هل أصبحنا فعلاً في عصر «البوبانة»؟
} علي بدر الدين
دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى حكومة تصريف الأعمال لممارسة صلاحيتها كاملة كواجب دستوري، هي بمثابة رسالة متعدّدة الى كلّ من يعنيهم الأمر، وخاصة رئيسها سعد الحريري الذي عليه العودة الى لبنان والقيام بواجبه الدستوري المفروض عليه، وتوحي أنّ صفحة حكومة الاختصاصيين المستقلين قد طويت لتعثر ولادتها ويمكن وأدها قبل أن تظهر الى النور، وقد لا تبصره، وقد تكون من باب الضغط على الرئيس المكلف حسان دياب لرفع راية الاستسلام لأنّ الطريق أمامه للتأليف صعب ومعقد. وبالتالي فإنّ الرجوع عن التكليف والتأليف قد يكون فضيلة في مثل هذه الحالة، وقد تكون بداية العودة الى المربع الأول الحكومي وتشكيل حكومة تكنوسياسية ربما هي المطلوبة في مرحلة الأخطار والتداعيات التي تحصل في الداخل والإقليم وعلى خارطة العالم لمواجهة التحديات القائمة والداهمة ولن يكون بمنأى عنها لاعتباره الحلقة الأضعف.
هذا التحوّل في المواقف من تشكيل حكومة دياب لم يأت من عدم وقد تكون له أسبابه ومبرّراته لدى الطبقة السياسية، وهي موجودة منذ استشارات التكليف وسقوط المكلفين الواحد تلوَ الآخر، إلى أن رست على دياب بعد أن «طفح الكيل» ولا يمكن الاستمرار في التباطؤ والاستلشاق الذي مارسته مكوّنات هذه الطبقة التي كلّ منها يغنّي على مصالحه. وكان لا بدّ من مخرج يحرك الساحة السياسية فكان الخيار على دياب من قوى سياسية متحالفة ومن لون سياسي واحد. وهذا ما أعطى جرعة أمل اضافية بأنّ التأليف لن يتأخر، وانّ الحكومة العتيدة ستكون جاهزة وعلى مرمى حجر وبين «ليلة وضحاها». ولكن ليلها طال وأطاح بكلّ الآمال والتمنيات والرغبات لخلافات مصطنعة حيناً وشكلية أحياناً أخرى وبعناوين مصلحة الطائفة والمذهب والله أعلم وعلى كيفية توزيع الحصص والحقائب.
انّ العجز أو الفشل في تشكيل الحكومة من لون سياسي واحد أثار الشكّ حول مدى صحة الاختلاف وعدم القدرة على التشكيل، فكيف إذن يمكن أن تتشكّل حكومة على النمط التقليدي بعناوين حكومة الإنقاذ الوطني والمصلحة أو الوحدة الوطنية أو حكومة جمع شمل وطني كما صرح الرئيس بري ولكلّ فريق سياسي اتجاهاته السياسية ومصالحه وحساباته المحلية والإقليمية والدولية.
ويبدو واضحاً أنّ المستجدّ على صعيد الحكومة قد حان أوانه، ولا بدّ من التكويع والاعتراف بالخطأ والاستعجال بالتكليف والكشف عن المستور، وبأنّ تكليف دياب كان هروباً من واقع ضاغط على الطبقة السياسية، بل مزحة سمجة أو مسرحية هزلية لإرضاء الجمهور أو إشغاله عن التفكير بواقع المرّ ومعاناته التي باتت عبئاً ثقيلاً عليه، علّ هذه الطبقة تنجح بإلهائه عنها وعن ما سبّبته من أذى ومآس.
هذا هو حال اللبنانيين اليوم حيث يذلون وتضيع أموالهم في المصارف ويهدّدون بانقطاع البنزين والمازوت والغاز وانقطاع التيار الكهربائي وفقدان الادوية والحرمان من العلاج وكلها بذرائع وحجج فاسدة. والأصعب ما يكثر الحديث حوله عن أزمة رغيف الذي هو وقود الفقراء وارتفاع سعر صرف الدولار الذي انعكس غلاء فاحشاً وغير مسبوق على كلّ السلع وفقدان معظمها من الأسواق، والأزمة الى تفاقم إذا ما استمرّ الفراغ الحكومي الذي قد يطول وتكون بمثابة رصاصة الرحمة على بلد منكوب.
يمكن القول انّ الستار أسدل على تشكيل حكومة دياب وما يحصل هي رسائل له بهدف إحراجه لإخراجه من الحلبة بعد أن فشلت في مساعي التشكيل من دون الدخول في شيطان التفاصيل ومن إقناع المرجعيات السنية السياسية والدينية بدعمه ومباركته، وعوامل أخرى فتحت الأبواب مجدّداً أمام سعد الحريري أولا لإعادة تعويم حكومة تصريف الأعمال بعنوان دستوري وثانياً تكليفه بإعادة تشكيل حكومة تكنوسياسية بمشاركة الجميع ولتكن حكومة جمع شمل وطني، ولكن هل يمكن التعويل على توافق القوى السياسية عليها وهل زالت الشروط والعقد من أمامها؟ وهل يمكن لها أن تنقذ لبنان مما هي فعلته وكانت سبباً لإفلاس البلد وانهياره وتراكم ديونه؟
انّ الطبقة السياسية التي ما زالت ممسكة بزمام المبادرة والنفوذ والتسلط لا زالت قادرة على تدوير الزوايا وحماية مصالحها بعد ان سيطرت على كلّ شيء في هذا البلد. هذه الطبقة لم تؤثر فيها انتفاضة الناس ولا الجوع والألم والفقر وفي ذروة المواجهة انكفأت تحت ضغط الشارع لتعود أكثر قوة وتماسكاً وانتقاماً ولتعيد خلط الأوراق من جديد. فلمن ستكون كلمة الفصل لهذه الطبقة أم لانتفاضة الشعب الذي غاب عن الساحات من دون معرفة الأسباب والغايات.
وهنا يحضرني حكاية لسليمان الحكيم عندما جمع الطيور ووزع عليها المسؤوليات للحفاظ على وجودها وتأمين عيشها وكانت عصفورة «البوبانة» حاضرة فلم يعِرها الاهتمام ولم يكلفها بمهام لأنها صغيرة جداً وغير قادرة على تحمّل المسؤولية، ولكنها لم تسكت وسألته أين أنا من المسؤولية ولما لم تكلفني بأيّ مهام فقال لها: أريد منك عوداً «أعوج وجالس وأخضر ويابس وطويل وقصير ورفيع وسميك»، فذهبت ولم تعد ووقفت على عود تتطلع شمالاً ويميناً والى الأعلى وإلى الأسفل وهي تهزّ برأسها وأنها «أكلت الأضرب».هذا واقع حال الضعفاء والمهمّشين في هذا البلد. إننا فعلاً في عصر «البوبانة». فهمكم كفاية.