مُعجم المُصطلحات ودلالات التكثيف
} أمين الذيب*
التكثيف، أحد منطلقات الأدب الوجيز الفكريّة؛ ونقطة الارتكاز في العمل لابتكار الزمن الأدبيّ التجاوزيّ، الذي قطعنا أشواطاً في التنظير النقديّ لتأصيل النوع وتأصيل المُصّطلح، تأسيساً لإنجاز الهويّة التجاوزيّة.
لا زالت النظرة النقديّة لمفهوم التكثيف ودلالاته مُلتبِسة، حيث يختلف تفسيرها باختلاف المدارس النقديّة، وباختلاف المفاهيم بين ناقدٍ وآخر والخلفيات الثقافيّة التي ينطلق منها في مُعالجات النصّ النقديّة، ممّا أدخلنا في متاهات مُتشعِّبة منها الرغائبيّ والإسقاطيّ انعكست سلباً على النتاج الأدبيّ لناحية التفريق بين الغثّ والسمين، وكذلك كيف تتمثّل مفاهيم التكثيف في فهم الشاعر أم الكاتب أو المُتلقّي، فلاختصار في اللغةِ وإنتاج النصوص الشعريّة أم السرديّة القصيرة، يفترقُ افتراقاً جوهريّاً عن التكثيف، المسألة تقع في الّلغةِ والقدرة على استنطاقها وابتكارها، بمعنى أن اللغة كائن حيّ تساوق الإنسان والحضارة بحركيّة تطوريّة – كيفيّة – توليديّة، فالاتساع الداخلي في اللغة هو كيفيّة استعمال الشاعر لتفجّرات طاقة المفردة ودلالاتها المتوخاة في خياله دون أي تغيير صرفي تركيبي. بهذا المعنى يتبلور مفهوم الانزياح في اللغة التي تتصل عندئذ بالتكثيف الى مداه المعنوي الأقصى. هذا وقد أوغل الكثير من الّلغويّين وأكثرهم اتساعاً في التدقيق كان تشومسكي الذي أولى مسألة القدرة والإمكانيات التوليديّة في اللغة، خاصّة اللغة الشعريّة الفنيّة وتوظيفها لدلالات المُفردة الانزياحي, لذلك نجد أن الضرورة تقضي بفتح مروحة الحوارات النقديّة لمفهوم التكثيف كحاجة لتطور الفكر الإنساني – الحضاري – التواصليّ بواقعه كتلبيةٍ للحاجات الماديّة والنفسيّة والشعوريّة التي يُمليها سياق التطور الإنسانيّ وتطور المفاهيم والرؤى الناجمة عن التوالُد الدائم الحدوث في إنتاج التراكيب الّلغويّة وصياغة الجُمل.
هكذا تتجلّى اللحظة الشعوريّة عند الشاعر لتبتكر معاني غير مؤتلِفة مع المعاني الوضعيّة للمفردة، حيث تُحيلها الى أنماط دلاليّة مُغايرة. وهذا ما اصطُلِحَ عليه بمصطلح الانزياح في الّلغة، أي انزياح الّلفظ عن معناه، أي خلق علاقات جديدة بين المُفردة ومعناها الجديد المُبتكر، وبذلك لا تقتصر الومضة على الانزياح في الّلغة حيث لا تكتمل جدواه إلّا بالتكثيف الذي يُنجزه خيال الشاعر الإبداعيّ ليُحقق الدهشة.
لذلك نجدنا أمام مُعضلة تؤدّي الى طرح السؤال الاستنطاقي التالي، والذي كان الشغل الشاغل لفريق الأدب الوجيز منذ أكثر من خمس سنوات، هل استنفد الخيال السائد مداه الأقصى في سبر أغوار المكنون والغامض في دوّامةِ الكون السحيق، وهل ابتكار هويّة تجاوزيّة يُفضي الى ضرورة ابتكار خيال تجاوزيّ يُحدِثُ اتصالاً بالأبعاد القصيّة المُكتفية بغموضها وكينونتها التي نعتقدها لا زالت تستقطبُ شغفنا. وهذا ما يُنظّر له الأدب الوجيز، أيّ، ما بعد الخيال السائد، كمذهب أدبيّ جديد.
هذه التوطئة أو التمهيد يقودنا الى استنتاج كيفيّة الرّبط بين التكثيف والمُصطلح، وما هي العلائق الّلغويّة بينهما، وهل من سببٍ لازدياد الحاجة الى مفردات تتنامى بدافع الحاجة الى تشكُّلات جديدة للمعنى بمخيّلة الشاعر، وإذا كان هذا يحدث في الّلغة الواحدة، فكيف إذا أضفنا اليه مسألة التلاقح بين الّلغات، وفي الّلغة العربيّة الكثير من المُصطلحات الداخلة اليها والمُعرّبة عن لغاتها الأصليّة تعريباً نمطيّاً أكاديميّاً قد يكون في كثير من الأحيان أو مُعظمها خالياً من الحيويّة الفلسفيّة وأبعادها ودلالاتها ومضامينها.
وبناءً عليه تبرز الحاجة للعمل على ابتكار معجم المصطلحات المُتحرر من الإيحاء والاقتباس عن الغرب الغني بمصطلحاته الفكريّة والنقديّة والعلميّة، وهذا يتطلّب جهوداً ودراسات مُعمّقة كان يُفترض أن تساهم في بنائها المعاهد والكليّات والجامعات والنُقّاد.
لا أرغب هنا في طرح الأسباب والعوامل النفسيّة التي أعاقت وتُعيق قدرتنا على تجاوز السائد الذي تختلط فيه الإيديولوجيا باليقين، ممّا حال دون بلوغنا النقديّ المؤسس لمدارس نقديّة ترتكز على فكر فلسفي تجديدي كما حدث عند أرسطو في التجنيس أم في أزمان الدادئيّة والرومنسيّة والسورياليّة وسواها، فاكتفينا باعتماد هذه المدارس والتنظير لها وإسقاطها على أدبنا وثقافتنا إسقاطاً زجريّاً لسدّ ثغرة الفراغ المُدوّي الذي أوقعنا أنفسنا فيه عن قصد أو غير قصد.
إن تسارع الزمن الفكري مُقابل خمولنا الإبداعي هو ما يدفعنا للحضّ على مشروع معجم المصطلحات المتخصّص في نقد النصوص البلاغية – الأدبية – النثرية.
هناك وجهات نظر متعددة تطرقت الى مفهوم المصطلح، هناك مَن اعتبرها كلمات مِفتاحية توضح الفكرة ليُختصر بها الكثير من الشرح..
والبعض ينظر الى المصطلح على أنه «عبارة عن اتفاق يقوم على تسمية الشيء باسمٍ ما ينقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من معنى لُغَوي إلى آخر؛ لمناسبة بينهما».
وقيل: إن الاصطلاح اتفاق طائفة على اللفظ بإزاء المعنى.
وقيل: إخراج الشيء من معنى لُغوي إلى معنى آخر.
وهناك مَن يرى المصطلح على أنه رمز لُغوي يتألَّف مِن الشكل الخارجي والتصور.
وعليه؛ فالمصطلح هو كلمة أو مجموعة من الكلمات، تتجاوز دلالتها اللفظية والمعجمية إلى تأطير تصورات فكرية تقوى على تشخيص وضبط المفاهيم.
نحن نرى الى المُصطلح على أنه الشيفرة الدلاليّة التي ترمز وتوصّف بكلمة أو أكثر فكراً نقدياً فلسفياً بعد إخضاعه للدرس والتمحيص والنقد، بعد أن تموضع في الذائقة الأدبيّة وأثبت حضوره باعتماده كنوع أدبي جديد من مجموعة من الأدباء والشعراء، فيصبح لزاماً أن يتخذ صفته المعنويّة الدّالة عليه دون لبس أو إبهام فيكتسب شخصيته من المُسمّى – المُصطلح، كأن تقول السورياليّة أو الأدب الوجيز الخ.
*مؤسس ملتقى الأدب الوجيز.