قراءة في المناورات العسكرية المشتركة بين روسيا والصين والجمهورية الإسلامية
زياد حافظ _
المناورات المشتركة بين كل من روسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران على مدة أربعة أيام منذ 27 ديسمبر حتى 30 ديسمبر في بحر العرب وعلى مدخل الخليج وأطراف المحيط الهندي كانت محطة انتباه عند بعض النخب العربية التي تقرأ المستجدّات الإقليمية والدولية وتربطها بالمشاهد المحلّية. وهذا الترابط يدّل على أن العالم أصبح أكثر تعقيداً وترابطاً مما كان عليه في السابق. وقد شدّد المراقبون على تداعيات تلك المناورات على الأحداث في الإقليم بشكل عام والساحات الوطنية التي تشهد تجاذبات بوتائر مختلفة من التوتّر والعنف. لكن في آخر المطاف يخلصون إلى نتيجة مفادها أن تراجع نفوذ الولايات المتحدة يتلازم مع صعود محور معاكس لها. في هذا السياق نبدي ملاحظات عدّة تسترجع قراءات سابقة للتحولات على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي من المهم التأكيد عليها.
الملاحظة الأولى: هي أن القراءة المستوحاة من مراقبة المناورات المشتركة ليست بجديدة بالنسبة لنا خاصة أنها كانت متن التحليل السياسي في الوثائق السياسية المقدّمة لاجتماعات المؤتمر القومي العربي خلال السنوات السابقة، على الأقل منذ بداية العشرية المنتهية. كانت قراءة المؤتمر القومي لتلك التحوّلات تستشرف تراجع الولايات المتحدة إن لم نقل أفولها وصعود محور البريكس، أو الكتلة الاوراسية في مواجهة الهيمنة الأميركية على العالم بعد سقوط حائط برلين ومنظومة حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي.
الملاحظة الثانية: هي أن تلك المناورات ليست بجديدة على الأقل بين روسيا والصين اللتين أقامتا سنة 2018 أكبر مناورات برّية مشتركة في التاريخ العسكري المعاصر ضمّت عشرات الآلاف من الجنود، كما أنها مستمرّة في مناورات ثنائية برّية وبحرية. وتأتي المناورات البحرية لتؤكد على التفوّق العسكري ليس فقط في القوّات البرّية بل أيضا في القوّات البحرية. وهذه المناورات تأتي بعد اعلان الرئيس الروسي في خطاب في غاية الأهمية في آذار/مارس 2018 عن سلاح دفاعي كاسر للتوازن الاستراتيجي. هذا وقد أبلغ رئيس هيئة الأركان الروسية الرئيس الروسي بدخول حيّز الخدمة السلاح الجديد عشية البدء بالمناورات المشتركة مع الصين والجمهورية الإسلامية.
الملاحظة الثالثة: هي أن المناورات سبقت ببضعة أشهر المؤتمر المنوي انعقاده برعاية الأمم المتحدة حول أمن الخليج وتجسيداً لمحادثات لافروف مع بومبيو حول أمن الخليج. من الواضح أن الجمهورية الإسلامية ومعها روسيا والصين معنيون بشكل مباشر بأمن الخليج ويوازي على الأقل الدور الأميركي الذي أصبح أقلّ أهمّية مما كان عليه خاصة بعد العزوف عن المواجهة العسكرية مع الجمهورية الإسلامية. ويصبح السؤال المطروح عندئذ لمن القوَامة لترسيخ أمن الخليج إذا ما تراجع الدور الأميركي بسبب عدم القدرة أو بسبب عدم الرغبة أو بسبب الاثنين معا؟ ومن الواضح أن إعادة ترتيب أوضاع الخليج ينعكس بشكل مباشر على العديد من الملفّات العالقة في المنطقة بدءاً جنوباً باليمن ووصولاً شمالا إلى كل من بلاد الرافدين وبلاد الشام، ومروراً حتى دول الجزيرة العربية. وهذا الدور يعني فعلياً سقوط حقبة العقوبات لأن أمن الخليج المرتقب إيجاده في الممرّات المائية لا يمكن أن يفصل بين من هو خارج العقوبات ومن هو داخلها. فإما الجميع داخل العقوبات وإما الجميع خارجها. كما ينعكس على دول محيط البحر الأحمر كمصر وليبيا ودول القرن الأفريقي وحتى السودان الذي يشهد تجاذبات بين الاصطفاف مع منظومة قوى تحالف العدوان على اليمن وبين القوى التي تريد الانسلاخ عن العروبة كما جاء على لسان بعض المسؤولين في الحكومة الانتقالية الجديدة. والتواجد العسكري الروسي والصيني في الخليج سينعكس على دور مصر في الملّف الليبي الذي يشهد تصعيداً مع استعداد تركيا للتدخل العسكري. فروسيا ستعود إلى التمركز العسكري أو النفوذ العسكري في ليبيا بعد أن أخرجت قسراً بعدوان الأطلسي.
الملاحظة الرابعة تعود إلى فوائد إقامة تلك المناورات لكل من الأطراف المشاركة. هذه المناورات تأتي في سياق تخطيط مدروس منذ فترة ويهدف إلى استشراف مرحلة مستقبلية قد تطول خاصة أن نجم الولايات المتحدة يسارع بالأفول دون أن تستطيع إيقافها. فبالنسبة للصين فهي تصيب أهدافاً عدّة في آن واحد. الهدف الأول هو تكريس وجودها العسكري والسياسي في أطراف منطقة الخليج وعلى شرق القارة الإفريقية وباب المندب التي تتواجد فيها اقتصادياً منذ عقود. أما الهدف الثاني هو إفهام الولايات المتحدة التي تنافسها على حقّها في إقامة قواعد عسكرية في جزر اصطناعية في بحر الصين أن وجودها في منطقة المحيط الهندي والخليج هو امتداد لوجودها في بحر الصين ولصون أمن مشروع الحزام والطريق الواحد. نشهد هنا تطويراً لنظرية هالفورد ماكيندر حول أهمية الجزيرة الكبرى، أي آسيا، وعدم الاكتفاء بالسيطرة على الممرّات المائية التي كانت تسيطر عليها بريطانيا العظمى. اليوم، الجزيرة الكبرى تحت سيطرة الكتلة الاوراسية ومن الطبيعي أن تحمي شواطئها من دول لا وجود لها في القارة وفي المنطقة.
أما بالنسبة لروسيا فهي تحقّق حلمها التاريخي بالتواجد الفعلي في المياه الدافئة. فبعد شرق البحر المتوسط تتواجد على مشارف الخليج والمحيط الهندي وعلى مقربة من القارة الأفريقية. كما أن وجودها في هذه المنطقة يعزّز وجودها السياسي والعسكري في شرق وجنوب المتوسط. وعلى الصعيد السياسي سيكون لروسيا الدور المميّز في ترسيخ الأمن في الخليج بعد عجز الولايات المتحدة في تأمين الملاحة بمفردها.
أما الجمهورية الإسلامية في إيران فإن مشاركتها في تلك المناورات تصيب أهدافاً عدة في آن واحد أيضا. ففي المرتبة الاولي يكرّس دورها كقوة عظمى في الإقليم. كما أن هي جزء من محور سياسي وعسكري واقتصادي لا يمكن الاستهانة به. فتعزيز الدور الإقليمي يساهم في رسم توازنات جديدة في المنطقة وفي الملفّات العالقة. كما أن تلك المناورات تشكّل نوعاً من الردع لمن يعتقد ان بإمكانه الاستسهال في التفكير في عملية عسكرية ضد الجمهورية الإسلامية خاصة بالنسبة للكيان الصهيوني وبعض الدول العربية التي استبدلت العداء لإيران بالعداء للكيان الصهيوني.
الملاحظة الخامسة حول المناورات وارتداداتها على أمن الخليج وسائر الدول في المنطقة تثير تساؤلاً حول غياب دولتين نوويتين على ضفاف المحيط الهندي وعلى مقربة من الخليج، ونقصد هنا الهند والباكستان. غياب تلك الدولتين له أسباب ودلالات عدّة. فمنسوب التوتّر العالي بين الهند والباكستان بسبب النزاع على الكاشمير يحول دون إشراك الدولتين في مناورات مشتركة وخطر الحرب بينهما قائم. من جهة أخرى غياب باكستان عن المشاركة في القمة الإسلامية التي عقدت في كوالالمبور يشير إلى أن التجاذبات حول باكستان ما زالت قائمة مع بلاد الحرمين. أما بالنسبة للهند فما زال رئيس وزرائها يمارس سياسة المسك بالعصا من النصف. فما زال يفكّر في أبعاد الانضمام إلى المحور الصيني الروسي أو تعميق التفاهم مع الولايات المتحدة رغم انضمامه إلى منظومة شانغهاي الأمنية بينما يغازل الولايات المتحدة وكأنه يستطيع غزو أسواقها. فاعتبارات خاصة بالدولتين حالت دون المشاركة بالمناورات البحرية مع كل من روسيا والصين والجمهورية الإسلامية. لكن هذا لا يعني أن لا دور لهما في أمن الخليج وإن كان سيأتي بعد فترة إزالة أسباب التوتر بينهما.
الملاحظة السادسة حول أبعاد تلك المناورات تكمن في تشكيل محاور متنافسة وسقوط منظومة القطبية الواحدة وحتى منظومة تعدّد القطبيات. العديد من المراقبين يعتقد أن تعدّد القطبية هو الذي سيحكم المرحلة المقبلة بعد سقوط قوامة الولايات المتحدة. في هذا السياق نعتقد من المفيد إبداء الملاحظات التالية. أولاً، ما نشهده هو اصطفاف مكوّنات كبيرة في محورين متنافسين. فالمكوّنات لا يمكنها أن تكون قطباً لأن مفهوم القطب هو شمولية النفوذ على صعيد العالم. ما يحصل هو الانتقال من شمولية مكوّن أساسي إلى شمولية محور. بمعنى أن الصين وروسيا تستمدّان قواتهما الشمولية من خلال المحور الذي تشكّلانه وليس بقدرات ذاتية محضة تمكّنهما من إيجاد تلك الشمولية الضرورية لإيجاد القطبية. فالغرب ما زال يراهن على إمكانية تفكيك تلك المكوّنات من الداخل دون ضرورة الدخول في مواجهات عسكرية مدمّرة للجميع وغير محسوبة النتائج، وذلك تجنّبا للوقوع في فخ توسيديديس المؤرخ اليوناني في العصر القديم الذي اعتبر في كلامه عن قواعد السطوة أن التنافس بين دولة قائمة (اسبارطا) مع دولة صاعدة (آثينا) سيفضي إلى الحرب. أما المحور فيعطي قيمة مضافة لكل مكوّن كما أن مشاركة المكوّنات يعطي المصداقية وبالتالي القيمة المضافة للمحور. ثانياً، هذا لا يعني أن المكوّن الروسي والمكوّن الصيني خاليان من المشاريع المنافسة. فروسيا لديها مشروع الاتحاد الاوراسي الذي يضم كل ما نسمّيه بالكتلة الاوراسية يضاف إليها الكتلة الإسلامية. فضمّ هذه الكتلة للكتلة الاوراسية ما يروّج له مستشار الرئيس الروسي الكس دوغين حين زار بيروت مؤخراً. بالمقابل مشروع الصين هو مشروع الحزام والطريق الواحد. المشروعان لا يتناقضان بل يكمّلان بعضهما ببعض ويسمح لكل من روسيا والصين بالاحتفاظ بنوع ما من الخصوصية التي توظّف على الصعيد الدولي. ولكن هذا بحث آخر خارج سياق مقاربتنا اليوم لأبعاد المناورات البحرية الثلاثية.
وأخيرا، ما تستجلب تلك المناورات من تساؤلات حول الدور العربي في ظل كل التحوّلات الدولية والإقليمية التي يشهدها العالم يعود إلى حالة التفكّك والتمزّق القائمة في الوطن العربي. فطالما تلك الحالة قائمة فلا دور قد يذكر للعرب. لكن الحرب الكونية التي شُنت على سورية واليمن وبعد احتلال العراق تدلّ على أن العرب في هذه المنطقة لهم دور أساسي في الإقليم حتى في العالم ليس فقط بسبب الثروات النفطية والغازية والمائية التي تحمله، بل بسبب حيوية شعوبهم التي ساهمت في بناء الحضارات الإنسانية. فانتصار كل من سورية والعراق واليمن سيساهم في صوغ محور متكامل يلعب دوره الإقليمي ويتوازن مع الدور الإيراني والتركي. كذلك الأمر بالنسبة لمصر التي قد تستعيد دورها العربي والإقليمي وحتى الدولي عندما تخرج من الثقب الأسود الذي يشكّله معاهدة كامب دافيد. وفي المغرب العربي الكبير نشهد تطوّرات تقودها الجماهير وليست النخب وتصبّ في خانة العروبة والتحرّر ما يبشّر بمستقبل أفضل متحرر من الهيمنة الخارجية والفساد الداخلي. فتباشير مستقبل الأمة أكثر من جيّدة؛ وهذا يدفعنا اليوم أكثر من الأمس إلى المطالبة بالوحدة أو الحد الأدنى في المواقف الموحّدة في مواجهة التحدّيات. هذا هو موضوع اهتمامنا في المؤتمر القومي العربي حيث نهضة العرب تبدأ أولاً بتحرير فلسطين وثم في ترسيخ ثقافة الوحدة بين النخب الحاكمة أو الطامحة للحكم تجسيداً لمطالب جماهير الأمة وتحقيق كافة أبعاد المشروع النهضوي العربي.
*اقتصادي وكاتب وباحث سياسي والأمين العام للمؤتمر القومي العربي.