أوضاع المنطقة في ضوء التطوّرات المستجدة
} عبدالله خالد
من يراجع العدوان الأميركي على العراق يلمس بوضوح أنّ الغزو تمّ بحجة وجود أسلحة دمار شامل تهدّد أمن العالم، وبالتالي فإنّ الإدارة الأميركية تريد أن تنقذ العالم من شرّ نظام يهدّد السلم العالمي وهذا ما دفعها لإستنفار الكثير من الدول لمشاركتها في الغزو الذي أخذ بعداً دولياً بعد استجابة مجلس الأمن للمزاعم الأميركية.
ولكن ما هي الحقيقة؟ من الواضح أنّ القوات الغازية بعد تمركزها في العراق لسنوات لم تجد أثراً للسلاح المزعوم على الرغم من أنها فتشت الأراضي العراقية شبراً شبراً. وهذا يعني أنّ الهدف الأميركي كان إفقاد العراق قوّته الذاتية التي يمكن أن تهدّد الكيان الصهيوني مع إمكانية تهديد المصالح الأميركية في المنطقة.
أما الهدف الثاني فهو الوصول إلى الحدود السورية وتهديد سورية بعد أن توهّمت الإدارة الأميركية أنّ سقوط بغداد سيجبر سورية على الرضوخ للإملاءات التي نقلها كولن باول للقيادة السورية التي سرعان ما رفضتها وأعلنت دعمها للمقاومة العراقية التي تواجه الغزو الأميركي.
لقد دفع الموقف السوري الإدارة الأميركية لتبنّي خيار الفوضى الخلاقة التي برزت بأكثر من مظهر وبأكثر من إسم والتي اعتمدت أكثر من أسلوب كان الربيع العربي المشؤوم من علاماته الفارقة وصولاً إلى ضرب القيادات والمفاصل وإسقاط أنظمة وتغيير قيادات ثم أرفقت بعقوبات اقتصادية وحصار مالي لتسهيل تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تبلور بعد ذلك بصفقة القرن الهادفة إلى تصفية قضية فلسطين وتوطين اللاجئين حيث هم موجودون وهذا يعني أنّ استراتيجية أميركية متكاملة تبدأ بالتطبيع مع النظام العربي الرسمي وتعمل على مواجهة كلّ من يعمل على إجهاض تلك الاستراتيجية.
ومع بروز قوى محور المقاومة وفشل أكثر من خطة لخلخلتها رغم التعامل معها بأكثر من أسلوب (اغتيالات وضرب ومواقع وقيادات…) كان لا بدّ من أن تلجأ قوى محور المقاومة إلى ابتكار أساليب جديدة عبر توحيد ساحاتها وجبهاتها على صعيد المنطقة بدءاً بإيران وصولاً إلى القدس مروراً ببغداد ودمشق وبيروت وغزة وامتداداً إلى اليمن. وبذلك أخذت المواجهة أبعاداً مختلفة خصوصاً بعد أن انتصرت سورية والعراق على الإرهاب التكفيري وكسرت قراراً استراتيجياً كان يمنع تواصلهما.
ومع فشل الأدوات في تحقيق أهداف المشروع الأميركي –الصهيوني – الرجعي رغم كلّ المعونات التي قدّمت لها (أموال، مسلحون، أسلحة، فتح حدود…) بدأ الكيان الصهيوني التدخل المباشر الذي كانت له – غالباً – نتائج معاكسة رغم عدم قدرته على تحقيق نتائج واضحة.
مع الوصول إلى هذا الوضع بدأ التفكير بتطوير أساليب العمل من قبل المنغمسين في المشروعين الذين وجدوا أنه لا بدّ من تطوير الخطط الموضوعة واعتماد استراتيجيات أكثر فاعلية وهذا يتطلب رفع مستوى المواجهة وتصعيدها بمروحة واسعة ومتعددة الجوانب – وإنْ ببطء – وهذا يفترض دخول الولايات المتحدة من جهة – بالإضافة لأوروبا التي دخلت مسبقاً – وروسيا والصين من جهة أخرى.
وتزايدت الضغوط على إيران لإجبارها على الرضوخ وتغيير سياساتها. والأمر المؤسف أنّ ردّ الفعل – وقتها – لم يكن في مستوى التهديد والضغوط التي مورست والتي لم تترافق مع قرارات تواكبها من قبل الاستهدافات الجديدة، وهذا ما أوجد بعض الخلل استفادت منه تركيا التي كانت تمارس سياسة اللعب على الحبلين بمهارة وهذا ما جمّد مسار سوتشي لفترة طويلة.
طرحت عملية اغتيال القائدين سليماني والمهندس مجموعة من الأسئلة بعد الإعلان عن أنها تمّت بتكليف من ترامب وتبني الإدارة الأميركية لها الأمر الذي يتطلب رداً موازياً لها يشكل عامل ردع لكلّ من تسوّل له نفسه الإقدام على خطوة مماثلة. وهذا يعني تحديد أهداف استراتيجية ترسم خطة طريق متكاملة تبيّن ساحات الردّ وأهدافه وتشدّد على أهمية تقوية قوى محور المقاومة إنطلاقاً من أنّ الجريمة نفذت من مطار بغداد وليس من الأراضي الإيرانية في خطوة تشدّد على أهمية وضرورة وحدة المقاومين واستمرارية نهج وحدتهم في الردّ العملي على أيّ خطر يستهدفهم.
والواقع أنّ هذه الجريمة البشعة يمكن أن تشكل فرصة لإبراز تلك الوحدة تعمّد بالدم طريق إجهاض المشروع الأميركي –الصهيوني وإقتلاع أدواته في المنطقة وهذا يفترض بالضرورة توسيع إطار الردّ بحيث يشمل وقف العربدة الصهيونية واستهداف نقاط محدّدة تضعف الأدوات وتلجم نقاط تمركز الوجود الأميركي في المنطقة.
الأمر المضحك أنّ ترامب وأركانه تعاملوا بخفة مع جريمة بهذا الحجم حين توهّموا أنه بالإمكان تمريرها دون ردّ بدليل إصرارهم على متابعة هذا النهج وتوسيعه ليعودوا بعد ذلك حين لمسوا ردة الفعل الإيرانية لتحديد حجم الردّ الإيراني المقبول منهم.
إنها العنجهية الأميركية التي تأخذ أحياناً شكل توجيه رسائل أقلّ ما يُقال فيها إنها صبيانية ظهرت مع الموفدين العماني والسويسري ويمكن أن تتسع أيضاً فيها وعود معسولة للإيرانيين إذا كان ردّهم متواضعاً وهم المعروفون بتنكّرهم لإلتزاماتهم سرعان ما رفض الإيرانيون تسلّمها مؤكدين إصرارهم على الردّ وقائلين بأنّ الشهيد سليماني قد حدّد بعضها في وصيته.
إنّ الردّ المطلوب يفترض تنفيذ استراتيجية عسكرية تستهدف الوجود الأميركي في العراق وامتداداً كامل المنطقة ومقارعة الإرهاب التكفيري بكلّ مكوناته.
علينا أن نتذكّر أنّ الإدارة الأميركية التي صنعت الإرهاب وصدرته إلى المنطقة لتنفيذ مشروعها تسعى مجدّداً لتصعيد موجة جديدة من الإرهاب الداعشي تطلقها في كلّ من سورية والعراق بإمداد ودعم أميركي كاملين وتحديداً بعد فتح معبر القائم بين القطرين الشقيقين وبوادر التنسيق الكامل على كافة الأصعدة كخطوة على طريق التكامل بين بلاد الشام والرافدين اللذين يشكلان القلب النابض لقوى محور المقاومة. وقد أصبح معلوماً أنّ الإرهاب التكفيري يتواجد بشكل مكثف في القواعد الأميركية في كلّ من سورية والعراق حيث يتمّ إعدادهم لبدء مرحلة جديدة من مراحل تنفيذ صفقة القرن.
والواقع أنّ الغطاء الأميركي للإرهاب التكفيري لم يعد يتمّ بالسر بل أصبح علنياً ويشكل النواة المستجدة لما تعدّه الإدارة الأميركية من خطط تضعف المقاومة بكلّ مكوّناتها وتثبت الكيان الصهيوني وتؤمّن استمرار الهيمنة الأميركية على ثروات المنطقة وتوصل ترامب إلى سدة الرئاسة لمرة ثانية.
الأمر المؤسف أنّ العراقيين لم ينتبهوا إلى أنّ المشروع الأميركي الذي تجسّد بالغزو كان يهدف إلى تدمير العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل تهدّد السلم العالمي لتكريس المشروع وبالتالي الوجود الصهيوني المحتلّ في فلسطين. وهذا ما سمح للإدارة الأميركية باستغلال مكونات المجتمع العراقي وتعميق التناقض بينها بهدف ضرب وحدة التراب العراقي وتحويله إلى ثلاث كيانات يمكن الإستفادة من تناقضاتها لخدمة المشروع الأميركي – الصهيوني في المنطقة وهذا ما لم ينتبه إليه العراقيون حين أعموا أبصارهم عن رؤية حقيقة المشروع وإنساق بعضهم لتنفيذ بحسن أو سوء نية دون أن يدركوا الآثار السلبية لهذا الإنسياق حين ابتعدوا عن رؤية حقيقة ما يجري متجاهلين الوقائع التي بدأت تفرض نفسها كأمر واقع يخدم بشكل مباشر أو غير مباشر المشروع الأميركي الصهيوني الذي بدأ يستفيد من تناقضات المجتمع العراقي المفتعلة ويجيّرها لخدمة أهدافه وهذا يفترض بعد جريمة اغتيال الشهيدين سليماني والمهندس أن يحزم بعض العراقيين أمرهم ويتخلوا عن الهرب من رؤية حقيقة ما يجري في وطنهم ويبتعدوا عن المواقف الرمادية التي اتخذوها حتى الآن والتي تهدّد مستقبل العراق كدولة مركزية في المنطقة لها موقع طبيعي ومركزي في محور قوى المقاومة.
المطلوب اليوم اتخاذ قرار جريء يقلب الطاولة على أعداء العراق الحقيقيين ويشدّد على أنّ القرار المطلوب تنفيذه على الصعيدين السياسي والستراتيجي مفاده أنّ الغازي الأميركي حين احتلّ العراق لم يأت لتعزيز الحرية والديمقراطية للعراقيين وحمايتهم خصوصاً أنها تزعم أنّ وجودها في العراق شرعي وأنّ الخطوات التي أقدمت عليها مؤخراً في بعض المناطق العراقية ضدّ مكوّن عراقي كان له الدور الأبرز في مواجهة الإرهاب الداعشي في العراق والهدف واضح وهو زيادة الشرخ بين العراقيين وإغراقهم في صراع داخلي يسمح للأميركي بالإستمرار في البقاء ونهب النفط العراقي.
ويبدو أنّ الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها ترامب حين أعلن أنه اتخذ قرار تصفية قائد بمستوى الشهيد سليماني إنما ارتكب غلطة عمره لأنه لم يدرك ردة الفعل التي يمكن لها أن تنهي حياته السياسية مع إمكانية بدء مسار إخراج القوات الأميركية من المنطقة.
لقد توهّم ترامب أنّ عقوباته الإقتصادية وحصاره لقوى محور المقاومة قد أضعفتهم وأنهم أصبحوا جاهزين للهرولة نحوه مقدّمين فروض الطاعة وإذا به بعد ارتكاب الجريمة يستجدي الوسطاء لتخفيف حدة الردّ معرباً عن استعداده لتقديم تنازلات في أكثر من ميدان.
جاء التأكيد على انّ الفريق سليماني هو شهيد القدس بإمتياز ليعطي القضية الفلسطينة بعدها الحقيقي ويعكس المكانة المتميّزة التي كان وما زال وسيبقى الملهم والمؤثر والفاعل في نضال المقاومين الفلسطينيين بإعتراف أعدائه قبل محبيه.
لقد حمل الشهيد قضية فلسطين وأسهم بشكل مباشر في تعزيز قدرات المقاومة وكان له دور مركزي في تفعيل مقاومتها للاحتلال الصهيوني ومدّها بأسلحة حديثة ومتطوّرة حققت قوة الردع لديها بحيث أصبح العدو يخشاها ويسعى لتقليص فعاليتها خصوصا بعد بدء مسيرات حق العودة وتشكيل قوة موحدة لفصائل المقاومة في غزة في خطوة نوعية أجهضت فعالية مسيرة التطبيع وأعاقت مسيرة تنفيذ صفقة القرن التي دعمها النظام العربي الرسمي بشكل مستتر في البداية وسرعان ما أصبحت علنية مع مؤتمر البحرين.
هذا الدور الإستثنائي الذي قام به الشهيد حظيَ بما يستحقه من إكبار وتمجيد تجسّد بمجالس العزاء التي انتشرت على امتداد التراب الوطني الفلسطيني المحتلّ والمشاركة النوعية في وداعه من قبل قيادات المقاومة الفلسطينية.
والواقع أنّ دور الشهيد لم يقتصر على دعم النضال الفلسطيني – الذي بقي مركزياً على كلّ حال – بل تمدّد ليشمل الساحات التي قاومت المشروع الأميركي – الصهيوني من بيروت إلى دمشق وبغداد وصنعاء ومناطق أخرى بحيث أصبح رمزاً للمقاومة الوطنية والقومية على امتداد الأرض العربية بحيث استحق عن جدارة لقب غيفارا العروبة.
إنّ الملايين التي شيّعت الشهيد ورفاقه في العراق وإيران والمسيرات التي شهدتها مدن كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم دليل حي على أنّ المقاومة نهج حياة، وأنّ كلّ شهيد يسقط في ساحة الشرف يستولد 100 مقاتل في تأكيد حيّ على أنّ زمن الانتصار قد بدأ وأنه لن يهدأ قبل أن ينهي الغطرسة الأميركية ويقضي على وجودها في المنطقة وهذا ما أكده المقاومون على امتداد التراب الوطني لقوى محور المقاومة.
وبديهي أن يكون ردّ المقاومين واحداً موحداً وأن يستهدف الجيش الأميركي وقواعده ومصالحه وأدواته في المنطقة.
لقد جاء الوقت لوقف البلطجة الأميركية والعربدة الصهيونية وإنهاء وجودهما بعد أن امتلكت قوى محور المقاومة الممتدة من طهران إلى القدس مروراً ببغداد ودمشق وبيروت وصولاً إلى صنعاء خصوصاً أنها حققت مؤخراً مجموعة من الإنتصارات النوعية التي قضت على إمكانية مواصلة المشروع الأميركي –الصهيوني – الرجعي تحقيق ما رسمه من خطط بموجب صفقة القرن وغيرها من المشاريع التي سبقتها والتي تجلت في إجهاض المشروع الإرهابي التكفيري في كلّ من سورية والعراق ومنع العدوان على اليمن من تحقيق أهدافه بعد أن أصبحت أراضي قوى العدوان في مرمى هجمات المقاومين الذين وجهوا ضربات مؤلمة لتلك القوى ومناطقها الستراتيجية خصوصاً أنّ هجمات المقاومين لن تتوقف قبل خروج الأميركيين من كامل المنطقة وبدء مسيرة تحرير كامل التراب الفلسطيني.