاب… الحماة تعثر في غرفة الزوجين على (أشياء غريبة) فتُبلغُ عن عملية السحر والشعوذة… على وجه السرعة تمّ استدعاء الزوج من قِبل الضابطة القضائيّة ليستلم عازلاً طبيًا وأقراص منع الحمل..».
وفي قصة «لوحة» يرسم الكاتب عمر دغرير الوضع العربيّ المؤلم الذي يحرص زعماؤه على التّمسّك بالسلطة، وقد قدّمت هذه القصة الوجيزة مغزىً سياسيًّا مهمًّا:
«قال وهو يتابع نشرة الأخبار في التلفاز:
هل تصدق أن بيكاسو أصله عربيّ؟
ـ مستحيل…
ـ ولماذا مستحيل؟
ـ بيكاسو قاد شعباً عظيماً من خلال لوحة…
ضحك وقال: والعربيّ أباد شعبًا عظيمًا من أجل لوح..
ـــ عن أيّة لوحة تتحدث؟
ـــ الكرسي…».
أمّا في اختيار منتج النصّ لعنوانه، فهو قد جاء اسمًا مفردًا نكرة، لكنّ الملاحظ تكرار العنوان في متن القصة ثلاث مرّات، وهذا التّكرار ليس في صالح القصة الوجيزة، وربما يكشف النّصّ من خلال التّكرار، مع خروج المتلقي باستغراب كيف سيكون بيكاسو عربيّ الأصل وهو لم يكن متعلّقًا بالكرسي التي تعلّق بها العربيّ، إضافة إلى أنّ لوحة بيكاسو وأعتقد أن المقصود هو لوحة «جرنيكا» جعلت النّاس يفكّرون في أسلوب الحياة والطريقة التي يقضون بها، أي لها بعدها الإيجابي، لكن قد نقول إنّ ختام القصة ترك للمتلقي مساحة حرية وفسحة تفكير ليربط الفكرة ويكتشف الرّمزيّة.
وانطلاقاً من قفلة القصة السّابقة نرى أنّ القفلة أو الخرجة، مهمة في تركيب القصة الوجيزة، التي يجب أن تعتمد الدّهشة والمفاجأة للمتلقي، وأن تكون بعيدة من الرّتابة والاستهلاك، وقد تنوّعت أنماط القفلة وتعدّدت أصنافها، لكنّي أرى أنّه من المهم أن تعتمد المفارقة، وأن تجعل النّصّ مفتوحًا على أبعاد مختلفة، وأن تسمح بدائريّة النصّ.
ففي قصة حياة، اعتمدت القفلة عبارة حواريّة تحمل سؤالًا ينقل براءة الطّفل في مقابل قسوة الواقع، فالأب يتحسّر على فقدان أصدقائه الذين وفق سؤال طفله يكون قد تخلّى عنهم أو غدر بهم، فبات حزنه كذبًا ونفاقًا.
أمّا قصة قناص، ففي قفلتها استمرارية في سرد الحدث، فكان المطلوب البحث عن دهشة ما، تمنحها بائعة الدّجاج، وقد تحيل هذه القفلة عقل القارئ إلى دلالات مختلفة فتتحوّل الملاحقة من الفكرة إلى الشّخص.
وفي قصة «كاسحة ألغام» نتلمّس في قفلتها عوداً على بدء إلى رغبة الإنجاب التي منعتها وجود أقراص منع الحبل. وما بينهما يتغيّر مسار العائلة والعلاقة بين الزّوجين.
هذه مطالعة موجزة لأربع قصص وجيزة، تدفعنا إلى دراسة نقديّة مهمة لهذا النّوع، وهو ما يحرص ملتقى الأدب الوجيز القيام به، كي لا يقتصر الأمر على التّنظير النّقديّ، فلا نقد من دون نصّ إبداعيّ.
* مداخلة ضمن ورشة لصالون الأدب الوجيز في سوسة – تونس.
*أستاذة في الجامعة اللبنانيّة عضو ملتقى الأدب الوجيز.