استشهاد الفريق سليماني زلزال عنيف: كيف سيكون المشهد بعده؟
العميد د. أمين محمد حطيط _
لم يكن الشهيد قاسم سليماني مجرد قائد عسكري في قوى نظامية رسمية تابعة لدولة من مكوّنات محور المقاومة فقط، ولم يكن شخصية عسكرية تلعب أدواراً سياسية استراتيجية في هذا المجال او ذاك فحسب، ولم تقتصر وظائفه على نمط محدد من المهام المدرجة في جدول أعمال المقاومة حصراً، بل كان كل هذا وفوقه أهمية، كان المخطط والمنسّق وضابط إيقاع عمل محور المقاومة بكل مكوناته من اليمن جنوباً الى العراق شمالاً ومن إيران شرقاً الى سورية ولبنان غرباً، وكان نفسه وطيفه حاضرين بشكل مباشر او غير مباشر في الميادين التي صنعت فيها انتصارات محور المقاومة ضد المشروع الانكلوسكسوني – صهيوني الذي تنفذه أميركا و»إسرائيل» ومعهما دول اوروبية وعربية وإقليمية شتى.
ولأن قاسم سليماني كان كذلك حتى وفوق ذلك فقد صنفته «إسرائيل» واحداً من ثلاثة اعتبرتهم الأشد خطورة عليها وجوداً ودوراً في المنطقة، واعتبرته هدفاً يستحق بذل كل الجهود لتصفيته والتخلص منه، اما أميركا التي صنفت الحرس الثوري الإيراني الذي ينضوي قاسم سليماني في صفوفه بوصفه قائداً لفيلق القدس أحد تشكيلات الحرس، فقد صنفته شخصياً ووضعته على لائحة الإرهاب الممسوكة من قبلها واعتبرته خطراً على الأمن الأميركي العام وأمن الأميركيين في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، وعائق يحول دون نجاحها في مشاريعها الاستعمارية في المنطقة والتي ظهر آخرها بتسمية «صفقة القرن» الرامي لتصفية القضية الفلسطينية التي شكل فيلق القدس بقيادة سليماني ليكون رأس حربة في تحريرها وليقدم المساندة والدعم لكل حركات المقاومة العاملة في هذا الاتجاه بصرف النظر عن جنسيتها وانتمائها الطائفي والمذهبي والقومي.
ولأن سليماني كذلك فقد اتخذ القرار الأميركي – الإسرائيلي بقتله ـ قرار نفذته أميركا لتبقى «إسرائيل» بمنأى عن تداعياته، لأنها ليست في الوضع الذي يمكنها من احتواء او تحمل تلك التداعيات في الوقت الحاضر، ومع ارتكاب أميركا لهذه الجريمة بات السؤال الملحّ والأبرز، حول كيفية تعامل إيران أولاً ومحور المقاومة تالياً مع هذا العمل الفظيع الذي نراه زلزالاً يضرب المنطقة ويضعها على مفترق طرق تكثر فيه الاحتمالات والتوقعات حول مسار الأحداث ومصير المنطقة على ضوء ما يمكن أن يحصل من رد إيراني على الجريمة وسلوك أميركي بعد الردّ.
وقبل مناقشة هذه الفرضيات والاحتمالات، لا بدّ من الإشارة الى الظروف التي اتخذت أسباباً مباشرة لتنفيذ عملية الاغتيال تلك، حيث إن شريط الاحداث في العراق خلال الأسبوعين الأخيرين شهد مقتل أميركي زعمت أميركا أن مقتله كان بصاروخ أطلقه الحشد الشعبي العراقي، ما حملها على تنفيذ عدوان جوي ضد 5 أهداف للحشد الشعبي العراقي على جانبي الحدود السورية العراقية قرب معبر القائم – البوكمال، عدوان أدى الى إصابة 100 من عناصر الحشد بين شهيد وجريح، ما استبع ردة فعل عراقية احتجاجية حملت الجماهير الغاضبة على محاصرة السفارة الأميركية في بغداد مطالبة بوضع حد للاتفاقية الأمنية العراقية الأميركي (الإطار الاستراتيجي للعلاقة بين الدولتين الموقع في العام 2011) وخروج الأميركيين من العراق بوصفهم قوات احتلال وعدوان.
في ظل هذه الظروف التي رأت فيها أميركا تهشيماً لهيبتها وخطراً على وجودها في العراق وتالياً في كل المنطقة نفذت جريمتها استناداً لقرار استراتيجي كبير بتوقيع ترامب شخصياً الذي ادعى أن قتل سليماني سيمنع حرباً تجبر عليها أميركا في المنطقة وهو يقصد ان نجاح سليماني في مهامه وتصديه للمشروع الأميركي في المنطقة سيلزم أميركا بالدخول في حرب لفرض مشاريعها بالقوة العسكرية.
اما رأينا، فهو ان أميركا التي خسرت معظم حروبها في المنطقة من افغانستان الى العراق ثم اليمن وسورية، خسرتها وهي تعرف أن محور المقاومة هو سبب هذه الخسائر، شاءت أن توجّه ضربتها الانتقامية لخسائرها فاستهدفت سليماني الذي يحتلّ موقعاً مميزاً ومركزياً في المحور، ويشكل استهدافه بنظر أميركا فعلاً استثنائياً قد يعوّضها خسائرها، فنفذته مرتكبة فعل مقامرة غير مضمون النتائج، لأن جريمة بهذا الحجم لا يمكن أن تبقى بدون رد يناسب حجمها وهنا العقدة في الموضوع. فالجريمة هذه نقلت المواجهة بين إيران ومعها محور المقاومة من مرحلة المواجهة العسكرية غير المباشرة وحروب الوكلاء والحروب البديلة والحرب من خلف الأقنعة، الى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة التي تتوقف على نتائجها صورة المنطقة ومستقبل الوجود الأميركي فيها.
ولان أميركا تدرك هذه المخاطر والمفاعيل، فقد سارعت بعد الجريمة الى توجيه عروض ترغيب الى إيران لثنيها عن الرد القاسي وحصر ردة الفعل تحت سقف الثأر المحدود، وتردّد أنها عرضت على إيران، رفع العقوبات والعودة الى الاتفاق النووي بعد التفاوض لتعديل بعض بنوده لحفظ ماء الوجه، وتمكينها من قصف قاعدة عسكرية أميركية في العراق بعد إخلائها من الجنود، كما وغيرها من الإغراءات، كل ذلك لم يلق أثراً في قرار إيران التي رفضت كل العروض وتمسكت بقرار الانتقام والثأر.
بعد فشل الترغيب انتقلت أميركا الى التهديد وأعلنت أنها أعدّت بنك أهداف من 52 هدفاً إيرانياً استراتيجياً لبعضها مضامين ثقافية، فجاء الرد الإيراني سريعاً حيث رفعت راية الثأر الحمراء على مسجد جمكران أي مسجد الإمام المهدي في إيران، معلنة بأن هناك التزاماً وتعهداً أمام الإمام المنتظر بالثأر والانتقام من أميركا، ثم كان تصريح قائد الجيش الإيراني اللواء موسوي الذي وجّهه لترامب تضمن القول: «سنعرف في نهاية المطاف من الذي سيتلقى ضربات في 52 هدفاً”. مؤكداً أن إيران التي لم يُغرها ترغيب لن يخيفها تهديد واتخذت قرارها الحاسم بالرد؛ فكيف سيكون؟
من الطبيعي ان يكون الرد بحجم الجريمة ويكون له من الأثر ما يثبت قدرة إيران ويردع أميركا، ويحدث دفعاً للمشروع الإيراني – المقاوم الرامي لتحرير المنطقة من الاستعمار الأميركي، ولذلك نرى أن الرد الذي سيكون في مهلة معقولة دون تسرّع أو تراخٍ، سيكون بيد إيرانية ابتداءً، على هدف أميركي، يؤدي الى إسالة دم أميركي، ويُحدث الوجع المطلوب في الجسم الأميركي، تكون له مفاعيل سلبية في الداخل الأميركي ويمنع ترميم الهيبة الأميركية التي تهشمت في العراق ويدفع نحو خروج أميركا منه كما كان قد بدأ الحديث به قبل استشهاد سليماني. هذا في خصائص الرد وطبيعته أما كيفيته فقد تكون في مرحلة أولى القيام بواحد أو أكثر من الأعمال التالية:
عمل أمني مخطط يستهدف قيادات أميركية عسكرية أو سياسية في المنطقة أو خارجها.
عمل عسكري ميداني صاخب يستهدف قاعدة عسكرية أميركية أو أكثر من قواعدها المنتشرة في المنطقة
عمل عسكريّ مؤثر يستهدف قطع الأساطيل الأميركية في المنطقة.
عمل مبتكر من طبيعة مركّبة خارج حدود التوقع الأميركي لتضمن سريّته نجاحه وتحقيق أهدافه.
اما المشهد بعد الرد فيرتقب أن يكون رهناً بالتصرف الأميركي، الذي قد يعتبر الرد متوازناً مع الجريمة ويسكت على أساس ضربة بضربة، والعودة الى قواعد المواجهة ما قبل الجريمة، أو أن يرى الرد الإيراني أحدث الالم الذي يمكن ان يعالج بمزيد من الضغوط غير العسكرية، أو يُحرج الأميركي ويدفعه للرد مجدداً ويقدم على تنفيذ تهديده بقصف واحد أو أكثر من الأهداف الـ52 التي ذكرت وعندها سيكون دخول في المرحلة الثانية في المواجهة، حيث سينخرط كل محور المقاومة فيها وستكون المنطقة أمام مشهد جديد لا يتسع المقام الآن للبحث بخطوطه وتفاصيله ومفاعيله.
* أستاذ جامعي وباحث استراتيجي.