لا حرب شاملة.. فما الذي تريده إيران؟
} سماهر الخطيب
فقدت الولايات المتحدة الأميركية عامل الرّدع عقب عملية الاغتيال التي نفذتها القوات الأميركية بتوجيه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتي أسفر عنها اغتيال الفريق قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وفق ما أعلنه رئيس جهاز المخابرات المركزية الأميركي سابقاً الجنرال دافيد بتريوس، متسائلاً «ما إذا كانت هناك مبادرة دبلوماسية؟»..
في حين أعلنت إيران كردٍ أولي على العملية، تخليها عن جميع القيود على أنشطتها النووية بموجب الاتفاق النووي المبرم بين إيران والسداسية الدولية، وبالتالي لن يكون أمام برنامجها النووي أيّ قيود بما في ذلك مستوى تخصيب اليورانيوم وكمية اليورانيوم المخصّب وعدد أجهزة الطرد المركزي.. مع إشارتها إلى استعدادها للعودة إلى تطبيق جميع التزاماتها بالاتفاق النووي في حال رفع العقوبات الأميركية..
وبالتوازي مع القرار الإيراني، جاء تصويت البرلمان العراقي على إخراج القوات الأجنبية، كقرار ثوريّ يوجّه صفعة قوية إلى الإدارة الأميركية، بحيث يُعتبر استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق بعد قانون البرلمان العراقي بمثابة احتلال وتبع هذا القرار استهداف محيط السفارة الأميركية في بغداد بصواريخ عدة وتعليق مهمة حلف الناتو في العراق والتي كانت تحت مسمّى «محاربة داعش» ودعوته لعقد اجتماع طارئ اليوم لبحث الوضع في الشرق الأوسط عقب العملية الأميركية، بدأت بوادر المواجهة تتكشّف بين إيران وحلفائها من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى..
ومع إعلان إيران بأنّ الرّد على جريمة اغتيال قاسم سليماني سيكون عسكرياً وسيطال حيفا وتل أبيب وكذلك المصالح الأميركية في المنطقة، جاء هذا الإعلان متوافقاً مع إعلان الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصرالله بأنّ الرّد سيكون على كل جبهات المقاومة من لبنان لفلسطين وسورية والعراق وصولاً لليمن وباكستان وكذلك أفغانستان، وبالتالي ستدرك واشنطن لاحقاً بأن استشهاد قائد فيلق القدس قاسم سليماني، بات أخطر بكثير من بقائه حياً وأنّ مصالحها قد ضربت في الصميم مع إعلان الجبهات جميعها الرّد بشكل متوازٍ.. فمن المفارقات، أنّ الولايات المتحدة رفعت من إمكانات إيران وأضعاف دوافعها للمقاومة والرد..
إنما لن تكون هناك حرب شاملة فالدول الرئيسية التي قد تتسب في اندلاع حرب عالمية، مثل روسيا والصين، لن تلعب دوراً مباشراً في هذه الأزمة، بل ستستفيد من إغراق أميركا في مستنقع الشرق الأوسط وبشكل خاص عقب هذه العملية المتهوّرة والتي ستشكل منعطفاً حاسماً في تاريخ الشرق الأوسط وتحدّد دور واشنطن فيه.. فيما ستتمسك إيران باستراتيجيتها القائمة على «النفس الطويل» من دون الدخول في حرب مفتوحة والمواجهة العسكرية المباشرة.. ورغم تصريحات القادة الإيرانيين التي رفعت من سقف المواجهة إنما ما حققته إيران طوال سنوات امتلكت فيها مكانتها الإقليمية وفق استراتيجية قائمة على التكتيك والتي تشبه إلى حد كبير ما تشتهر به بلادها من حياكة السجاد ستنعكس على حياكة الرّد وتحويل العملية الأميركية إلى ورقة قوة تستخدمها في رفع سقف مطالبها في حال العودة إلى الملف النووي خاصة ما يعنيه هذا الملف من عوائد اقتصادية إلى الدول الأوروبية والتي بدأت تشهد ركوداً اقتصادياً في الآونة الأخيرة. وهو ما ستسعى إليه هذه الدول عبر الوساطات الدبلوماسية للتهدئة، وستكون جواباً لما سأله رئيس جهاز المخابرات المركزية الأميركي سابقاً الجنرال دافيد بتريوس وبالتالي رفع العقوبات قاطبة عن الشعب الإيراني؛ هذا على الصعيد السياسي الديبلوماسي.. أما على الصعيد العسكري فالعملية الأميركية أعطت للإيرانيين خيار مهاجمة أهداف غربية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، في الوقت الذي يناسبهم، كما أنّه بات متوقعاً ضرب أهداف بعينها.
ورغم توقعات الردّ بعمل سريع لحفظ ماء الوجه الإيراني، وصون الصورة التي حرصت على إبرازها في السابق. باعتبار أن المواجهة الشاملة المباشرة ستكون مكلفة للجانبين؛ ولن تصبّ في الصالح الإيراني لأنها لا تمتلك حالياً القدرة العسكرية أو الاقتصادية لمواجهة الولايات المتحدة.
لكن الردّ الإيراني لا يعتمد على الانفعال بل يستند إلى استراتيجية واضحة ومقنعة. فإيران تجيد استخدام سياسة «النفس الطويل»، وبالتالي سيكون الرّد متعدد المحاور والجبهات كما سيطال مواقع «إسرائيلية»، وسيشمل المساحة الجغرافية الواسعة التي تنتشر فيها إيران وحلفاؤها في محور المقاومة من خلال شن عمليات عسكرية ضد القواعد الأميركية في مياه الخليج وكذلك ضدّ المصالح الأميركية مثل استهداف أرامكو السعودية أو إسقاط طائرة أميركية مسيرة فوق مضيق هرمز.
وبداية الردّ من داخل العراق، حيث نفذت عملية الاغتيال، وللعراق أهميّة في الصراع الأميركي الإيراني اليوم باعتباره دولة محورية يسعى كل منهما لكسب هذا الموقع الاستراتيجي الهام باعتباره همزة وصل إيران مع حلفائها من جهة والرئة الاقتصادية التي يتنفس عبرها كلٌّ من سورية ولبنان وإيران في وقت الخنق الاقتصادي الأميركي.. وبالتالي جاءت العملية في أرض العراق تأكيداً على أهميته في هذا الصراع ومن يربح العراق، يربح الدور الأهم في المرحلة الراهنة وهو ما لا تريد أميركا توفيره لإيران والعكس..
ثم ستمتد هذه الحرب بالوكالة إلى الخليج مع تبادل التهديدات بين الطرفين، باعتبار أنّ السلاح الرئيسي لإيران اليوم هو القدرة على توجيه ضربة هائلة للاقتصاد العالمي، وشلّ أو تدمير جزء كبير من الإنتاج العالمي للنفط لفترة طويلة. ومن المعروف أنّ رفاهية ووجود الولايات المتحدة كإمبراطورية عالمية يعتمد على صحة النظام الاقتصادي العالمي والذي يمكنها من فرض ضريبة على كل مرة يستخدم فيها الدولار في أي مكان حول العالم. وبما أنّ الوضع أصبح هشاً للغاية، فالهرم الائتماني العالمي أوشك على الانهيار، مع تباطؤ فعلي للاقتصاد العالمي، ودخول بعض الدول الغربية والعربية في مرحلة الركود، بالتالي ستبذل الولايات المتحدة الأميركية قصارى جهدها لتجنب الصدمات التي يمكن أن يتعرّض لها الاقتصاد العالمي، ما يجعلها تسعى للتهدئة حفاظاً على ما تستطيع تحصيله من ضرائب تفرضها على العالم وتسجّلها في خزينتها المركزية..
أما بالنسبة لدول الخليج فبرغم رغبتها بتدمير إيران، لكنها ليست مستعدة لتحمل عبء الحرب بدون الولايات المتحدة. لذلك فمن غير المتوقع أن تردّ إذا ما قامت إيران بتوجيه ضربات بصواريخ وطائرات من دون طيار، مثل الهجوم على المنشآت النفطية لأرامكو السعودية.
وبالتالي إمكانية خوض حرب بالوكالة «مقيّدة» هو أقصى ما يمكن الوصول إليه فترسانة إيران النووية أكثر شمولاً مما تستحوذ عليه الولايات المتحدة في المنطقة وأكثر ما تستطيع الأخيرة تحمّله من إجراءات عسكرية هي قتل مسؤول إيراني رفيع في دولة ثالثة إذ لا تريد الدخول في حرب مباشرة لا تحتمل الخزينة الأميركية تكاليفها.. وبالتالي ستشهد الأيام القادمة حرب طائرات من دون طيار، وحرب الأعصاب ستكون سيدة الموقف مع محاولة كلا الجانبين إلحاق أكبر قدر من الضرر بالآخر عبر هجمات مجهولة، حتى لا تتسبب في حرب مباشرة. كما سيحاول الطرفان الخداع والإخافة، وبينما تحصي الولايات المتحدة مكاسبها في «لعبة» لم تنته بعد، تخطو روسيا والصين خطوات هادئة لتسجيل المكاسب والاستفادة من الأخطاء الأميركية..