البلد بـ قضاته
بشارة مرهج*
معظم الأطراف السياسيّة تطالب باستقلالية السلطة القضائية وتتبارى في ما بينها لتبيان أهمية هذه الخطوة الإصلاحية التي لا بدّ منها لتصحيح الخلل في بنية الدولة وتحقيق التوازن والتكامل بين سلطاتها الدستورية، إلا أنه مع ازدياد الكلام حول هذا الأمر الخطير الذي ينتظره اللبنانيون بفارغ الصبر للبدء في عملية مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة يشهد الرأي العام ظواهر متعددة لا بدّ من معالجتها والتصدّي لها في زمن الانتفاضة.
أولاً: تراكم ملفات الفساد في الأدراج وإسقاط مبدأ المساءلة في الجمهورية، مما أدخل اليأس إلى قلوب الناس وجعلهم ييأسون من إمكانية الإصلاح والتصدي للفساد الذي نخر جسم الدولة وهدر أموالها وزرع قيم الانحطاط والتبعية في المجتمع. وكثيراً ما يتندّر الناس في جلساتهم بالملفات التي علاها الغبار رغم تحذيرات الأقلام الحرة ورغم الدعوات الصريحة التي وجهها رئيس الجمهورية لاستكمال التحقيقات في هذه الملفات وإصدار الأحكام بشأنها.
الثانية: استمرار التأخير والمماطلة في بتّ قضايا عالقة أمام القضاء منذ عشرات السنين – وبعضها منذ أكثر من نصف قرن – رغم تلهّف أصحابها لصدور أحكام بشأنها لتحديد الأضرار البالغة التي لحقت وتلحق بهم جراء هذا التأخير.
ثالثاً: ازدياد تدخل السياسيين في الشأن القضائي وازدياد عملهم المكشوف لحماية المخالفين وقد وصلت هذه الأعمال ذروتها في اقتحام قصور العدل والتهجّم على القضاة، كما في ممارسة ضغط على قضاة بارزين من قبل مراجع حكومية لحفظ ملفات ساخنة جداً كان يريد الجمهور معالجتها لإعادة أموال الإسكان، وسواها من الأموال المنهوبة، التي فتك بها نافذون ومتموّلون.
رابعاَ: اكتظاظ السجون بأعداد كبيرة من الموقوفين الذين لم يخضعوا للمحاكمة بعد رغم مرور سنين على توقيفهم، ورغم تجاوز أعدادهم أعداد المحكومين، مما أدّى إلى اكتظاظ السجون وتحويلها إلى بؤر احتقان وفساد وتمرّد. هذا مع العلم بأنّ وزارة العدلية بموجب القوانين هي المعنية الأولى بالسجون وليست وزارة الداخلية التي تتولى المسؤولة اليوم.
إنّ الواقع الأليم المتردّي الذي لم يعد بالإمكان إصلاحه على يد الذين استنزفوه واستهلكوه يجب أن يكون اليوم – وريثما تعود الأحزاب والقوى السياسية إلى نفسها – بعهدة قضاة لبنان الذين أقسموا اليمين للحفاظ على العدالة وصون حقوق اللبنانيين. هم مسؤولون اليوم عن إعادة الاعتبار للمواطن والدولة والعدالة بعد أن هدرت قوى الفساد كرامة الجميع واستباحت حقوق الجميع.
القضاة وحدهم يستطيعون رفع ميزان العدالة فوق الجميع. وحدهم يستطيعون الجلوس تحت قوس المحاكم المقامة باسم الشعب اللبناني لمحاكمة الذين اعتدوا على المواطن اللبناني والمال اللبناني. ومجرد ما يبادرون ويضربون بسيف الحق مرة ومثنى وثلاثاً حتى يستوي الميزان ويتراكض لصوص الهيكل لطلب الصفح وإعادة ما للدولة للدولة، وما للخزينة للخزينة، وما للناس للناس.
وعندما يوقن الناس أنّ العدالة بالمرصاد لكلّ هدر وفساد ولكلّ جريمة مصرفية أو مالية أو عقارية، يشرق الأمل مرة أخرى في نفوسهم بعد أن تبدّد او كاد على يد تجار الهيكل ولصوصه.
إنّ الانتفاضة المباركة التي قادها الشعب اللبناني لن تكتمل وتشرق إلا بمبادرة القضاة اللبنانيين الشرفاء لممارسة مهامهم، بحسب القانون والقَسَم، دونما اعتبار لتدخلات الذين عاثوا في الأرض فساداَ.
وللذكرى، فإن روما لا تنسى أنّ مجموعة القضاة ذوي الأيدي البيضاء هم الذين خلّصوا إيطاليا من حكم المافيا والعصابات.
*وزير سابق.