الردّ الإيراني يعمّق مأزق ترامب… انكسار هيبة أميركا وسطوتها
} حسن حردان*
لم تنتظر القيادة الإيرانية طويلاً للردّ على جريمة الجيش الأميركي باغتيال أحد أبرز قادتها ورموزها الشهيد الفريق قاسم سليماني، فما انتهت من تشييع الشهيد إلى مثواه الأخير بمشاركة شعبية قلّ نظيرها في الجمهورية الإسلامية والعالم، حيث خرج عشرات ملايين الإيرانيين في كلّ المدن في تشييعه، حتى سارعت قيادة الحرس الثوري وبإشراف مرشد الثورة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى توجيه ضربات صاروخية بعشرات الصواريخ الباليستية استهدفت قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق، قاعدة عين الأسد في الأنبار، وقاعدة أخرى في أربيل، وقد أصابت أهدافها بدقة ولم تنجح القوات الأميركية في إسقاط أيّ صاروخ منها، رغم أنها على علم مسبق بأنّ إيران ستردّ وبقوّة على جريمة اغتيال القائد سليماني، ومفروض انها قد أخذت احتياطاتها واستعداداتها لمواجهة الردّ الإيراني.. مما عكس من ناحية مدى تطوّر القدرات الصاروخية الإيرانية وتقنياتها، وعجز التقنيات العسكرية الأميركية الأحدث في العالم عن حماية القواعد العسكرية الأميركية، وهذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها الكشف عن التقنيات العسكرية الأميركية، فقد ظهر عجزها أيضاً في عدم قدرتها على اكتشاف ومنع الطائرات المسيّرة اليمنية من قصف أهداف استراتيجية نفطية في عمق السعودية..
غير أنّ الردّ الإيراني أدّى عملياً إلى توجيه ضربة موجعة لهيبة الولايات المتحدة وكسر شوكتها وزعزع هيمنتها، وأكد إرادة وتصميم القادة الإيرانية على مواجهة القوة الأميركية العظمى، مستندة إلى دعم شعبي غير مسبوق عكس توحد إيران شعباً وحرساً وبرلماناً خلف قرار الردّ وردّ الاعتبار للكرامة الوطنية، ونجحت في استعادة زمام المبادرة وردع الولايات المتحدة للمرة الثانية بعد إسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة الأحدث لديها فور انتهاكها السيادة الإيرانية، لا سيما أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي ارتبك هو وإدارته، اثر الضربات الصاروخية، ثم اضطر إلى ابتلاع الإهانة، وتصرّف وكأنّ شيئاً لم يحصل، على الرغم أنها المرة الأولى التي تقدِم فيها دولة وبقرار مسبق ومعلن على قصف بصواريخ باليستية قواعد عسكرية أميركية وتلحق بها خسائر مادية وبشرية، تكتم عليها ترامب والبنتاغون، في محاولة واضحة لامتصاص ايّ ردود فعل داخلية، وتجنّب التصعيد مع إيران، آخذاً بذلك بنصيحة كبير المحللين الاستراتيجيين ريتشارد هاس الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية وعضو بارز في الحزب الجمهوري، حيث دعا إدارة ترامب إلى اعتبار ما جرى قد جرى وعليها التوقف عن القول من هو المخطئ، وعلى الإدارة ان تبدأ بالتواصل المباشر او غير المباشر مع إيران.. وظهر ذلك بوضوح في كلام ترامب الذي استسلم للضربة الإيرانية، وعرض مجدّداً التفاوض مع طهران، والتعاون معها لمحاربة داعش، في حين انه أمر باغتيال عدد من القادة الذين هزموا داعش وأسقطوا مخططها..
غير أنّ ترامب بدا وكأنّ يلقي باللوم على حلف الناتو للتهرّب من الردّ على الصفعة الإيرانية، ما دفع صحيفة «واشنطن بوست» إلى القول: «.. بدا ترامب وكأنه يناقش مسألة الانسحاب الأميركي من خلال قوله انه يريد أن «يضطلع حلف الناتو بدور أكبر في المنطقة، وأننا لم نعد بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط»…
من هنا يبدو من الواضح أنّ ترامب وإدارته قرأوا جيداً الرسالة الإيرانية الصاروخية وما سيتبعها من تنفيذ قوى المقاومة لخطة الردّ الإستراتيجية القاضية بطرد القوات الأميركية من المنطقة، وأقله من العراق وسورية، وهو ما بدأت بالتحضير له قوى المقاومة العراقية من خلال توحيد فصائلها في جبهة واحدة لمقاومة القوات الأميركية اذا لم ترضخ لطلب البرلمان والحكومة بالانسحاب فوراً من العراق وإلغاء الاتفاقية التي كانت تنظم وجودها..
هكذا بات المسار واضحاً، على القوات الأميركية مغادرة العراق وسورية وإلا واجهت مقاومة أكثر قوة وقدرة على مهاجمتها واستنزافها بما يفوق عشرات المرات ما تعرّضت له من استنزاف بين ٢٠٠٣ و٢٠١١ عندما أجبرتها على الرحيل مهزومة بذلّ وهوان بعد تكبّدها خسائر مادية كبيرة إلى جانب الخسائر البشرية..
لهذا لم يحصد ترامب سوى الخيبة والمرارة والفشل، فهو لم يكن يتوقع ان تقود جريمته إلى زيادة مأزقه الذي سعى إلى الخروج منه عبر عملية الاغتيال، فبدلاً من أن تؤدّي العملية إلى تعزيز وضعه في مواجهة خصومه في الداخل الأميركي، ورفع منسوب شعبيته على أبواب الانتخابات الرئاسية، وإضعاف موقف الجمهورية الإسلامية الايرانية، والنيل من معنويات قوى المقاومة وجمهورها، وبالتالي خلق مناخات تساعده على تحقيق أهدافه التي يسعى إليها وهي إخضاع العراق وتعويم الهيمنة الأميركية عليه، وإجبار القيادة الإيرانية على التفاوض معه لتعديل الاتفاق النووي… فوجئ ترامب انّ شيئاً من ذلك لم يحصل، بل انّ العكس هو ما حصل، حيث ادّت الجريمة إلى توحيد الإيرانيين على نحو غير مسبوق في مواجهة الولايات المتحدة وحصول القيادة الإيرانية على غطاء شعبي شبه شامل للردّ بقوة على الجريمة الأميركية، فيما وحدت الجريمة أغلبية العراقيين الذين وضعوا جانباً التناقضات والخلافات الداخلية لصالح تغليب أولوية مقاومة الاحتلال الأميركي الغربي والمطالبة برحيلها عن العراق فوراً، فيما النواب الأميركيون بدأوا تحركاً لتحديد صلاحيات ترامب لكي لا يرتكب المزيد من الحماقات، فيما المعارضة الشعبية ضدّه ازدادت في ظلّ شعور عام بأنّ ترامب أضعف من مكانة أميركا، هذا الى جانب إضعاف هيبة سطوة القوة الأميركية، مما سينعكس سلباً كيان العدو الصهيوني بتفاقم مأزقه، وهو الذي يستمدّ قوّته من القوّة الأميركية، وكذلك يدخل الأنظمة التابعة لواشنطن في مأزق استمرارها في الرهان على القوّة الأميركية، فهم بكلّ تأكيد أصيبوا بالصدمة والهلع من ارتباك إدارة ترامب وصمتها على الضربات الإيرانية التي تندرج في سياق ردّ استراتيجي لتحرير المنطقة من الهيمنة الاستعمارية الأميركية…
إنه التحوّل الكبير في مسار الصراع مع المستعمر الأميركي وكيان الاحتلال الصهيوني، والناتج عن التبدّل الحاصل في موازين القوى لمصلحة محور المقاومة وحركات التحرر…
*كاتب وإعلامي