الدور الروسي في الأمن الإقليمي المستقبلي لمنطقة غرب آسيا
} سماهر الخطيب
كلّل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بدايته بأزمة دولية جديدة، تضاف إلى سجل الأزمات الشرق أوسطية، وما ينعكس من تداعياتها عالمياً والتي عنونت بالمواجهة بين الولايات المتحدة وإيران.
وكانت قد شهدت منطقة الشرق الأوسط في العقد الثاني من القرن الحالي، عودة تدريجيّة للنشاط الخارجي الروسي إليها الحامل الصفة الدبلوماسية، والتوفيق بين الأطراف وبين التناقضات على عكس النشاط الأميركي القائم على ضرب التناقضات والتفريق بين الأطراف، باعتبار أنّ روسيا تحتاج لعلاقات شراكة مع دول هذه المنطقة، حتى تتمكن من تخفيف حدة التهديدات على حدودها الجنوبية.
ناهيك عما تتميز به المنطقة لكونها مركز الثقل لخطوط الأنابيب التي تنقله أو ما يُسمّى بـ»شرايين الأنظمة الحاكمة»، والخزّان العالمي للطاقة. وهذا ما يجعلها مسرحاً للتجاذبات الجيوسياسية بسيناريوهات ظاهرها سياسي وباطنها اقتصادي.
ثوابت الاستراتيجية البوتينية
وقد عمل الرئيس فلاديمير بوتين على إعادة أمجاد عهد القياصرة من جديد، من خلال استراتيجيات براغماتية عدّة قائمة على ثوابت أهمّها: النهوض بالاقتصاد القائم بالدرجة الأولى على الاحتياط الضخم من مادة الغاز، السعي إلى عالم متعدّد الأقطاب وتكوين تحالفات إقليمية ودولية ذات طابع أمني «منظمة شانغهاي» واقتصادي «مجموعة البريكس»، مع ضرورة عدم الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية.
مواجهة عنونت مرحلة جديدة
وفي العودة إلى المواجهة الأميركية الإيرانية التي بدأت بعملية الاغتيال التي نفذتها الولايات المتحدة بحق الجنرال قاسم سليماني والرّد الإيراني بضرب الجناح العسكري الأميركي في قاعدة عين الأسد الأميركية، يبدو أنّ هذه المواجهة قد عنونت مرحلة جديدة في غرب آسيا بات معها الأمن الإقليمي على المحك، مع الوصول إلى شفير الحرب، واللعب على حافة الهاوية، ما أظهر بداية لتغيير أدوار اللاعبين الدوليين والإقليميين فضلاً عن نمو دور محور المقاومة..
حاجة أميركية للدور الروسي
وسط هذه الأجواء المتوترة واختلاف تصنيفات المواجهات المقبلة تلوح في الكواليس الدولية حاجة أميركية للدور الروسي لحماية مصالحها في المنطقة، وأيضاً حاجة «إسرائيلية» لهذا الدور الروسي «الإيجابي» لضمان عدم تغيير قواعد الاشتباك، ومن المعروف أنّ روسيا ملتزمة بأمن «إسرائيل»، كما هي ملتزمة بأمن سورية، وظهر ذلك جلياً خلال الحرب السورية واعتماد روسيا على دبلوماسية الأطراف..
ما قد يجعل من نجاح الإدارة الروسية في الحرب السورية لأن تصبح لاعباً مهماً في ضمان الأمن والمصالح، وهذا يطرح تداعيات على الحلف الأطلسي، خصوصاً في ظل التنسيق «الروسي التركي الإيراني»، فهل ستلجأ الولايات المتحدة للاستعانة بروسيا؟ وهل تستطيع روسيا أن تلعب دور الضابط لتأمين الأمن الإقليمي؟ وما هي المعوّقات والتحديات والتداعيات في ظل لعبة المحاور الدولية والإقليمية؟
شروط جديدة لتحديد مكانة اللاعبين الدوليين
إنّ التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران، على أرض دولة ثالثة، لا تتسم بالمخاطر الأمنيّة الجديدة وحسب، إنما تخلق شروطاً جديدة لتحديد مكانة اللاعبين الدوليين في السياسة الشرق أوسطية.
ومن أولى النتائج المحتملة لهذا التصعيد هو تعاظم الدور الإقليمي لروسيا، التي تتحوّل، وبغض النظر عن مشيئتها، إلى المستفيد الرئيس من المواجهة الأميركية – الإيرانية وتعزيز مكانتها، كما استفادت سابقاً من الانسحاب الأميركي في سورية، فأصبح الرئيس الروسي حينها الوسيط رقم واحد بين الحليف السوري والأكراد وتركيا. وقد أضاف بعداً دبلوماسياً إلى أبهته، فأصبح حَكَم «الفوضى» الأميركية، مع جدارته بإعادة التفاوض وتبديل أحجار الشطرنج.. فبفضل وجود روسيا في الشرق الأوسط على وجه التحديد، انخفض خطر نشوب حرب جديدة إلى أدنى حد، وهذا أهم مكتسبات روسيا قبل 2020، ناهيك عما ستكسبه في المستقبل سواء القريب أو البعيد..
ترامب يحسّن وضعه الداخلي بقرار «مجنون»
وفي العودة إلى عملية اغتيال الجنرال سليماني على يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد كانت تسجل كأمر داخلي أميركي، كما العادة الأميركية في سياستها الخارجية خدمة لسياستها الداخلية. وبالتالي لتسجيل هذه العملية ضمن البرنامج الانتخابي لترامب، وتحسين وضعه الداخلي سياسياً، حتى لا يجد نفسه في موقع سلفه «جيمي كارتر» الذي احتُلت السفارة الأميركية في طهران في عهده في العام 1979، وبالتالي يخسر الانتخابات، وهذا القرار المسجل في خانة «الجنون» السياسي مع ما رافقه خطر الانزلاق إلى حرب كبيرة، قد أعطى الإيرانيين سبباً لمهاجمة الأميركيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. إنما الوجود الروسي يستبعد احتمال وقوع مثل هذه الكارثة التي لن تكون تكراراً لإطلاق النار في الـ 28 من حزيران 1914 في سراييفو.
روسيا تلعب دور «مدير أزمات»
بالرغم من الخلافات العميقة حول القضايا الأساسية للتنمية العالمية إلا أن روسيا تمكّنت من الاتفاق على القواعد العامة لـ»اللعبة» على الساحة العالمية. وهنا تكمن الفائدة الرئيسية التي تتجاوز حدودها روسيا إلى العالم أجمع..
وبالتالي سيتعيّن عليها لعب دور «مدير أزمات»، إنما لن يقتصر دورها على حل المهام التنفيذية الحالية بالرغم من أهمية هذه المهام في مناطق مختلفة من العالم، إنما ومع تبلور نجاح دبلوماسياتها ونشاط علاقاتها وتعاونها مع الدول ستركّز على تطوير مبادئ ونماذج وآليات جديدة للتعاون الدولي في المستقبل التي ستكون حجاراً مرصوفة في تعبيد الطريق نحو نظام عالمي جديد، ستلعب السياسة الخارجية الروسية دوراً هاماً فيه..
تجارب في السياسة الخارجية الروسية
اكتسبت روسيا تجربة فريدة من نوعها في الدبلوماسية متعددة الأطراف، في سورية، الأمر الذي جعلها قادرة على الجمع بين المواقف المتعارضة، والتقليص من حدّة المواجهات، فتمكنت من تحقيق نجاح هام في سورية، رغم تنبؤ العديد من الأطراف بعدم قدرتها على فعل ذلك.
ويتضح عقب هذا النجاح أنها ستحاول توسيع نطاق نفوذها لتشمل منطقة الشرق الأوسط بأكملها، مع استمرار العمل على تطوير ودعم مفهومها لنظام الأمن الجماعي الإقليمي المطلوب في الشرق الأوسط، ودعم مفهوم السيادة وعدم التدخل في الشؤون السيادية للدول.
كما تمكنت روسيا وحلفاؤها في آسيا، من اتخاذ خطوات جادة والاتجاه نحو بلورتها لإرساء نظام ديمقراطي منفتح جديد للمؤسسات الدولية.
ومن بين أهم إنجازاتها «الآسيوية» تفعيل التنسيق ثلاثي الأطراف بين روسيا والهند والصين، متماشياً مع تعزيز مجموعة «بريكس» وتوسيع منظمة «شنغهاي» للتعاون، إلى جانب التقدم المثير للإعجاب في الجمع بين تطوير الاتحاد الاقتصادي «الأوروآسيوي» والمشروع الصيني «حزام واحد، طريق واحد».
ويبدو جلياً، أن النماذج المؤسسيّة الجديدة تكتسي أهمية كبرى عالمياً. وما يؤكد على دورها الريادي في توسيع مشاريع هذه المنظمات، أنّها ستستضيف مؤتمري قمة «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» للتعاون للعام الحالي 2020.
ناهيك عن كون العلاقات الروسية الصينية باتت عاملاً مؤثراً في منظومة العلاقات الدولية بأكملها، لذا ستستمر روسيا في زيادة مستوى التنسيق مع الصين على الساحة الدولية، بما في ذلك في مجال الأمن سعياً وراء تعزيز سلطتها ونفوذها في الشؤون العالمية.
فيما تمكّنت من تحقيق بعض النتائج الإيجابية، على صعيد علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، فقد عادت روسيا إلى الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، بعد ما شهدته هذه العلاقات من توترات. واستأنفت قمة «نورماندي» عملها للتسوية في دونباس، وتمّ إحراز تقدّم في المحادثات الثلاثية بين أوكرانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي حول قضايا الطاقة.
وبخروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي، ستدخل أوروبا مرحلة جديدة من التفكير العميق في نموذج التكامل الإقليمي، مع ما يشمله هذا التفكير من مجالات استراتيجية وقضايا جادة وملحّة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية والمشاكل الأمنية. وعلى هذا الأساس، يُعتبر الحوار السياسي حول العلاقات المستقبلية بين روسيا وأوروبا في جميع المجالات الاستراتيجية من المواضيع الحساسة، ولتحقيق المصلحة الأوروبية يتوجب على الأوروبيين أن يبدأوا بهذا الحوار، في أقرب وقت ممكن.
أما في ما يخص العلاقات مع أفريقيا، فقد شهدت العلاقات الروسية الأفريقية طفرة حقيقية، إذ لم تعكس قمة «سوتشي» الأفريقية الروسية الاهتمام المشترك في تطوير التعاون الثنائي فحسب، بل كشفت أيضاً عن إمكانيات ترسيخ التعاون أيضاً.
أما الولايات المتحدة التي لطالما تؤجج الصراعات وتراهن على التحالفات وتناقض التعهدات، فإنها تشهد فترة الحملة الانتخابية لسنة 2020 التي بدأت على قدم وساق، ما يعني أن هذه الفترة ليست مناسبة للشروع في إصلاح العلاقات الثنائية. رغم حاجة أميركية لحضور روسي يحمي مصالحها الشرق أوسطية، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن على موسكو أن تأخذ قسطاً من الراحة من هذه العلاقات في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية وتغلب الولايات المتحدة على الأزمة السياسية العميقة.
ويظهر التاريخ أن انتظار «اللحظة المناسبة» يمكن أن يستمر إلى الأبد، لذلك، إذا تمت اليوم إعاقة الاتصالات مع الفرع التنفيذي للولايات المتحدة، فستحتاج روسيا إلى تعزيز نشاطها على أسس أخرى، بما في ذلك البحث عن مسار ثانٍ للعلاقات الثنائية. وربما تستثمر روسيا عملية الاغتيال الأميركية لتحسين علاقتها الثنائية مع الولايات المتحدة عبر نجاحها في تهدئة الحليف الإيراني..
وفي إيران ظهر جلياً ترسيخ العلاقات الروسية الإيرانية التي نضجت مع الحرب السورية.. فيما يتوجب على السياسيين المعاصرين، مثل أسلافهم، إدراك حجم مسؤوليتهم التاريخية وإظهار حكمة رجل الدولة لحل المشاكل الملحّة في عصرنا الحالي.
ومع تركيا رغم مواربة الأتراك مراراً إنما نجحت روسية في إدارة علاقاتها مع تركيا وترسيخ حضورها الذي توّجه مشروع السيل الشمالي التركي مؤخراً..
فرصة روسيا لإظهار قدراتها
ورغم ما يمكن أن تواجهه روسيا من مشاكل خارجية لكنها أثبتت مهاراتها في إدارة الأزمات بشكل فعال، ومواجهة أخطر التحديات في الأمن الإقليمي والعالمي. وإلى جانب هذه المهارات، تتمتع روسيا بفرصة لإظهار قدراتها كطرف مستعد لتصميم مكونات فردية وجماعية لآلية معقدة للنظام العالمي الجديد.
والجدير بالذكر، أنّه وخلال العام الحالي، ستحيي روسيا الذكرى الـ 75 للنصر في الحرب الوطنية العظمى والحرب العالمية الثانية. ونستذكر هنا أنّ روسيا، تمكنت في العام 1945 من الاتفاق على القواعد العامة للعبة على الساحة العالمية، وإنشاء نظام كامل لمؤسسات الدولة للحفاظ على الاستقرار العالمي والإقليمي، هذا الاتفاق تمّ بالرغم من الخلافات العميقة حول القضايا الأساسية للتنمية العالمية. وبالتالي إحياء هذه الذكرى سيعيد معه أمجاداً سابقة بلورت نظاماً مستقراً.
القوة العالمية الوحيدة لعقد جولات دبلوماسية استثنائية
بشكل عام، يواجه المجتمع الدولي في الوقت الراهن تحديات لا يمكن مقارنتها بتحديات منتصف القرن الماضي. لكن النظام العالمي الحالي تمكن رغم عيوبه من خدمة الإنسانية لعقود، لذلك، وروسيا هي القوة العالمية الوحيدة التي لديها ما يكفي من القنوات لعقد جولات دبلوماسية استثنائية، متعددة الأطراف بمشاركة لاعبين عالميين وإقليميين رئيسيين.
ومن الأمور ذات الدلالة الرمزية، أن الرئيس فلاديمير بوتين، في أول زيارة خارجية له في العام الجديد، بعد أيام قليلة من اغتيال قاسم سليماني، اتجه إلى الشرق الأوسط، حيث زار دمشق أولاً ثم اسطنبول.
كما طرح موضوع الشرق الأوسط في المحادثات بين فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في موسكو. كما ظهر الحراك الدبلوماسي الروسي في الملف الليبي وكذلك الإيراني واليمني ما يؤكد نجاعة روسيا في إدارة الأزمات وسيادتها للموقف وفق استراتيجيتها القائمة على التوفيق بين المصالح وليس ضرب المصالح. هذا النجاح ربما سيجعل منها ضامناً للمصالح الأميركية في المنطقة ناهيك عن كونها صمام أمان المنطقة من التدهور نحو الحرب لما تملكه من قدرة على التأثير بواسطة التعاون المتبادل والثقة المتبادلة مع الدول. إلى ذلك، فإذا قبل حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون بدور دول أخرى، مثل الصين، التي لا تتمتع تقليدياً بتأثير إقليمي كبير، فقد يصبح دور روسيا مختلفاً من حيث المبدأ.
دور محفوف بالمخاطر
في الخلاصة، تحتل منطقة الشرق الأوسط مكانة جيوسياسية مميّزة في السياسة الخارجية الروسية، ومردُّ ذلك إلى ارتباط بقاء روسيا الاتحادية وكيانها بهذا الشرق خصوصاً، بعد المحاولات المستمرّة من طرف الدول الغربية وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو على إضعافها ومنعها من استعادة مكانتها في النظام الدولي.
وهذا ما تعمَّقت في إبرازه وثيقة الأمن القومي الروسي، من هنا تركَّزت السلوكيات الخارجية الروسية في المنطقة باتجاه دول محور المقاومة وفي مقدّمتها سورية وإيران، لتخترق سياسة العزل المطبَّقة ضدها.
وبالتالي فإن التداعيات بين الدور والوقائع المستجدة للأمن الإقليمي المستقبلي للمنطقة بعد الاصطفافات الجديدة سيكون محفوفاً بمخاطر اندلاع حرب جديدة، إلا إذا كانت هناك تسويات سياسية مشروطة بضمان تأمين مصالح الأطراف والتوفيق بين البراغماتية الأميركية رغم المغامرة الخطرة بارتكاب الاغتيال، والبراغماتية الإيرانية بالاستفادة المطلقة من التداعيات بنتائج متقدّمة إعلان محور المقاومة الحرب على أميركا لإخراجها من المنطقة.. وهذه التسويات ستتبلور إما قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية بفترة وجيزة أو بعدها وتظهر روسيا مرتكز الضوابط للمرحلة المقبلة كي لا تذهب المنطقة إلى حرب ولتأمين المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وإيران والمصالح الداخلية لدول المنطقة..