الأدب الوجيز نوعٌ أدبيّ؟
} كامل فرحان صالح
هل يمكن الحديث عن نوع أدبي جديد اليوم من خارج الأنواع (الأجناس) المعروفة والمتوارثة؟
يبدو أن طرح هذا السؤال مشروع، في ظل صعوبة البتّ بهذا الموضوع، نظرًا لتراجع حركة النقد الأدبي عالميًّا لمصلحة حركيّة «الفوضى» التي سببتها العولمة على غير صعيد. ولعل المرء لا يُغالي إذا قال إن البتّ النهائي بأنواع أدبية جديدة قد بات شبه متوقف منذ الحرب العالمية الثانية، وكل ما يصل القارئ اليوم من بروز لنوع أدبي، يلحظ عند التدقيق والمتابعة، وجود تخبّط غير قليل في تحديد سمات هذا النوع وخصائصه.
أمام هذا المشهد الضبابي، هل يصحّ الحديث عن طرح «الأدب الوجيز» بوصفه نوعًا أدبيًّا جديدًا؟
لا شك بدايةً، في أن الحديث عن الأنواع الأدبية الشعرية منها والنثرية، يجد مسوغًا له تفرضه المستجدات التي تطرأ على واقع الأدب، وإذا تأخر النقّاد والمؤرخون عن ملاحظة ظاهرة نوع أدبي جديد، فهذا لا يعني عدم وجودها؛ فالأنواع أشكال متحرّكة، قابلة للاختراق والتداخل والتحول، ويُبرز التاريخ الأدبي، مدى اتسامها بنشاط تطوّري ناتج من حركية المجتمع نفسه. وعلى الرغم من تفاوت الاهتمام بالأنواع الأدبية على مرّ العصور، إلا أن النقاش الدائر حولها، كما يلحظ أصحاب كتاب «نظرية الأجناس الأدبية» (لكارل فييتور، وولف ديتر ستمبل، وروبرت شولس، وهانس روبرت ياوس، وجان ماري شافر) كان نقاشًا حادًا وشديد التباين دومًا، فمنذ العصور القديمة إلى يومنا، لم يتوقف الجدال حول تعريفها، وعددها وعلاقاتها بل حول وجودها ذاته.
إن مسألة الأنواع الأدبية قديمة قدم الأدب نفسه، وهي تمثل – إن جاز القول – «روحه وجوهره»، ويلحظ كتاب «مقدمة في الدراسات الأدبية» (Maurice Delacroix, Fernand Hallyn) أنّها نمت باتجاه حركة تجريد متواصلة تهدف إلى تبرير الأدب في منظومة التاريخ، ذلك أن من فوائد دراسة الأنواع يتمثل تحديدًا في ظاهرة كونها تفرض النظر في التطور الداخلي للأدب.
وعلى الرغم من التأخر دائمًا بتقعيد أنواع أدبية جديدة، وتشريعها، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذه العملية مستمرة ومتطورة؛ فمع تطوّر الحياة، وتغير الظروف وطبيعة المتلقين/ القرّاء، والآراء، كانت الأنواع الأدبية تستجيب لهذه التطورات والتغيرات، وهو ما يحدث فيها تطورًا مقابلًا، لم تكن القواعد القديمة تتسع له.
وإذا كان من الضروري التأكيد، أنه يحقّ لكلّ عمل أدبي إبداعي جديد، أن يُشرّع له نوع أدبي ينتمي إليه، بحكم التطور والتقدم، فمن المفيد هنا، التوضيح أن مفهوم التطور يختلف عن مفهوم التقدم الذي يعني التغير نحو الأفضل، أما التطور فإنه يعني التغير سواء أكان هذا التغير سلبيًّا أم ايجابيًّا، لهذا فالتقدم فيه حكم قيميّ على التحسن، أما التطوّر، فهو إقرار لحقيقة. مع الإشارة إلى أن مفهوم التطوّر يتغير بتغير المناهج الفلسفية، فهناك من يرى أن التطوّر يحمل معنى النمو، كما يحمل معنى التحدّر، وهناك من يرى أن التطور أساسه الصراع والتناقض والحركة الدائبة.
بناءً عليه، يلحظ أن الأخذ بمفهوم التطور هو الأنسب لبحث حركية الأنواع الأدبية ومنها بروز «الأدب الوجيز» عبر مساريه الحاليين: الومضة (وهي من ثمار شجرة الشعر)، والقصة الوجيزة (وهي من ثمار شجرة النثر الأدبي)، بحسبان أنه تحت كلمة أدب، كانت تندرج باستمرار، أنواع أدبية متنوّعة (الشعر، المسرحية، القصة، الرواية.. الخ)، وكل نوع من هذه الأنواع كانت تنسلّ منه أنواع أخرى أو أشكال أخرى وهكذا، فيما كانت هناك أنواع تنقرض أو تتحوّل، وأخرى تظهر، إذ يلحظ مثلًا، أن هناك صلة بين التراجيديا والدراما كفن جديد، وبين الملحمة والرواية. كذلك، تطوّرت المسرحية من الشعر قديًما إلى النثر في العصر الحديث.
لا يمكن لتاريخ نوع أدبي ما أن يتقدّم إلا «بتكرار مسار النمو، ولكن أيضاً بفهمه وتصويره». ونقطة الانطلاق في ذلك التاريخ ستكون «التقاطًا حدسيًّا للعنصر الأجناسي انطلاقًاً من النماذج الأحسن تمثيلًا شعريًّا للجنس (النوع)». أما الخطوة التالية، المؤدية إلى النوع الأدبي في كليته التاريخية، فإنها تعود بالمتابع إلى بدايات تاريخ النوع بحسب كتاب «نظرية الأجناس الأدبية». ويمكن القول إن النوع لا يتحقق – من وجهة نظر تاريخ الأدب – إلا في الآثار الفردية الراجعة إليه.
إذًا، بعد النظريات الأدبية الأبرز (المحاكاة، والتعبير، والخلق، والانعكاس) التي تناولت الأدب كحقيقة عامة، تأتي قضية النوع الأدبي الأساسية في تاريخ الأدب والنقد الأدبي، إذ تشكّل ضرورة تحديد النوع الذي ينتمي إليه النصّ، مقدمة لا بدّ منها، في الدراسات الأدبية. فنظرية الأنواع الأدبية تقوم أساسًا على عنصر الزمن لتكشف عن تأثر اللاحق بالسابق، بحيث يكون على الناقد أن يعرف خصائص النصّ الذي ينقده، وما قد أضيف إليه منها أو عدّل عنه إلى غيرها.
أما بخصوص ماهية النوع، فإن علم الجمال النظري لا يمكنه أن يستخرج الجواب من ذاته، بل من المادة التي يمنحه إياها تاريخ النوع فحسب. وإذ يصعب وضع تعريف نهائي لمادة تاريخ الأنواع، لأن الأمر يتعلّق هنا بمسألة حيّة متغيّرة، يبدو هذا الأمر ممكنًا إلى حدّ ما، عند الحديث عن نوع محدّد من هذه الأنواع، كالشعر مثلًا الذي يمكن تعريفه انطلاقًاً من عناصر شكلية، علمًا أن هذا المسار الشكلي للشعر تشظّى إلى أكثر من شكل عبر التاريخ الأدبي، ولم يستقرّ على شكل محدد، ومن هنا طرحت أسئلة إشكالية تتعلق بإمكانية تخصيص نوع أدبي لكل شكل شعري جديد. والأمر نفسه يمكن مقاربته على مستوى النثر الأدبي، إذ ثمة شبه اتفاق على أن النوع الأدبي هو «صفات وخصائص يتميّز بها العمل الأدبي، وهذه إذا توافرت لمحتوى أدبي، تجعله كيانًا مستقلًا عمّا عداه». وهذا ما يلحظه الأدب الوجيز عبر إنتاجه الشعري (الومضة) والنثري (القصة الوجيزة)، إذ يسعى أصحاب هذا التوجه إلى التوصل إلى خصائص مشتركة يتمتع بها الإنتاج الوجيز، ولا سيما من ناحية: الكثافة، والإيجاز، والإيحاء، وطاقة المفردة، ونمو الأفعال، وفتح آفاق التخيل، وعمق الصورة عبر كسر أنماط الحواس،…
في الخلاصة، يمكن تشبيه النوع الأدبي بـ»المؤسسة»، بحسب كتاب «نظرية الأدب» (لويليك وارين)، ويتمتع هذا النوع بقوالب عامة فنيّة، تختلف في ما بينها، ليس بحسب مؤلفيها وعصورها أو مكانها أو لغاتها فحسب، بل كذلك، بحسب بنيتها الفنية، وما تستلزمه من طابع عام، ومن صور تتعلق بالشخصيات الأدبية، أو بالصياغة التعبيرية الجزئيّة التي ينبغي ألا تقوم إلا في ظل الوحدة الفنية للنوع الأدبي. وهذا يمكن لمسُه بوضوح في الأدب الوجيز، بوصفه نوعًا أدبيًّا بات في الإمكان أن تتوحّد فيه خصائص عامة، مهما اختلفت اللغات والآداب المعاصرة.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية.