الخيّاطة الغالية أمي وجيهة حوماني ماتت… اليوم انكسر عمري
} جهاد أيوب
حين تمرض الأم يمرض العمر… وحين تموت الأم تأخذ معها ذاكرة من ذهب، وعباءة الدعاء المطرّزة بصبر الكرامات التي أوصى بها الرحمن، وحينما تموت الغالية بلحظة تصيبنا بالشيخوخة، ونبدأ مرحلة الاستعداد للرحيل.
كل الأمهات منارة إلا تلك الوفية، الصابرة التي انتظرت الفرج خلف ماكينة الخياطة لتحيك وجع العمر مع لحظات الزمان كي تجعل من أولادها الخمسة حالة واقعية أفضل من كل مَن هم حولهم… هي أمي.
كل الأمهات أنشودة محبة إلا تلك المحتشمة، الجميلة بالشكل والروح والعمر الشبابي رافضة أن تمسّ سمعتها بزنبقة من أنياب الذئاب التي غزت كينونتها كدائرة غرائزية شهوانية تبحث عن فريسة سهلة، فكانت الصفعات تلجم الشهوات، وتُعلم أهل الشرور أصول أن تكون المرأة المخلصة امرأة وفية… هي أمي.
كل الأمهات لا بعضهن يتركن الصبا جانباً، إلا أمي تركت الحظ الأول، وحافظت على جمال شكلها الأنيق النظيف القبس، وتفرّغت لزراعة أشجار الحكاية من لحم ودم… هي أمي.
أحبّت وتزوّجت ابنة 13 ربيعاً في زمن كانت الشمس تشرق خجولة، عاركت الحياة مع شريك العمر منذ اللحظة الأولى، وفي زهرة الـ 19 فقدت الزوج شاباً تاركاً خلفه خمسة بذور من أرواح أصغرهم لم يحصد السنة هو أنا.
بدأت سيوف الأقرباء، وزُرعت من حولها الخناجر، ونظرات الحقد غمرت المكان، وانتشرت ألسنتهم كالمطر الجاف فهاجرت من المدينة التي لا تنام بيروت إلى ريف يزرع كي يأكل، إلى قرية الدوير الجنوبية حيث الحرمان والرفض لواقع الحال، والحلم…
وصلت الأنيقة الجميلة المثقفة رغم عدم تعلمها فكّ الحرف إلى قرية جنوبية متصالحة مع الفجر، وتخاطب الشمس، وتسهر مع القمر، وأهلها يتسامرون مع أوراق الشجر، وطرقات من غير زفت إلا ما، وكهرباء آخذة بالنهوض… هناك الصيف غير، الشتاء لا يحمل إلا خوف البرد من كانون الفحم، وطيور السنونو تُمشور بين البيوت والفلاحين، والحقول غنية بثمار الأرض وكل أوراق التبغ تفكر باليد الفلاحة المتشوقة إلى علم التغيير، إلى حال غير الحال، وربيع غير هذا الربيع، وخريف يشبه وجعها ومصابها.
خاضت معركة الحياة الجديدة من إبنة مدينة إلى زمان النأي في أرياف نائية، فبدأت تصنع الفساتين والأثواب المغايرة لنساء وبنات وصبايا قرية الدوير وجوارها… فصلت، رسمت، صنعت، أحاكت ما تعلمته من مشاهدات بيروت، وكانت الأميرة في ذوقها، والملكة في فهمها، وبسرعة حصدت احترام الجميع من رجال دين، ورجال الأرض، ونساء المثابرة، وشباب الحلم.
لن تكون الفاضلة وجيهة محمد طالب حوماني أمي وحدي رغم الدلال الذي أغدقته علينا خاصة أنا، بل كانت أم الجميع، نافذة أمل يطل منها الجميع. هنا استشارة، هنا مصالحة، وهنا مصافحة، وهنا الكلام المنمّق، وهنا الأسرار تُختم ولا تعرف الغدر، وهنا المسامرات الباسمة… والكل يعشق مجالستها دون ملل أو كلل!
خلافاتنا مع أمي أنها تعتبر كل الناس من أهل الطيب، ولا يوجد مَن يغدر خارج الجدار، متسامحة مع مَن يطعنها أو يسرق أرزاقنا وحقوقنا، وبعد دقائق تنسى كل هذا الجدال الصارخ والصاخب، وتبتسم.
خلافاتنا مع أمي أنها تصرّ على تبادل الزيارات رافضة أن لا تكون الهدية معها مهما كانت الظروف صعبة، ومهما كانت ظروفنا صعبة. خلافاتنا معها تعمّدها أن تزور مَن لا يزورنا، وقبل أن يزورنا لتقديم واجبات الجيرة، وتكسر القاعدة.
هي صديقة كل معارفنا، وكل الأصدقاء حينما يدخلون منزلها يصبحون أصدقاء الحجّة، يواصلون الاتصال والزيارة دون علمنا، تطبخ لهم، تعزمهم على السهر أو الغداء أو العشاء… وكم من مرة دخلت البيت لأجد بعض أصدقائي أو أصدقاء إخوتي في المنزل، وحينما نتواجه بحب يصرخون: «أمك أمنا… أمك صديقتنا… أمك أفهمنا… أمك تنصحنا…»!
نعم كنّا محسودين لكونها أمّنا، ولذلك يسعد الجميع لكونها تعتبرهم أولادها.
تعرف وتحاور وتستمع وتناقش بحب واحترام العلماء، والأساتذة، والأطباء، والشرفاء، والفلاحين، والتلاميذ، وكل العائدين من السفر ومن غربة التعب.
هي لم تدخل مدرسة لكن مدرسة الحياة علّمتها أن تكون المثقفة المؤمنة الصابرة المعطاء، كانت تحبّ مجالسة ومصادقة ومصاحبة أهل العلم لذلك اعتبرت واحدة من السادة آل إبراهيم، وكل مَن هو متعلم في البلدة كان صديقاً، وحينما يعود من سفر اختصاصه العليم يُصرّ أن يزورها.
وهي المبتسمة في كل الظروف، والتي تتعرف على كل الناس، لديها متعة في التعرف على الناس.
حينما تُصاب بوعكة صحية أو حالة مرضية كانت تمرّ عليها بقسوة، لم أشاهد أمي إلا موجوعة، ولكنها كانت تهرب من آلامها بمشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم وحتى أحلامهم… تعتبر التواصل مع الناس يلغي الوجع المادي، ويشتت الوجع المعنوي.
عاشت تنتظر الأمل على الأرض، فجاء من عند الله حيث تسلّم روحها الطاهرة بعد أن مرّت خلال أيام قليلة بأسوأ الأيام، كانت تذوب كشمعة تحترق وجعاً ونحن من خلف الزجاج ننظر ولا نقدر على الفعل، نتألم ونتوجّع ونصاب بعجز الدواء.
عاشت تنتظر الفرج مما زرعت فاشتاقها الخالق قبل أن تقطف الثمار، لكونه يدرك قيمة عباده الأخيار. عاشت تنتظر أبسط أوراق الجمال في امتصاصها كل هموم الحياة فانغمست متصالحة مع الصبر حتى غدت عنواناً للصبر. حلمت بالنهر فعادت تقاوم الأمواج العاتية في بحور الظلام المتكالبة، وتصارع سيوف الغدر، واستمرّت في حلمها المبني على الإيمان إلى أن نطقت بآخر كلمة: «سلّموا على الجيران».
أميرة كل فجر كانت دائماً تسلم أوراق اعتماد الليل. وهي تعمل نائمة على ماكينة الخياطة لتجمل من فصول الثوب، حيث قرّرت معه أن تتسلّم العتمة ليغيّر الصورة، والصورة جعلتها أمي غير من أجلنا، جعلتها كل النهار. لقد كان الليل يقدّم أوراق اعتماده إليها لتنثره نهاراً… لقد أحسنت بجهادها من أجلنا، ومن أجل كل من حولنا، ومن أجل الإنسان الشامخ فيها…
اليوم ماتت الغالية الخياطة أمي وجيهة حوماني… صعب فراق الروح الطاهرة، الآن انكسر عمري.
منك يا نهر الوفاء شربنا ولم نعطش
منك يا فجر الآمال تربّينا ولم نخسر
معك كانت الرحمة
وتحت أقدامك كانت الجنة
أمي… اليوم انكسر عودياليوم انكسر عمري…